أدب المناسبات بين التوثيق والإمتاع
ساد الاعتقاد لدى الكثيرين بأن أدب المناسبات وأَخُص الشعر منه بالذكر بأنه خِلْو من الجمالية من حيث معانيه وصوره وأثره في وجدان المتلقي، حتى كاد يُستبعد نهائيًا من نطاق الأدب أو يُصنّف في خانة النظم الجاف كالشعر التعليمي مثلاً. ولكن هذه الرؤية واهية إذا ما أمعنا النظر في المدوّنة الشعرية العربية حتى تأثر الكثير من أدباءنا بالتصور الحداثي الغربي للأدب الذي لا يَعتدّ بغير الذاتية والفردانية في تمظهراتها الرومانسية والسريالية والعدمية ونحو ذلك.
غير أن شعر المناسبات في تراثنا ثروة أدبية لا يُقدّر نفاستها إلا من غاص في مكنوناتها السياقية، من حيث كون المناسبة تأريخًا عامًا احتفل به المؤرخون أو حدثًا خاصًا له قيمته التاريخية في استجلاء بعض التفاصيل المفقودة والتي قد تكون هامة في قراءة التاريخ قراءة موضوعية في خبايا القصيدة مثلما تتوارى شذرات الذهب في منجم يتخذ حجم جبل.
ولا ينقص من قدر ذلك الشعر شيئًا إن كان المدح هو الغرض الرئيس فيه، إذ المدح ديدن مُعظم الشعراء، إذا حفظ النص الشعري نسبة من التاريخ بقدر ما يسمح به المقام، ومازلنا نذكر الروائع المناسباتية في بلاغتها النافذة، وجماليتها الآخذة، من قبيل بائية أبي تمام في وصف موقعة عمورية التي مطلعها:
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ
في حَدّه الحدُّ بين الجِدّ واللعبِ
ولا تقل قصيدته في صلب الأفشين سنة 226 هـ قيمة عن البائية لثرائها بالإحالات على الوقائع، وتوظيف المضمرات التاريخية والمعاني المستوحاة من القصص القرآني واستحضار مُركّز لأعلام اتخذ طابعًا رمزيًا، وهجاء مقذع، ومدح في آخر القصيدة للخليفة المعتصم، وتنويه بأرومته، مع ما ينضاف إلى كل هذا من أدبية رائقة طبعتها براعته في التوسع في التشبيهات والمجازات، والتشبع البديعي من خلال الطباق والتورية ومطلعها:
الحَقُّ أَبلَجُ وَالسُيوفُ عَوارِ
فَحَذارِ مِن أَسَدِ العَرينِ حَذارِ
ورائعة المتنبي في معركة الحدث حيث يتواشح المدح الأنيق، بالوصف الدقيق، والحكمة البالغة بالحجة الدامغة، وحسبنا ما يُلوّح به هذا المطلع من حكمة وتهيئة لتلقي ما يليه من أغراض:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
ومن هذا القبيل سينية البحتري التي تحرك فيها تراجيديا المناسبة وهي مقتل الخليفة المتوكل وليّ نعمة الشاعر وممدوحه في فترة ناضرة من حياته على يد أجناده من الترك. فلما أفل طيب العيش لاذ الشاعر بإيوان كسرى يبثه شجوه وشجنه، بجامعة ما بين المقامين من تقلب الأحوال، وسلب النعمة بعد عهد بها. والتي مطلعها:
صُنتُ نفسي عمّا يُدَنّس نفسي
وترفّعتُ عن جَدا كل جبسِ
وفي القرن العشرين انقطع شاعر الثورة مُفدي زكريا بالكُلّية لتتبع المناسبات التي عاش أكثرها، أو نُمي إليه بَعضها فكانت الإلياذة توليفة من التاريخ والمناسبات في ألف بيت في مقاطع من عشرة أبيات، مثلما كان ديوان اللهب المُقدّس مماشاة للثورة واستلهامًا لمآثرها، وصدورًا عن مواردها، وما زادت منزلة مفدي الشعرية بذلك إلا رفعة اخترقت الآفاق.
وكذلك فإن شعر صدر الإسلام كان في عمومه شعر مناسبات سواء ما تعلق بمدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو الدفاع عن الدعوة أو الرد على المشركين ونحو ذلك. وتاريخ الأدب ـ أيضًا ـ حافل بمادة أدبية غزيرة تفوق بكثير ما كان ذاتيًا محضًا. وحتى الشعر الجاهلي الذي يوصم بالإغراق في الغنائية ينطلق من مناسبة. أو ليس الوقوف على الطلل في المعلقات وغيرها حضورًا قويًا لمناسبة شديدة المفعول في وجدان الشاعر؟
ومازال هذا الأدب قادرًا على استيعاب مظاهر التطور في الحياة المعاصرة من خلال التعاطي العفوي الإبداعي مع حادثة من الحوادث، أو الوقوف على معلم أثري، أو حتى تلك القصائد التي تُنظم للمشاركة في مسابقات فإن الحافز فيها لا ينبغي أن يحملنا على تجاهل ما فيها من عناصر الجمال الأدبي، والتفوّق الإبداعي الذي أسفر عنه مضمار التباري بين كوكبة من المُبدعين الذين حاولوا التوفيق بين قيود المسابقة، وهامش الفرادة الذي يُفرز أفضل النصوص.
إعداد: د. غانم حميد / الجزائر