سرديات

قرن على ولادة “عوليس” الصعبة.. الرواية التي غيّرت الكثير

في صباح بارد من شتاءات العقد الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد في 2 فبراير/ شباط 1922، وفي متجر للكتب في شارع de l’Odéon في الدائرة السادسة من باريس، وضعت الناشرة الأميركية الشابة سيلفيا بيتش Sylvia Beach أمام الكاتب الأيرلندي جيمس جويس (1882 – 1941) أول نسختين مرقّمتين من روايته اللغز “عوليس”، والتي كانت صدرت للتو عن دار “شكسبير وشركاه” التي أسستها بيتش في باريس عام 1917.


كانت نسختا جويس من كتابه تحملان رقمي 901 و902، وقدّمتهما إليه سيلفيا بيتش في تلك الظهيرة تحديدًا احتفالًا بعيد ميلاد جويس الأربعين. بعد 100 عام من هذا الحدث، أجدني اليوم أفكر في هذا المشهد وكأنني أرى أمامي نظرة جويس لروايته الضخمة بعد نشرها أخيرًا، ها هي الرواية التي طالما رفضها الناشرون الأميركيون والإنكليز منشورة أمامه في 732 صفحة، تلك الصفحات التي ستخلد اسم جيمس جويس وروايته إلى الأبد.

كأنّ كلّ ما كان يحتاجه جيمس جويس في تلك الفترة هو امرأة شجاعة مثل سيلفيا بيتش، التي أخذت على عاتقها مهمة إخراج “عوليس” إلى النور، في الوقت الذي تخلى فيه الجميع عن الرواية وكاتبها. وحتى يومنا هذا، يمكن للمارين في شارع de l’Odéon في العاصمة الفرنسية، وفي مواجهة الطابق الأول من العقار رقم 12، قراءة اللوحة الجدارية الصغيرة ذات الحروف المحفورة في الرخام: En 1922 dans cette maison, Melle Sylvia Beach publia “Ulysses” de James Joyce.

أو ما يمكن ترجمته إلى: “في عام 1922 في هذا المنزل، نشرت الآنسة سيلفيا بيتش “عوليس” لجيمس جويس”.


كانت سيلفيا بيتش (1887 – 1962) فتاة أميركية جاءت إلى باريس في عشرينيات القرن الماضي، وحينها اكتشفت بالمصادفة متجرًا لبيع وإعارة الكتب في شارع de l’Odéon، كان المتجر البسيط ملكًا لامرأة تدعى أدريان مونيه، ومنذ اللحظة الأولى تآلفت صاحبة المتجر مع الشابة الأميركية وألهمتها البقاء في باريس، وصارت حبيبتها فيما بعد.

وبمساعدة المال الذي كانت ترسله إليها أمها من أميركا، قررت سيلفيا إنشاء دار نشر خاصة بها، تتخصّص في نشر الأدب الأنجلوساكسوني، خاصة وأن باريس في هذه الأثناء كانت تعج بالكثير من الكتّاب الأميركيين والإنكليز والأيرلنديين، وهكذا ولدت دار “شكسبير وشركاه”Shakespeare and Company في قلب الشارع المنسي عام 1917، ليتحول الشارع كله خلال عامين إلى بؤرة جذب واستقطاب، ليس فقط للطليعة الأدبية الفرنسية، ولكن أيضًا للكتّاب الأميركيين والإنكليز الذين علقوا في باريس بعد الحرب العالمية الأولى.


وهو الجيل الذي عرف باسم “الجيل الضائع” The Lost Generation، بحسب تسمية جيرترود شتاين (1874 – 1946) الروائية والشاعرة الأميركية التي عاشت في باريس بدءًا من 1903، واستضافت العديد من الكتّاب في بيتها وصالونها الثقافي المشهور آنذاك.


  • إباحية عوليس

بمصطلح “الجيل الضائع” كانت شتاين تشير إلى زملائها من الكتّاب الأميركيين وغيرهم ممن صنعتهم الحرب، حيث بدأت مواهبهم الكتابية مع اكتشافهم أنهم كانوا يتوهمون عالمًا أفضل مما أنتجته الحرب العالمية الأولى، وضمت باريس في هذه الأثناء العشرات من الأسماء التي لمعت مواهبها في تلك الأعوام الأولى من العقد الثاني للقرن العشرين، ومن بينهم عزرا باوند وإرنست همنجواي ووليم بتلر ييتس وفيرجينيا وولف وأندريه جيد وجيمس جويس وغيرهم.


جيمس جويس وسيلفيا بيتش في باريس عام 1925 وبيتش أمام واجهة “شكسبير وشركاه” في عشرينيات القرن الماضي

حين تعرّفت سيلفيا بيتش على الأيرلندي جيمس جويس في باريس، كان حينها يحاول العثور على ناشر لروايته الجديدة “عوليس”، والتي كان قد بدأ كتابتها منذ العام 1914، خاصة بعد أن رفضت الرواية من قبل العديد من الناشرين لأنهم رأوا الكتاب غير مفهوم، وفوق ذلك يعج بالإباحية والتجديف.

والحقيقة أن رفض دور النشر لرواية جويس حينها يبدو مبررًا حين نعرف أنه تم حظر نشر الرواية في بريطانيا (بسبب إباحيتها) والولايات المتحدة (إدانة الناشر في نيويورك للسبب ذاته)، بعد نشر جويس لعدد من مقتطفاتها في مجلتي The Egoist اللندنية وThe Little Review الأميركية. وبالمثل، رفضت الكاتبة الأميركية فيرجينيا وولف وزوجها ليونارد وولف نشر الكتاب في دار النشر الخاصة بهما The Hogarth Press   في لندن.


  • الولادة الصعبة

مع هذا الرفض، حاول جيمس جويس البحث عن ناشر آخر لروايته في باريس دون جدوى، وحينها اكتشف أنه لن يستطيع إلى ذلك سبيلًا، خاصة وأن عمّال المطابع الفرنسيين لا يعرفون الإنكليزية، حتى جمعته الصدفة يومًا ببائعة الكتب الشابة سيلفيا بيتش، فوجد فيها تحمسًا لروايته الغامضة، وقبلت بيتش أن تتحمل معه مخاطر نشرها، بل إنها قامت بتنظيم حملة تبرعات لطباعة الرواية، عبر نظام الاشتراكات، بواقع مبلغ لا يقل عن 150 فرنكًا لكل نسخة لتمويل المشروع، وبحثت سيلفيا بنفسها عن مطبعة تقبل طباعة المخطوطة. وكان من بين الذين ساهموا في حملة التبرعات تلك كل من وينستون تشرشل وفيرجينيا وولف وأندريه جيد وألدوس هكسلي ووليم بتلر ييتس وغيرهم.

كانت ولادة “عوليس” صعبة بكل ما في الكلمة من معان، فلم تكن الرواية “رواية” كغيرها، وشكلت تحديًا مضاعفًا تمثّل في محتواها الجريء، وإخراجها للنور في ظل مناخ يدينها كان الجنون بعينه، ولنا أن نعرف اليوم أن الإصدار الذي كان مقررًا أن يتم في أكتوبر/ تشرين الأول 1921، استغرق شهورًا من العمل، حتى ظهر للنور في ذلك الصباح البارد للثاني من فبراير/ شباط 1922، بعدما تحمّل صاحب المطابع الفرنسي موريس دارانتيير Maurice Darantiere   طباعة “عوليس” في طبعة مرقمة من ألف نسخة.


وتشير العديد من الدراسات التي تناولت ولادة “عوليس”، إلى فوضى الإضافات التي أدخلها جيمس جويس إلى النص الأصلي للرواية أثناء تصحيحه النسخ الأولية لها، والتي ظلت تنتقل ذهابًا وإيابًا بالقطار بين باريس حيث يعيش جويس، ومدينة ديجون الفرنسية حيث المطبعة.

استمر جويس في إعادة صياغة العمل والإضافة عليه، في شكل أقرب ما يكون إلى عمل الدادائيين وصانعي الكولاج. حتى أن بعض النقاد يؤكدون أن ثلث “عوليس” كتب تقريبًا أثناء تصحيح جويس لنسخ الرواية، أضف إلى ذلك أن عمال مطابع دارانتيير في ديجون لم يكونوا على دراية بأي شيء في اللغة الإنكليزية، وكانوا يصفّون الحروف يدويًا، ما أدى إلى خروج الرواية في شكل يرثى له من الأخطاء المطبعية.

جيمس جويس وسيلفيا بيتش أمام مدخل متجر الكتب وفي الوسط اللافتة الجدارية التي تشير إلى طباعة بيتش لـ”عوليس” في باريس

لم يكن جيمس جويس من الكتّاب الذين يتساهلون في طباعة أعمالهم، بل كان يتدخل في اختيار وتحديد كل شيء، بدءًا من نوع الخط المستخدم في الطباعة وحتى توزيع الكتابة في الصفحة، وفي “عوليس” أصر على أن يكون غلاف الرواية باللون الأزرق، وليس أي درجة من الأزرق، بل أزرق العلم اليوناني تحديدًا.

والذي كان يرفرف فوق المبنى المقابل لدار نشر “شكسبير وشركاه” في شارع de l’Odéon، ويخبرنا كاتب سيرة جيمس جويس، ريتشارد إلمان، أن جويس اختار هذا اللون تحديدًا للإشارة إلى ملحمة الأوديسة لهوميروس وبالتالي إلى عوليس، وحرصًا منه على أن يخرج لون الغلاف كما أراد، كلف جويس صديقه الرسام الأميركي مايرون نوتينج بخلط الصبغة اللونية الدقيقة المخصصة لطباعة الغلاف، وأرسل إليه العلم اليوناني فوق ذلك.

  • من الإدانة إلى الكلاسيكية

نجت “عوليس” جويس لتصبح اليوم من أهم الأعمال الكلاسيكية في الأدب العالمي الحديث، لكن لم يكن الوضع كذلك حال ظهورها عام 1922، فقد نشرت الرواية مسلسلة قبل نشرها في كتاب، في The Little Review الأميركية منذ مارس/ آذار 1918 إلى 1920، وقام عزرا باوند بإزالة البذاءات المحتملة من النص الأصلي ليتمكن من نشرها في المجلة الأميركية الطليعية.

ولكن في 1920 تقدمت ابنة محام شهير في نيويورك بشكوى إلى السلطات بسبب مشهد في الرواية يستمني فيه بلوم بطل الرواية على مرأى من جيرتي ماكدويل، فيتم وقف نشر الرواية ويتم تقديم محرري المجلة مارجريت أندرسون وجين هيب للمحاكمة، وإثر هذه المحاكمة يحظر نشر الرواية في أميركا، ومن ثم يرفض الناشرون البريطانيون بدورهم التعامل معها ومع كاتبها.

حتى صدرت الرواية في فبراير/ شباط 1922 عن “شكسبير وشركاه”، محملة بما يقرب من 5 آلاف خطأ مطبعي، وتم إرسال النسخ سرًا إلى المشتركين، وكان من بينهم جورج برنارد شو وتي إس إليوت الذي اعتبر الرواية: “أهم تعبير عن العصر الحالي، لا يستطيع أحد الفكاك منها”.

ولكن في ديسمبر/ كانون الأول 1922، يعلن السير أرشيبالد بودكين، مدير النيابات العامة في المملكة المتحدة، أن “عوليس” “كتاب قذر”، وفي العام التالي يصادر رجال الجمارك الإنكليز 500 نسخة مهربة من الرواية ويحرقونها.

جيمس جويس  والنسخة الأولى من “عوليس” مع أحد فصول عوليس منشورًا في مجلة “ذا ليتل ريفيو” في أبريل 1920 والفصل الأول من عوليس منشورًا في “ذا ليتل ريفيو” في مارس 1918

لم يتم رفع الحظر الأميركي عن الرواية إلا بحلول عام 1933، بعدما رفعت دار نشر راندوم هاوس Random House قضية للسماح بنشر الرواية في أميركا، واعترف القاضي جون إم وولسي حينها بأن الرواية، رغم أنها ليست “سهلة القراءة”، إلا أنها: “شكّلت قوة أدبية كبيرة”.

وفي المملكة المتحدة تم نشر “عوليس” لأول مرة عن دار نشر بودلي هيد Bodley Head عام 1936. وفي عالمنا العربي صدرت الترجمة الأولى للرواية عام 1982 عن “المركز العربي للبحوث والنشر” بالقاهرة، بترجمة للمصري طه محمود طه، أما في أيرلندا، موطن جيمس جويس، فلم يسمح بتداول الرواية علنًا إلا بحلول عقد الستينيات من القرن الماضي.


  • عقل ليوبولد بلوم

لا يوجد أي ذكر للحرب في “عوليس” التي تدور أحداثها في يوم واحد في دبلن، هو يوم 16 يونيو/ حزيران من عام 1904. ومن خلال فقرات غير مترابطة يستعرض جيمس جويس في حبكته اللغوية الخاصة أفكار بطله ليوبولد بلوم Leopold Bloom بعقله الثري وقدرته غير العادية على الملاحظة. بلوم رجل عصري يعمل في بيع الإعلانات، متزوج من مغنية تدعى مولي، على علاقة برجل ينظم لها حفلات موسيقية. وقسم جويس روايته إلى 18 فصلًا، أغلبها مقتبس من أجواء ملحمة هوميروس.

لم يكن جويس مهتمًا في “عوليس” بالحبكة الروائية التقليدية أو حتى بتتبع ثورة علم النفس وانعكاسات هذه الثورة في تحليل الشخصيات الروائية، بل كان كل اهتمامه باللغة، حاول في هذياناته اللغوية أن يكون وسيطًا لتجسيد الطريقة التي يفكر بها عقل بطله ليوبولد بلوم، والتقاط أفكاره وذكرياته وتأملاته المندفعة، وبهذه الطريقة التي لم يعرفها الأدب المكتوب بالإنكليزية من قبل.


استطاع جويس أن يربط بين الملحمي والعادي، محولًا أصغر لحظة في ذلك اليوم إلى حدث متلألئ ومشرق أثناء تجوال بلوم في العاصمة الأيرلندية دبلن، ولاستكشاف كل الاحتمالات التي يقدمها السرد الغنائي والملحمي، زاوج جويس بجرأة بين كل الأساليب الكتابية في “عوليس”، من المونولوج والحكي والسخرية والملحمية والغنائية وحتى الصحافة والمعاجم اللغوية، وكأن كل هدفه هو التركيز على ما يحدث في عقل بطله أثناء تجواله في مدينته ومسقط رأسه.


أثبتت “عوليس” نفسها كواحدة من الأعمال الكبيرة في الأدب العالمي الحديث منذ صدورها الأول عام 1922، وطبعت بعشرات اللغات والطبعات في جميع أنحاء العالم، وبسبب من الأخطاء الكثيرة التي حملتها في صورتها الأولى، لم تعد هناك صورة نهائية أو أخيرة لـ”عوليس”.

وقد وفّر هذا الاختلاف وقودًا لما عرف لاحقًا باسم “حروب جيمس جويس” الحية بين الأكاديميين ونقاد الأدب حتى يومنا هذا، وجاء ليؤكّد عبارة جويس نفسه التي قالها ذات يوم: “سأحقق الخلود لأنني سأبقي الأكاديميين مشغولين لقرونٍ في الجدل حول ما كنت أعنيه”!


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى