نقد

دفاعا عن الاستثناء المغربي

 

لا يمكن للإنسان العربي إلا أن ينفعل بما يمور به الواقع العربي من اضطرابات واختلالات لا أحد يستطيع التنبؤ بنهايتها أو مآلها بما يضمن تحولها نحو الأحسن. ليس الانفعال سوى تعبير عن أهواء لا مجال فيها لاستعمال العقل. والانفعال نوعان لا ثالث لهما: مع أو ضد، ولا يتجاوزهما إلا التفاعل المؤسس على العقل الذي يتعدى الانفعال ويدعو إلى مد الجسور بين الطرفين لتقديم فعل جديد يؤدي إلى خلق التوازن.

منذ عقود والوضع على هذا النحو في مختلف الأنظمة العربية، لا فرق في ذلك بينها إلا في الأسماء التي تحملها، والنعوت التي تلصق بها. وجاء ما سمي الربيع العربي ليقول نريد أن نكون مثل شعوب العالم، فكان الرفض، والحرب، وكان ما كان مما لا أريد أن أذكره لأنه يفقأ العين. ابتهجنا في المغرب لما اعتبر استثناء، وكان للصورة التي قدمت لملك الفقراء أثرها في أننا مقبلون على عهد جديد. وكانت إكراهات وعراقيل تتصل بما آلت إليه الأمور من تطورات نتيجة عقود مما عرف بسنوات الرصاص، وعلى رأسها إفراغ الجسم السياسي الحزبي من قدرته على التأثير والتأطير، فكان ما قدم مجملا في الخطاب الملكي في التاسع من شهر (آذار) مارس 2011، وما تحقق في الدستور الجديد، يتم التراجع عنه، مع الزمن، بالتفصيل. جاء حراك الريف، وتبعه الزلزال الذي أطاح ببعض المسؤولين عما وقع في الريف، وكانت الاعتقالات والمحاكمات، تساءلنا بعدها عن الخيارات المطروحة في تلك الآونة والتي أعقبتها أحداث جرادة وزاكورة: هل نحن أمام استعادة سنوات الرصاص؟ أم تأكيد الاستثناء المغربي؟ وكان كل الأمل المغربي في إعطاء ذاك الاستثناء أبعادا حقيقية تكرس التوجه الجديد للمغرب بحثا عن موقع جديد يتلاءم مع طموحات المغرب، وقد استعاد موقعه في إفريقيا، وبدأت تساوره أحلام تنظيم كأس العالم. وجاءت الأحكام القاسية لتشكل الصدمة، وتطرح أسئلة حول ذاك الاستثناء.

كانت المقاطعة مؤشرا على أن الأمور لا تزداد إلا توترا، وأن الوضعية الاجتماعية مرشحة لمزيد من الانفعال، ولا سيما بعد التعنت الذي جوبهت به، وعدم الإنصات لنبض الشارع الذي بات يحبل بما لا يتوقع نتيجة تزايد المطالب التي لم تلق أي استجابة. إن كل الأطراف، دولة وحكومة ومقاولات وأحزابا، تجمع على أن الوضع غير سليم، وعبرت عنه مختلف الخطب الملكية التي تختصره في الكلمة الجامعة المانعة: «اتقوا الله في وطنكم». فمن لا يتقي الله في وطنه؟ هل هم الذين يكتوون بنيران الغلاء والبطالة وسوء تدبير الإدارة ونهب الثروات الوطنية؟ أم الذين يستفيدون من الفساد ويعرقلون تنفيذ المشاريع الملكية الوطنية؟ من أولى بالمحاكمة القانونية والعادلة: هل من فعل الأزمة وخلقها، أم من انفعل بها، وقام برد فعل عليها؟ لماذا نبحث عمن سرب الأسرار، ونتابعه بتهمة نشر الأخبار، ولا نهتم بمن يدور حوله الخبر؟

جاءت المقاطعة ليقول من خلالها المقاطعون نريد الارتقاء بالتعبير عن رفض الواقع بطريقة مختلفة لا يمكنها أن تؤدي إلى أي مواجهة ترجعنا إلى الاعتقالات والمحاكمات، وتذكرنا بسنوات الرصاص. فلم يكن الرد سوى الاتهامات القاسية التي تصب في اتجاه تعميق الهوة بين المسؤولين والمقاولين والمستهلكين. ودفع ذلك إلى تأزيم الوضع وولد الكثير من الأسئلة: لماذا قام المسؤول الفرنسي الذي قوطعت سلعته بزيارة المغرب ومحاورة الأطراف المعنية، ومحاولة معاينة المشاكل الحقيقية التي أدت إلى المقاطعة، مع البحث عن الحلول المقبولة، في الوقت الذي أبى أهل الدار التجاوب مع حالات الاستنفار؟ أين الضمير الوطني الذي يمكن أن يدفع في اتجاه التعرف على المشاكل وتقدير ظروف الحياة القاسية للمواطنين، والبحث عن الحلول التي لا تضر بمصلحة أي طرف، وتسهم في خلق روح الثقة المنعدمة؟

إن التعنت في التعرف على المشاكل الحقيقية وعدم محاولة إيجاد الحلول الملائمة لا يمكن إلا أن يؤدي إلى طرح الكثير من الأسئلة المؤرقة والحارقة: إلى متى نترك الشعب نهب الإشاعات والإشاعات المضادة في مختلف القضايا التي تمس الحياة العامة؟ متى نرتقي إلى الروح الإسلامية التي تتحدث عن الحلم والعفو والمعروف في قضايا الشقاق المختلفة؟ متى نصل إلى تبني الشفافية التي تهيمن في الدول الديمقراطية، والتي يقر فيها المسؤول عن مسؤوليته، ويعترف بها مؤكدا بذلك رقيه الحضاري، وأنه أهل للاضطلاع بتحمل الأمانة. إلى متى سنظل نمارس الاستغفال وركوب رأس الأهواء، والتستر على ما يجري؟ ألا يُترَك بسبب كل هذا المجال مفتوحا للتأويلات والتأوّلات والإشاعات والانفعالات التي تؤدي إلى البلبلة والفتنة؟

إلى متى تظل تسود ذهنية «أعلى ما في خيلك اركبه»، و»إن طارت فهي عنزة» أمام المطالب الشعبية العادلة؟ هذه الذهنية البدوية وليدة الثقافة الشفاهية القائمة على «العصبية» الذي تحدث عنها ابن خلدون، وإن بشكل مختلف، مع توسيع معناها لتتعدى القبيلة إلى الدولة، لا علاقة لها بالعصر الحديث. فبدون التواصل والحوار والتفاعل بين مختلف مكونات المجتمع لا يمكننا أن نرتقي إلى تحقيق التعايش، وتأكيد الغيرة الوطنية على الوطن ومستقبله ومصيره.

عندما نطق بن علي التونسي مخاطبا شعبه بأنه الآن فهم؟ نتساءل: من غيّب عنه الفهم طيلة سنوات جعلت تونس الخضراء ترتعد أبدا من الرعب والهلع؟ وحين قال القذافي وهو يساق بطريقة مذلة ومخزية: ماذا تريدون؟ ألم يكن يعرف الأهواء السلبية التي ولدتها تصرفاته الخرقاء لمن حكمهم بأن أخرس ألسنتهم وجعلهم لا ينطقون إلا بما يتفوه به؟ وما مثل سوريا واليمن والعراق ببعيد؟
بقليل من التواضع السياسي، والمسؤولية الوطنية، والإنصات إلى الآخر بدل اتهامه ونزع وطنيته عنه، يمكننا أن نؤكد أننا «نحن المغاربة إخوة» فعلا (شعار إحدى اللوحات الإشهارية التي صارت تملأ الشوارع الآن) والنظر بعين العقل والحكمة يمكن تحقيق فتح باب التفاعل، وردم هوة الانفعال.

إن الشعب الذي ساند الفريق الوطني، بكل ما أوتي من قوة، في كأس العالم كان يعبر عن وطنيته بجلاء، ولم يكن يريد، رغم الظروف القاسية التي يعيشها، سوى فرحة لحظية تنسيه هموم السنين، ولكنها «فرحة ما تمت»، كما يقول المثل المصري. بل إن الأخبار المسربة حول المصاريف الممنوحة لبعض المسؤولين لمتابعة تلك المباريات، وما شاكلها، لم تؤكد سوى أن الفساد مستشر، وأنه متواصل رغم الدعوة إلى التقوى وإلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن الخطابات ما تزال عاجزة عن التحول إلى أفعال تؤكد التفاعل، وتضع حدا للانفعال.

إن أي عنف أيا كان ممارسه، وأيا كان مصدره، أو نوعه، ليس سوى تعبير عن الانفعال. ومتى هيمن لدى أي فرد أو جماعة اجتماعية كان دالا على غياب الحكمة والعقل في معالجة الأمور. إن العمل على تهميش الممارسة السياسية لدى الشعب ساهم في الانفراد بالسلطة. وأي انفراد بأي سلطة كيفما كان نوعها، وفي أي مجال لا يمكنه إلا أن يؤدي إلى احتقار الآخر، وتهميشه، ودفعه إلى الإحساس بالدونية وعدم الاعتراف. ولا يمكن أن ينجم عن ذلك سوى الانفعال الذي يتحين الفرصة للانفجار.
ندافع عن الاستثناء المغربي ضد استعادة سنوات الرصاص، فمصلحة الوطن والمواطن تقتضي التفاعل لا الانفعال واصطناع المعروف لا فتح منافذ المجهول.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى