غسان كنفاني.. ظلّ مديد في حياة الأدب الفلسطيني
جاءت رواية غسان كنفاني (1936-1972) الأولى رجال في الشمس (1963) تصوّر مشاق الرحلة الفلسطينية هربًا من العذاب وبحثًا عن الخلاص، وهي في هذا تجسّد خصوصية فلسطينيي الشتات بعد النكبة وعلى امتداد الخمسينيات.
وأبطال الرحلة ينتمون إلى ثلاثة أجيال: أبو القيس، وهو مزارع فلسطيني خسر أرضه، يترك المخيم وزوجته وطفليه بحثًا عن الرزق، وأسعد، وهو شاب فلسطيني مطارَد بسبب نشاطه السياسي، ومروان، وهو صبي لم يبلغ السادسة عشرة، تزوج أبوه ثانية وأورثه إعالة أمّه وإخوته الصغار في المخيم. إنهم ثلاثة فلسطينيين لا يعرف أحدهم الآخر وفدوا إلى البصرة في وقت واحد ليعبروا الحدود إلى الكويت بطريقة غير شرعية.
والمهرّب هو “أبو الخيزران” سائق شاحنة مياه كبيرة، وخطة التهريب بسيطة، فهو “أبو الخيزران” يعود إلى الكويت وخزّان الشاحنة فارغ. وأما الرجال الثلاثة فيركبون إلى جانب “أبو الخيزران”، وقبل الوصول إلى نقطة التفتيش عند الحدود يختبئون داخل الخزّان.
ولكن يحدث ما لم يكن في الحسبان: يختنقون داخل الخزّان و”أبو الخيزران” منهمك في إطلاع حرّاس الحدود على علاقات غرامية مختلفة. إن الأجيال الثلاثة تعبر الموت (الصحراء) بحثًا عن الحياة والاستقرار فتكون نهايتها البائسة، فالهرب من المخيم موت آخر.
ومع أن “أبو الخيزران” يلقي بالجثث الثلاث على أكوام القمامة على مشارف المدينة “الموعودة” ويخرج النقود من جيوب أصحابها فإن الشعور بالذنب يلاحقه ويلاحق الوجود:
“انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:
– ولماذا لم يدقوا جدران الخزان؟…”.
دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:
– لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟
وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:
– لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟.
إن هذا الخيار، الهرب – الموت، رَسَم للشخصيات الثلاث نهايتها المنطقية، ولا سيّما أن الشخصيات الرمزية الراغبة في الخلاص سلّمت أمرها لواقع العجز الفلسطيني – العربي الذي يرمز إليه “أبو الخيزران”.
لقد أعلنت رجال في الشمس أن الموت السلبي في انتظار الذين يفرون بعيدًا عن الوطن.
قد تكون رواية رجال في الشمس من أقوى الروايات المعاصرة وأكثرها شفافية. ففي إطار البعد الرمزي يتّخذ طلب الحياة خارج الأرض معنى السعي إلى الموت. وفي رجال في الشمس يبدو الوعي عند الإنسان الفلسطيني في حالة ركود ونوم إطارها الجهل والتخلف والأنظمة المتاجرة والقيادات العاجزة.
ورواية كنفاني الثانية ما تبقّى لكم (1966) تكملة لروايته الأولى رجال في الشمس. ففي ما تبقى لكم تعود الصحراء لتأخذ دورها، ولكن عوض أن تكون ساحة للموت المجاني تصبح واقع مواجهة ينعدم فيه الحوار بين مناضل فلسطيني (حامد) وجندي إسرائيلي. وتمثّل ما تبقى لكم بداية اليقظة الأولى كعملية استفاقة ذاتية.
وقد أطلق كنفاني على “أبو الخيزران” في رجال الشمس تساؤله النقدي الاحتجاجي: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟” وأما ما تبقى لكم فقد جاءت، على نقيض رجال في الشمس تمثّل ما يدور في ذهن الشعب الفلسطيني عشية انطلاق ثورته. ففي رجال في الشمس كان القرار نحو الغربة يعني الموت، وأما ما تبقى لكم فتصحّح الاتجاه: فرار نحو الأم – الأرض، ومن هنا المواجهة الحقيقية مع العدو.
وتشكّل رجال في الشمس وما تبقى لكم قفزة هامة في تاريخ الرواية العربية. فالمحاولتان خلخلتا البناء الروائي التقليدي. وقد اتضح أُسلوب تيار الوعي بشكل بارز في ما تبقّى لكم وأدخل كنفاني الزمان والصحراء شخصيتين أساسيتين في روايته، بالإضافة إلى حامد ومريم وزكريا.
ولكي يسهُل على القارىء استيعاب هذا العمل الجديد في أُسلوبه، يلجأ كنفاني إلى توضيح مهمته. فهو يعيّن لحظات التقاطع والتمازج التي تحدث عادة دون تمهيد، وذلك عن طريق تغيير الحروف الطباعية عند النقطة المناسبة. ويبدو واضحًا في ما تبقى لكم تأثّر كنفاني بالكاتب الأميركي وليم فوكنر William Faulkner (1897-1962) في روايته الصخب والعنف (1929) التي ترجمها إلى العربية جبرا ابراهيم جبرا عام 1963.
وقد اعترف كنفاني بهذا التأثر إذ قال: “بالنسبة لفوكنر فأنا معجب بروايته الصخب والعنف وكثير من النقاد يقولون إن روايتي ما تبقى لكم هي امتداد لهذا الإعجاب بـ الصخب والعنف، وأنا أعتقد أن هذا صحيح أنا متأثر جدًا بفوكنر، ولكن ما تبقى لكم ليست تأثرًا ميكانيكيًا بفوكنر بل هي محاولة للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات التي حققها فوكنر لتطوير الأدب الغربي”.
ومجموعة أرض البرتقال الحزين لغسّان كنفاني صدرت في بيروت عام 1963 وتدور قصصها حول شعور المنفي المعذّب، ولكنه أصبح هنا متسائلًا. وفي المجموعة إحدى عشرة قصة، ثلاث منها بعنوان ثلاث أوراق من فلسطين هي “ورقة من الرملة” و”ورقة من الطيرة” و”ورقة من غزة“.
وفي القصة القصيرة التي تحمل المجموعةُ اسمَها يحكي كنفاني رحلة أسرة فلسطينية نزحت عام النكبة من يافا إلى عكّا إلى لبنان عبر رأس الناقورة. وعند رأس الناقورة تشتري النسوة سلّة برتقال وهنّ بعيدات يتحسّرن على أرض البرتقال “اليافاوي”. ثم تُكمل الأسرة الطريق: “وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين”.
وفي مجموعة غسّان كنفاني عالم ليس لنا (1965) تطغى موضوعة المنفى بشكل بارز. فقصة “جدران من الحديد” صورة شعرية لطائر ينتفض في قفصه دون انقطاع إلى أن يحتضر. والمنفى سجن، ولكن النهاية غامضة: هل يموت الطائر لأنه استنفد قواه، أم هل يموت لأنه توقّف عن الانتفاض؟
وعام 1968 أصدر غسّان كنفاني في بيروت مجموعته القصصية الرابعة عن الرجال والبنادق. والمدخل إلى المجموعة قصة تعود بنا إلى عام 1949 وحياة البؤس في المخيم الفلسطيني. وتنقسم هذه المجموعة إلى قسمين، القسم الأول في أربع قصص قصيرة تشكّل رواية غير طويلة.
والقسم الثاني أربع قصص أخرى تقدم كلّ منها معادلة فنية لنضال الفلسطيني ضد الجوع من أجل البقاء، ونضاله المسلّح ضد الغزاة. ويرقّم كنفاني القصص من (1) إلى (9) معتبرًا إياها أجزاء مُتتابعة من عمل واحد يقدم صورة للنضال الشعبي الفلسطيني منذ ثورة 1936 إلى المقاومة المسلّحة التي انطلقت مرّة ثانية في منتصف الستّينات.
وعلى هذا، فإن القسم الأول من عن الرجال والبنادق رواية تاريخية تحكي الواقع الفلسطيني قبل نزوح عام 1948، وتقدم صورة تحليلية للقوى الفاعلة فيه وهي: الفلاحون والمثقّفون واليهود والإنكليز والقيادات الفلسطينية. وكذلك الوطن في تضاريسه.
على هذا النحو تمكّنت الرواية الفلسطينية عبر ثلاثة من مُجلّيها في هذه الحلبة، جبرا وكنفاني وحبيبي، من تبوّؤ مكانة مرموقة، عربيًا وعالميًا، فقد دفع هؤلاء بالرواية إلى آفاق جديدة، عبر مناهج حديثة واضحة المعالم، متناولين أغراضًا رصينة، مستفيدين من تجارب توفّرت لهم فسبروا أغوارها وحوّلوا الخاص إلى العام والعيني إلى المجرّد مستنيرين بالتراث، وبالتقنيات الواردة إليهم من الغرب، فجاءت رواياتهم، رغم تنوّع منازع أصحابها، تعبيرًا عن الهمّ الإنساني الأوسع، ومسخّرين لذلك الشكل الأنسب الآخذ بجزئيات المضمون بحيث يصعب فصل المعنى عن مبناه فالتحمت أواصر الشاغل الفلسطيني بالقالب الموصل، وتحقيق غرض التجربة في مستواها الفني اللائق بها.
ولقد ترك كنفاني رغم عمره القصير ظلًّا مديدًا في حياة الأدب الفلسطيني وظلّ يتجلّى ويتجلّى في ديالكتيك الفنّي والسياسي، وفي ذلك البحث الدؤوب عن أدب وظيفي – نضالي دون أن يتنزّل هذا الأدب عن مقامه الإبداعي. وحقّق جبرا، على مدى أربعين عامًا، بنيانًا شامخًا وعامرًا بالرؤية والواقع، ومسكونًا بالوطن والغربة، ومنظمًا بالموسيقى والشعر والاجتماعي.
وأما حبيبي فقد حوّل المأساة ملهاة والملهاة جرحًا لا يلتئم ما دام الوطن باقيًا تحت الاحتلال، متخذًا من تفاصيل الحياة اليومية في الوطن والمنفى قماشة نضال، ومشيّدًا من ثنايا الذاكرة صرح حنين. وإذا كانت الرواية الفلسطينية قد توخّت أساسًا التأثير والإحساس فإنها عمدت، في تحقيق مهمتها تلك، إلى التداعي واسترجاع الماضي والمونولوغ الداخلي (المناجاة الداخلية)، مبتعدة عن التأريخ قدر الإمكان. وفي رجال في الشمس قدّم كنفاني رواية واقعية بأبعاد رمزية.
فالصورة مكثّفة عن الوضع العام الفلسطيني (والعربي) المرحلي. وفي البحث عن وليد مسعود حقّق جبرا إمكانية الحلم بتوحّده في الرجوع إلى المنزل الأوّل وأشيائه. وأما في إخطيّة فقد اختزن حبيبي تراث الوطن وحاضره في ذاكرة الحنين. ورواية كنفاني تسودها مشاعر التمزّق، ولكنها تدعو إلى التأهب عبر دقات خافتة تنذر بالهزيمة المحتومة.
فـ رجال في الشمس تعبير عن عجز الفلسطينيين في الخمسينات عن إيجاد مكان أو دور لهم، وسط وهج الواقع القاسي. ورواية جبرا تحريك لطاقة الشتات في المنفى وتوحيدها باتجاه الوطن والأرض حيث التاريخ والمسؤولية والمطمح والمستقبل.
وإخطية حبيبي تتصف بأُسلوب الهذيان النوستالجي، هذيان معقول وعاقل ولكنه يسعى إلى تناسي الصدمة الكبرى وتحويل ذكرى ضياع الوطن إلى خزّان حنين ينهض على التوثيق والتاريخ والسيرة والرواية والتسجيل فيحيي الماضي ويبعث الوطن حيثما حلّ حاملًا همّه فتبقى الأرض ويتلاشى الاحتلال.
(*) أُلقيت هذه الكلمة في مهرجان تكريم الأديب الفنان الشهيد غسان كنفاني (1936-1972) بدعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي المنعقد هذا الشهر في قاعة معروف سعد في صيدا.
ضفة ثالثة