سرديات

ذاكرة جدران يناير.. سرديّة بصريّة للثورة

بعد مرور أحد عشر عامًا على انطلاق ثورة 25 يناير ضد نظام الحكم في مصر، تشكّل اليوم هذه الثورة مرحلة تاريخية ذات أهمية كبيرة في الوعي الجمعي العربي بعامّة والمصريّ بخاصة، بمعنى أنها تحتل مكانة “الذاكرة الجمعية” التي بقيت عصيّة على الامّحاء رغم ما واجهته من محاولات قمع وتشويه والتفاف؛ ترتبط بهذه الذاكرة تحوّلات نتجت عن قيم جديدة أفرزتها الثورات العربية عامة، لعل من أبرزها السقوط الفعلي لصورة الديكتاتور، وما يرتبط بها من أدوات سيطرة، في المخيّلة العربية الجمعية.

تحمل جدران الفضاء العام في مصر الذاكرة ذاتها المرتبطة بثورة يناير ومطالبها وأهدافها؛ فبالموازاة مع خروج الجماهير إلى الميادين والشوارع مطالبةً بإسقاط النظام، سرعان ما ازدحمت الجدران المصرية بشعارات ورسوم تتناغم مع أهداف الثورة وأحداثها وتحولاتها.

بل إن التحول الذي شهده الفضاء البصري العام بعد اندلاع الثورة، من جدران خالية إلا من بعض الإعلانات والشعارات الدينية والرسومات المتعلقة بمناسبات دينية، إلى ما يمكن تسميته “بمتحف مفتوح” للثورة يقدم عبر الجدران سردّيّته البصرية لها، يُعدّ واحدًا من النتائج الهامّة لثورة 25 يناير، والتي أتت ضد نظامٍ منعَ العديد من أشكالِ التعبير والنقد والاحتجاج السياسي، ومن بينها الغرافيتي.

بمعنى أن الثورة في الميادين شهدت لها مرادفًا على الجدران، بانطلاق ما يمكن تسميته بثورة الغرافيتي العربية، كما هي الحال في تونس وسورية أيضًا، بعد اندلاع الثورات فيهما.

 

  • الغرافيتي ـ وثيقة بصرية تاريخية

وَثّقَ الغرافيتي الثوري المصري جميع الأحداث التي مرت بها مصر خلال الثورة، وبذلك أصبحت الجدران، بل وجذوع الأشجار وأرضيات الشوارع والميادين وأسقف محطات مترو الأنفاق، أشبه بكتاب بصريّ مفتوح يسرد عبر صفحاته حكاية الثورة بأحداثها وقضاياها وشخوصها، سواء كانوا شهداء ومعتقلين أو شخصيات سياسية وعسكرية.

في الأيام الأولى من الثورة، انتشرت الشعارات والرسومات التي طالبت بسقوط النظام. وبعد نجاح اعتصام الثمانية عشر يومًا بخلع مبارك وشخصيات أخرى في الحكومة المصرية، شهدت الجدران انتشارًا وتطورًا لرسومات وجداريات وشعارات تخطيطية عبّرت عن الصحوة الشعبية والفرح بالانتصار المرحلي للثورة بسقوط رموز النظام، وعن الشعور بالفخر، وصوّرت اجتياز الشبان المصريين حاجزَ الخوف وتحرّرهم من القيود وتحولهم إلى ثائرين.

  • “الشعب لم يسقط النظام”!

غير أنه وبعد تنحّي مبارك وجدت الثورة نفسها أمام تحدّيات أكثر صعوبة من إسقاط رموز النظام، من بين ذلك الفساد المستفحل في المؤسسات الرسمية، والسياسات الإعلامية المنحازة للرواية الرسمية للدولة كما هي الحال في عهد مبارك، بالإضافة إلى السياسات التي اتبعها المجلس العسكري تجاه المتظاهرين خلال الأحداث التي تلت التنحي. بالموازاة مع ذلك، وُجِد الغرافيتي في قلب المعركة التي تستهدفُ استكمالَ تحقيق مطالب الثورة.

كان من بين التحديات التي واجهتها الثورة الفوضى والانفلات الأمنيّ الذي بدأ منذ “جمعة الغضب” (28 يناير 2011)، واستمر في الشهور اللاحقة على التنحّي. أدى هذا الوضع إلى اندلاع أحداث اعتبرت “طائفية”، لما تخللها من اعتداء على المسيحيين وعلى الكنائس.

تلك الأحداث كانت بدورها بمثابة محفّز لأقباط مصر لتنظيم تظاهرات واعتصامات طالبت بالمساواة بين مواطني الدولة والحفاظ على الكنائس. كان ذلك جزءًا من الحراك الثوري الذي نبذَ العنف الطائفي ونادى بالتكاتف بين المسيحيين والمسلمين، وهو ما تناوله الغرافيتي أيضًا من خلال رسومات أكّدت على مبادئ الوحدة الوطنية والمساواة، وعلى جماليات التنوّع الديني في الهوية المصرية.

  • “يسقط حكم العسكر”

كان التحدّي الأكبر الذي خاضته الثورة وما أنتجته من غرافيتي، هو مناهضة المجلس العسكري الحاكم للبلاد في مرحلة ما بعد التنحّي، والذي حمّله الناشطون مسؤولية الانفلات الأمني والتأخر في محاكمة رموز الفساد وعدم محاكمة الكثير منهم.

كما أدت أحداث كل من: “كشوف العذرية”، و”مسرح البالون”، و”ماسبيرو”، و”محمد محمود”، و”مجلس الوزراء”، و”بورسعيد”، و”العباسية” لاحقًا، إلى تصعيد الصراع بين ناشطي الثورة والمجلس العسكري، والذي اتُّهِم أعضاؤه في التسبب بقتل المتظاهرين وتعذيب المعتقلين وتقديمهم إلى محاكمات عسكرية.

في ظل الحكم العسكري كذلك، انتهجت وزارة الداخلية السياسات القمعية ذاتها تجاه المتظاهرين خلال الأحداث المختلفة، ما تسبب بسقوط ضحايا بين المتظاهرين، بين شهداء وجرحى ومعتقلين، ما أكّد بدوره الشعور العام بين الناشطين أن الثورة لم تقم سوى “بتغييرِ وجوهٍ في النظام”، فالسياسات القديمة ذاتها ما زالت متبعة في مختلف مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. 


بالموازاة مع مسار الثورة على الأرض، انتقلت الجدران إلى المواجهة ضد سياسات المجلس العسكري، فانتشرت رسومات وجداريات وشعارات تخطيطية طالبت المجلس العسكري بتسليم السلطة إلى مدنيين، بل وطالبت بمحاكمة أعضاء المجلس وعلى رأسهم المشير طنطاوي، القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك. بالإضافة إلى رسومات وثّقت ممارسات جهاز الشرطة ضد المتظاهرين.



 

  • الجدران ـ ساحة معركة

تحوّل الغرافيتي المصري خلال الثورة إلى حركةٍ منظّمةٍ وواسعة نُظمت خلالها العديد من الفعاليات والحملات للرسم على الجدران، خاصة في شارع محمد محمود الذي شهد العديد من الاشتباكات بين المتظاهرين وأجهزة الدولة المختلفة، وتحوّل برسومات جدرانه إلى أشبه بِمتحف للثورة المصرية، حتى قامت محافظة القاهرة في 19 أيلول/ سبتمبر 2012 بحملة إزالة شاملة لجميع الرسومات التي غطّت جدران الشارع، ما اعتبره الناشطون وفنانو الغرافيتي سياسة ممنهجة تهدف إلى محو “ذاكرة الثورة”، فقاموا بدورهم مباشرة، وفي يوم الإزالة ذاته، بمعاودة الرسمَ على الجدران المطليّة.


لا شك في أن الغرافيتي الثوري المصري شكّل أحد أهم أدوت التعبير والاحتجاج للشباب الثائر، فأصبح كفنّ بذاته في دائرة الاستهداف من قبل أجهزة الدولة، وذلك عبر الإزالة الفورية للرسومات ومحاولة اعتقال من يمارسونه أو تكليفهم بغرامات مالية. في تلك الظروف، اتخذ العديد من فناني الغرافيتي المصريين أسماء مستعارة تحسبًّا من القبض عليهم أو رفع قضايا ضدهم بتهمة “تخريب الممتلكات العامة”.

لقد كان الغرافيتي المصري بمثابة إعلام الثورة المضادّ والمناهض للإعلام الرسمي الذي استمر يتبع سياسات تغيير الحقائق خلال تغطيته للأحداث، فكما شكّلت مواقع التواصل الاجتماعي إعلامًا شبابيًا موازيًا خلال الثورة، كان الغرافيتي هو الوسيلة الإعلامية الأكثر فعالية في الكشف عن الحقائق نظرًا لمكانه ـ الشارع العام ـ حيث تصل رسائله إلى كافة شرائح المجتمع.

لقد مثل الغرافيتي خلال الثورة المصرية وثيقة تاريخية للثورة وذاكرتها التي كان يتمُّ محوها باستمرار، ثم يعاود الناشطون الرسم مرة أخرى، حتى تحولت الجدران إلى ساحة “معركة” مستمرة بين الرسم والإزالة، فالجدارُ الواحدُ قد يتكرر عليه الرسم عشرات المرات كتَحدٍّ من قبل الفنانين لفعل الإزالة.


 

  • المرأة ثورة

كان من بين القضايا التي اهتم بها الغرافيتي الثوري المصري تلك المتعلقة بالمرأة ومكانتها ودورها؛ إذ انتشرت الكثير من الرسوم المناصرة للمرأة والتي تعلي من قيمة دورها في الثورة وفي المجتمع، وتهدف إلى التوعية الشعبية حول هذا الدور، وإلى تغيير الصورة النمطية التقليدية والمحافِظة عن المرأة.

صوّرت بعض الرسوم المرأة كمرادف للثورة، “الفتاة” الشامخة والصامدة، وكمرادف للوطن ــ الأرض التي تمنح الخصوبة والحياة. انتشرت تلك الرسومات بشكل كبير بعد أحداث “كشوف العذرية”، وأحداث “مجلس الوزراء”، وحادثة “فتاة التحرير”، لما تضمنته هذه الأحداث من اعتداء على الفتيات، وتحرّش وضرب واعتقال، وكردّ فعل على استنكار البعض تواجدَ الفتيات في ميادين الاحتجاج والتظاهر.

  • غرافيتي “الألتراس”

لعب مشجّعو أندية كرة القدم في مصر دورًا بارزًا في مشهدية غرافيتي الثورة المصرية، وكان شباب الألتراس من المبادرين في نشر ثقافة الغرافيتي في مصر في مرحلة ما قبل الثورة، حيث استخدموا الجدران للتعبير عن أنفسهم وكإعلام مضاد للإعلام الرسمي الذي هاجمهم ووصفهم بـ”المخرّبين”.

طوّر شباب الألتراس مع الوقت مهاراتهم في الغرافيتي، وتدفقت رسوماتهم بشكل أكبر بعد الثورة، لكن أصبحت رسوماتهم ذات مضامين سياسية أكثر وضوحًا ومباشَرة من ذي قبل، لما تنطوي عليه من قيم ثورية وتحدٍّ للسلطات، خاصة وزارة الداخلية والمجلس العسكري.

تميزت رسوم شباب الألتراس بألوانها الغنية والصاخبة وبأحجامها الكبيرة. ولا تحتوي تلك الرسوم عادة على رموز من الثقافة المصرية الدينية أو من الفن المصري القديم، بل لها رموزها الخاصة التي تمثل أندية كرة القدم وتلك التي تستلهمها من الثقافة الرياضية للشباب في مصر.

    • وبشكل عام فإن رسوم شباب الألتراس صورت العالم الخاص لهؤلاء الشبان، وتمحورت بعد الثورة حول دورهم فيها وأكدت على القيم الثورية المختلفة.

 

 

  • روافد الغرافيتي المصري

شكل غرافيتي الثورة المصرية وثيقة تأريخية للثورة انطوت على غِنًى وتنوّعٍ مضاميني وبصري وأساليبي استلهمته من الثراء التاريخي والبصري للثقافة المصرية. فهو يحشد في رسائله ورسومه الإرث الثقافي المصري كله، بمكوّناته من الثقافة الشعبية والعربية والإسلامية والقبطية.

استلهم الغرافيتي المصري كذلك من الشعر العربي القديم والحديث، ومن أشعار الثورة المصرية، ومن الثقافة الشعبية المصرية، ومن الخط العربي التقليدي ومن زخارف الفن الإسلامي، ومن الثقافة الشبابية الرياضية للشباب كما في رسوم الألتراس.

وظّف فنانو الغرافيتي كذلك صور مشاهير الفن المصري ومقولات من السينما والأغاني المصرية في رسومهم لنشر مبادئ مختلفة وللتأكيد على قيمٍ ثورية. كما استند غرافيتي الثورة المصرية بشكل كبير إلى الإرث المصري القديم، فاستلهم مواضيع ورموزًا وأشكالًا وأساطير ونصوصًا من الفن المصري القديم، تم إحياؤها وإعادة إنتاجها بما ينسجم والواقع السياسي المعاصر الذي فرضته الثورة. 

لا شك في أن الغرافيتي الثوري المصري شكّل إضافةً أساسيةً وغنيةً إلى مشهدية الغرافيتي العربي، فهو يتقاطع مع تجارب الغرافيتي في البلدان العربية الأخرى، بالعناصر المشتركة في الثقافة العربية، من دين ولغة وخطوط تقليدية وزخارف إسلامية، وهموم وقيم مشتركة مثل المقاومة من أجل الحرية وقيمة الاستشهاد وغيرها، ويتميّز في نفس الوقت بطابعه المصري الخاص المُستلهم من الثقافة المصرية الشعرية والفنية والرياضية ومن الإرث المصري القديم.

والغرافيتي العربي بدوره، ورغم تميزه في كل بلد عربي بسمات خاصة بثقافة هذا البلد، إلا أنه يحتوي على سمات مشتركة من الممكن ملاحظتها في رسومات من مختلف البلدان العربية، تلك السمات المشتركة هي: ثقافة المقاومة، والإعلاء من قيمة الاستشهاد، والعدائية تجاه السياسات القمعية للأنظمة، ومناهضة الكيان الصهيوني (كما في فلسطين وبلدان عربية أخرى تناهض دولة الاحتلال من خلال الجدران)،

والجدل والتعارك عبر شعارات ورسومات الجدران بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، والاستلهام من الشعر العربي الشعبي والحديث والقديم، ومن الفن الإسلامي بزخارفه وخطوطه، ومن الإرث الديني المسيحي. ما سبق ذكره كلها سمات تميز الغرافيتي العربي وسط مشهد الغرافيتي الغربي والعالمي.


أخيرًا، وكما هي الحال مع الثورة المصرية التي دخلت في مرحلة ركود بعد تولي السيسي الرئاسة، ونتيجة لعودة أساليب قمع مختلف أشكال التعبير والاحتجاج، وسنّ قوانين تحد منها مثل قانون “منع التظاهر”، وسياسات اعتقال المعارضين والنشطاء، بمن فيهم فنانو الغرافيتي، وغيرها من سياسات، يدخل الغرافيتي المصري كذلك ومنذ حوالي عام 2014 مرحلةَ انسحاب من الفضاء البصري العام، لتخلو جدران مصر من الرسوم التي كانت تزيّنها خلال الثورة.

وتتناول رسوم الغرافيتي اليوم في مصر، مع ندرتها نسبة إلى مرحلة الثورة، مواضيع دعائية واجتماعية، وتحاول ألا تتطرّق إلى مواضيع سياسية، وخاصة بشكل مباشر.

في هذا السياق يقول كاتب مصري: “يحاول الغرافيتي في مصر اليوم النجاة عبر دخوله فيما يمكن تسميته بـ’مرحلة هدنة مع السلطة’، بمعنى أنه يحاول العودة إلى الجدران دون صدام مباشر مع النظام عبر رسوم وشعارات مباشرة.

وقد يطرح على الجدران قضايا اجتماعية وثقافية، أو رسومات سياسية غير مباشرة، مثلما هي الحال مع الثورة المصرية الآن، التي تمرّ في مسار اجتماعي برأيي، كذلك بالنسبة للغرافيتي، فمن الطبيعي أن يتطوّر في مسارات متنوعة، اجتماعية وثقافية، وألا يقتصر على السياسي والثوري، كما هو الشأن مع تجارب الغرافيتي الأخرى في العالم”.


*للمزيد حول غرافيتي الثورة المصرية يُنظر الكتاب التوثيقي التحليلي: مليحة مسلماني، غرافيتي الثورة المصرية، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013).


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى