“صندوق الذكريات” .. عن الجحيم الذي نحنّ إليه
تردّدت كثيرًا قبل أن أحجز مقعدًا مع صديقتي اللبنانية لحضور الفيلم الفرنسي اللبناني “صندوق الذكريات”. تردّدت لسببين؛ أولًا، بات الطريق من البيت إلى صالة السينما أكثر صرامة مما كان عليه في السابق. فمشاهدة الأفلام على تنوّع جنسياتها وتوجّهاتها وتفاوت قيمتها الفنية، متاحة في أي لحظة وفي أي مكان.
فقدت صالات السينما بعضًا من خفّتها وتحولّت إلى منبر لا تنقصه الجدّية ولا يقصده إلا من قرّر فعلًا وحتمًا مشاهدة الفيلم عبره دون سواه من المنصّات. ثم إنني تلقّيت تحذيرات عديدة من صديقات لبنانيات على اختلاف أعمارهن وتجاربهن مع الحرب الأهلية وتنوّع طوائفهن: “لا تحضري الفيلم.. بيدبرس”. إلا أنني شعرت أن “الدبرسة” باللهجة اللبنانية، أي الاكتئاب، قد بلغ مكانًا راسخًا ومستقرًّا وناضجًا، عصيًّا على أن يفيض.
ثماني محطّات تفصلني عن المعهد الفرنسي في لندن. رحت أفكّر بالفيلم الذي اختار منتجوه أن يكون عنوانه بالعربية “دفاتر مايا”. لا أملك الكثير من المعطيات ولم أقرأ عنه في أي مكان كي لا أفوّت على نفسي أي لحظة من الدهشة أو الإحباط. أحمل معي فقط اسمي المخرجين جوانا حاجي توما وخليل جريج، وتحذيرات الصديقات من فيلم يروي الحرب الأهلية.
إلا أنني سبق أن شاهدت أفلامًا عديدة تحكي عن الحرب. أفلام وثائقية، يصعب معها التلاعب بالشخصيات أو اللعب مع القهر والوجع والدموع المالحة التي تسيل ببطء على جروح لم تلتئم حتى اللحظة. الأدب اللبناني أيضًا كان نافذة خصبة تعرّفت من خلالها على الحرب الأهلية وعلى أحياء بيروت وأزقّتها وبيوتها المدمّرة أو تلك التي صمدت، تعرّفت على أبطالها وصانعيها وسكّان الحي الهاربين من القصف إلى الملاجئ المظلمة والباردة والرطبة.
شاهدت الحواجز وشممت رائحة الخوف الثاقبة والطافحة من أعين تحاول جاهدة ألا ترمش وألا تهتزّ كي يطمئنّ الأطفال. وتلك القصص التي لا تعدّ ولا تُحصى باتت مرتبكة في ذاكرتي بحيث يصعب عليّ التمييز في كثير من الأحيان بين ما قرأته وما روي أمامي وما شاهدته في السينما.
يبدأ الفيلم في كندا وينتهي في بيروت. وفي الطريق بين البلدين، ثمة تاريخ من الذكريات والوجع والغربة والإحباط والفقد والهزيمة والإفلاس ومفردات أخرى كثيرة لا يمكن لمقال أن يتضمّنها. زرت بيروت للمرة الأولى بصحبة والديّ وكنت في العاشرة.
بابا كان مغرومًا ببيروت واختار أن يحكي لي عنها كما كانت في ذاكرته قبل الحرب. أذكر كم تململت في سيارة الأجرة وكم كانت المسافة طويلة نفسيًا، في انتظار محموم للوصول إلى مدينة الأحلام التي تعرّفت إلى ملامحها الساحرة مما رواه والدي. وأذكر مدى الإحباط الذي شعرته ما أن خطت السيارة إلى منطقة الحازمية نزولًا إلى المدينة الغارقة في البحر.
تعبر أمامنا عمارات مدمّرة وأخرى تخترق جدرانها ثقوب عملاقة، أشيح بنظري عنها، فيبتلعني ثقب آخر في عمارة أخرى. ثم خفّفت مقاهي شارع الحمراء العتيقة من إحباطي وبدأت روح المدينة كما عرفتها من الروايات تخفق أمامي. أحببت لهجة الأصدقاء الكثر الذين أتوا للقائنا في هذا المقهى وذاك ثم في بيوتهم المختلفة عن بيوتنا.
أحببت بيروت وتمنّيت لو نبقى هناك وبعد يومين لم أعد أمانع لو سكّنا بالقرب من عمارة تهشّمها الثقوب. شعرت أنا الطفلة التي لم تختبر الحياة بعد، بحرية افتقدتها في دمشق. حرية ممزوجة بالانفتاح على العالم حيث الحدود واهية.
التقطت باكرًا الفرق الشاسع بين المدينتين. مدينة مصمّمة للحياة وأخرى للخوف والكآبة. مدينة هاربة من أوروبا وأخرى من الاتحاد السوفييتي حيث العمارات كتل إسمنتية يقطنها عشرات أو مئات الأشخاص المستنسخين عن بعضهم البعض. مدينة تضجّ بالأصوات وأخرى مدفونة بالصمت والريبة.
وتلك المدينة التي عشقتها باكرًا، لم تكن قد تعافت بعد من حروبها ولا من أمراضها ولم تكن الكراهية قد خفتت بعد بين طوائفها وأحزابها. وأفكّر الآن أنني كطفلة ربما فضّلت كل تلك الفوضى عن حالة “السلم الأهلي” التي ظل النظام السوري يروّج لها لعقود، “سلم” نابع بشكل أو بآخر من الخوف والإحساس بالمرارة.
لم يكن القسم الأول من الفيلم محبطًا بالنسبة لي. مايا اللبنانية التي تركت بيروت قبل ثلاثين عامًا تعيش في كندا مع ابنتها المراهقة وأمها. يصلها ليلة عيد الميلاد صندوق مرسل من عائلة صديقتها الحميمة ليزا. مايا لم تكن تعرف أن ليزا ماتت في حادث سير قبل أسابيع قليلة، فقرّرت عائلتها أن ترسل “صندوق الذكريات” هذا، بما فيه من دفاتر مذكّرات كتبتها مايا أثناء الحرب من بيروت وأرفقتها بصور وأشرطة مسجّلة عن يومياتها وأرسلتها لصديقتها ليزا التي رحلت قبل الحرب بقليل إلى فرنسا مع عائلتها.
تلخّص تلك اليوميات بعضًا من ذاكرة الحرب والقصف والاحتجازات والحواجز والفقد والخوف وظلمة الملاجئ. ولم يصبني الفيلم بالإحباط بعد. لا بل واستعدت فكرة قديمة جدًا أدهشتني في مراهقتي. بيروت الحرب الأهلية التي قرأت عنها في الكتب وسمعت قصصها من أصدقاء والدي، تبدو أكثر حميمية من بيروت التي تعرّفت إليها لاحقًا.
ولم أعثر على تفسير واضح يجيب عن أسئلتي حول مدينة تبدو في حروبها أكثر دفئًا مما تبدو عليه بعد أن تخفت حدّة المعارك. ثم شيئًا فشيئًا، بدأت أقاوم الدموع، ليس خجلًا، فأنا من أشد المشجّعين على البكاء بل تحسّبًا للارتباك بسبب الكمامة.
لست ناقدة سينمائية إلا أن الفيلم سحرني. لم أنشغل أصلًا بأداء الممثلين ولا بالإخراج ولا بحركة العدسة التي تهتزّ في أحيان كثيرة مع وقع الانفجارات. الدموع تلحّ أكثر فأكثر وتكرّ من الجفنين بسخاء. أبعد الكمامة عن وجهي وأشعر بها تسيل على وجنتي.
ما الذي أصابني بهذا الكمّ من الحزن؟ تجربة مايا المأخوذة من تجارب مئات آلاف اللبنانيين أم تجربتي أنا التي فقدت حلم العودة إلى دمشق ولا أعرف اصلًا ما إذا كنت سأعود لو أتيحت لي الفرصة لذلك. تذكّرت مع أنني لا أنسى، أن أمكنتنا سُرقت ودُمّرت وذاكرتنا عن تلك الحياة التي عشناها واهمين بالاستقرار، لم تعد سوى دفاتر وكلمات وصور لن نستطيع اقتفاء أثرها مهما بلغ بنا الإحباط.
تذكّرت أن بيروت التي عاشت على إيقاع الحروب، تقاوم اليوم موتها الأخير في بلد يخيّم عليه الجنون وتحكمه ميليشيا ويعيش أكثر من ثلاثة أرباع سكّانه تحت خط الفقر. كيف يمكن للحياة أن تستمرّ عندما تصبح ذكريات الحرب الأهلية أخفّ وطأة مما يعيشه الملايين اليوم.
ودمشق التي كنت أشعر فيها بالاختناق، كانت أكثر طراوة مما هي عليه اليوم. أين المنطق والفيزياء والعلوم وقانون الجاذبية عندما ندرك أن الجحيم الذي عاشه الملايين لم يكن سوى باب ماكر لا قدرة للأفكار والأحلام على إغلاقه. باب مفتوح على جحيم آخر وعلى إمعان في التهميش والإلغاء ومصادرة الرغبات والمتع الصغيرة والمختصرة.