سرديات

السرديات والعلوم المعاصرة

إذا كانت السرديات الكلاسيكية قد تأسست اختصاصا محدد الملامح والميزات، التي تجعلها مختلفة عن النظريات السردية المعاصرة لها، في المرحلة البنيوية، فإن السرديات ما بعد الكلاسيكية ظهرت في مرحلة تميزت بالانتقال من الاختصاص إلى تداخل الاختصاصات وتعددها.


وإذا كان هذا التداخل والتعدد نتاج صيرورة من التحولات التي طرأت مع تطور السرد ذاته، وبروز علوم جديدة، فإنه تعبير عن حاجة ملحة في مواكبة التحولات المختلفة.

لكن المشكل ليس في التداخل أو التعدد، كما يكتب إدغار موران، ولكن في كيفية ممارسة هذا التداخل أو ذاك التعدد. يفرض علينا واقع كيفية الممارسة تحديد العلوم الجديدة، من جهة، وطرح أسئلة ذات طبيعة أبستيمولوجية حول الطريقة التي يتجسد بها التفاعل بين السرديات والعلوم التي ترمي إلى التداخل أو التعدد معها، من جهة ثانية.


لقد تطورت وبرزت علوم جديدة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وباتت تفرض نفسها بإلحاح مع الصيرورة. من بين هذه العلوم نجد: العلوم المعرفية، والرقميات، ونظريات الذهن والعلوم العصبية والإنسانيات الرقمية. إن كل هذه العلوم لها وضعها الاعتباري الخاص، وإطارها التصوري المميز.


وإذا كان الذي يبغي التداخل مع السرديات، سواء قدم إليها من السرديات بهدف تطويرها، أو ذهب إليها من أحد تلك الاختصاصات، بغية توسيعها، أن ينطلق في تصوري من المبادئ التالية، التي تعطي لكل اختصاص مميزاته وخصوصياته، وتحقق نوعا من الملاءمة العلمية في ممارسة التداخل أو التعدد.


هذه المبادئ هي: تجاوز فكرة التشكيك في علمية السرديات، أو العمل على نزع البعد العلمي عنها، أولا. وثانيا: الانطلاق من أنها اختصاص خاص له هويته، واستقلاليته، وإمكانات تفاعله مع غيره من الاختصاصات.

وأخيرا: طرح السؤال الإشكالي المزدوج: ماذا يمكن أن تقدم السرديات لهذه العلوم؟ وماذا تستفيد منها، وكيف؟ وفي الوقت نفسه الانطلاق مما يمكن أن تسهم به هذه العلوم في تطوير السرديات أو توسيعها.


إن لكل علم تاريخه الخاص الذي يستند أولا إلى جذوره السابقة على ظهوره، إذ لا يمكن لأي علم أن يتشكل من فراغ (التاريخ)، أو ثانيا، بمنأى عن الإبدال المعرفي الذي تشكل في نطاقه (العصر المعرفي). وعندما يتأسس اختصاصا يضع نصب عينيه إمكانات تطوره الدائم (المستقبل) ثالثا.


لكل علم تاريخه الخاص الذي يستند أولا إلى جذوره السابقة على ظهوره، إذ لا يمكن لأي علم أن يتشكل من فراغ (التاريخ)، أو ثانيا، بمنأى عن الإبدال المعرفي الذي تشكل في نطاقه (العصر المعرفي).


ومنذ ان تشكلت السرديات علما، انبنت، أولا، على خلفية تاريخ من المنجزات التي تطورت في الزمن مع النص الأدبي، والتي نجد من بينها: البويطيقا الكلاسيكية والبلاغة القديمة، والنحو، واللغويات المقارنة، والممارسات الأدبية مثل النقد الأدبي، وتاريخ الأدب (الطبقات)، والأدب المقارن (الموازنات)، وعلوم مثل التفسير والهيرمينوطيقا.


وفي الوقت نفسه تشكلت إلى جانب علوم أخرى معاصرة لها كان عندها الهاجس نفسه في دراسة ما يتصل بالأدب علميا (العصر المعرفي) مثل اللغة اليومية (اللسانيات)، أو الخطاب الأدبي عامة (اللسانيات والسيميائيات والبلاغة الجديدة والأسلوبية وتحليل الخطاب)، وفي الوقت نفسه في تفاعل مع العلوم الإنسانية والاجتماعية ثانيا.


ومع ظهور العلوم الجديدة (العلوم المعرفية، وعلوم الأعصاب، والمعلوميات والدراسات البصرية) بدأت تعمل على الانفتاح عليها والتفاعل معها، تحت يافطة ما صار يعرف بالسرديات ما بعد الكلاسيكية، وعلى رأس هذه العلوم، في رأيي، ما عرفته الدراسات الإنسانية والاجتماعية من تطور مع ظهور الرقميات، الذي أدى إلى تحولها تحت مسمى «الإنسانيات الرقمية».


يسلمنا ترتيب هذه العلوم في علاقتها بالسرديات إلى ثلاثة مجالات: الخاصة، وهي التي تعنى بالسرد الأدبي خاصة (النظريات السردية الأدبية)، وغير الأدبي عامة (الصورية والصوتية والوسائطية)، وثانيا اختصاصات متصلة بها، في مستوى أول، مثل: اللسانيات والسيميائيات والبلاغة والأسلوبية، وفي مستوى ثان: الإنسانيات الرقمية.


وثالثا اختصاصات منفصلة عنها مثل العلوم الجديدة التي وقفنا عليها.
إن هذا هو الوصل والفصل الذي تحدث عنه إدغار موران، وهو يشير إلى الإبدال المعرفي الجديد، أو وهو يحدد علاقة الوصل والفصل، بين الاختصاصات، أو وهو يركز على ما يمكن أن يكون ممارسة جديدة للتفاعل بين الاختصاصات من جهة تداخلها وتعددها.

فكيف تتحقق هذه العلاقات بين السرديات الكلاسيكية، وما بعدها في المرحلة الجديدة التي هي علاقة تداخل الاختصاصات وتعددها؟ هذا هو السؤال المركزي الذي ينبغي الانطلاق منه إذا أردنا فعلا المشاركة في تطوير السرديات أو توسيعها.


ودون طرحه ستظل ممارستنا في هذه الحقبة الجديدة من تاريخ السرديات، وهي تسعى إلى التطور، نظريا ومنهجيا وتطبيقيا، مطبوعة بطابع «دجل تداخل الاختصاصات وتعددها»، أو «حوشيتها» كما وصفها باتريك شارودو.


هذا الدجل الذي اتخذ في مجال الدراسات الأدبية العربية مسمى «الدراسات البينية». إن ممارسة ملائمة لتداخل السرديات مع غيرها، أو تعددها، تبنى على أساس وعي أبستيمولوجي بالعلاقة المناسبة بين الاختصاصات، وفق إطار تصوري محدد يراعي قواعد الفصل والوصل بين الاختصاصات لتحقيق التفاعل الذي يؤدي إلى جعل كل اختصاص يستفيد من الاختصاصات الأخرى، ويفيدها.


أما أن يظل اختصاص ما عالة على غيره، مكتفيا بالاقتراض منها، فهو لا يطور غيره، ولا يتطور ذاتيا، وإن ادعى دخوله في مرحلة تداخل الاختصاصات.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى