يُقِيمُ ابن خلدون تصورَه في فلسفة اللغة على الثنائية المعروفة في الفكر العربي الإسلامي بـ “الموجود بالقوة والموجود بالفعل”. وتُعتبر القابلية الإنسانية للظاهرة اللغوية موجودةً بالقوة، وعندما تظهر وتتحقق في أية بيئة بشرية تصبح موجودة بالفعل.[1] إن الوجود اللّغوي بالقوة يرتبط ارتباطا وثيقا بمفاهيم كالفطرة والاستعدادات التي يتميز بها الكائن البشري عن غيره من الكائنات.
ولتوضيح مفهوم القابلية؛ أكد ابن خلدون أن اللغة ظاهرة إنسانية تستكمل وجودها انطلاقا من البيئة التي تُتيح لها فرصة الظهور فيها، بقوله:”لو فرضنا صَبِيًّا من صبيانهم نشأ في جيلِهم ورُبِّيَ بين أحيائهم، فإنه يتعلم لغتَهم، ويُحْكِمُ شأن الإعراب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها، وليس من العِلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونُطقه، وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل“[2].
أما اللغة في بعدها الفعلي فيعتبرها ابن خلدون ملكة؛ بمعنى أنها صفة راسخة في النفس تمكن الإنسان من التعبير عن المعاني، وتمامُها يقاس بالنظر إلى التراكيب اللغوية لا المفردات، فالتراكيب هي التي تؤدي المعنى المقصود من المتكلم.
وذلك حسب قوله: “اعلم أن اللغات كلها ملكاتٌ شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتُها وقصورُها بحسب تمام الملكة أو نقصانِها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذٍ الغاية من إفادة مقصودِهِ للسامع“.[3]
كما يؤكد ابن خلدون أن الملكة غير الطَّبْع، وأن الخلط بينهُما من سمات العوام. إن الملكة في تصوره قبل اكتسابها تكون شعورية، وتصبح لا شعورية بعد اكتسابها. أما الطبع؛ فإنه غير شعوري منذ البداية لأنه فطري. ويمثل ابن خلدون لهذا الخلط بكيفية اكتساب العربية الفصحى؛ إذ ليست طبعا جاهزا دون تَعَلُّمٍ أو مِران أو ممارسة كمـــا يعتـقد البعض، “فالملكاتُ تُكتسَب من أعراف التخاطب في الأمصار، والأمصار تتعرض للفتح والاختلاط بين أجناسِها وتغيِّرُ حُكامها، وكل هذا يؤثر في نوع الملكات التي يكتسبها أبناء تلك الأمصار“[4] .
ويرى ابن خلدون أن بناء الملَكة اللغوية؛ لا يتم إلا بتكرار الأفعال. لأن “الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالا، ومعنى الحال؛ أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة“[5]؛ حيث قسم الأفعال المكررة إلى ثلاثة أقسام، فيأتي التكرار الأول ويُسميه صفة متغيرة غير راسخة، ويأتي التكرار الثاني الذي تُكرَّرُ فيه الصفة ويسميه “حالا”، وهي صفة متغيرة غير راسخة، وفي القسم الأخير تكرر “الحال” فتُثبت وتسمى ملكة؛ أي أن الملكة عند ابن خلدون تحدث على النحو التالي:
أما في حديثه عن ظاهرة الاكتساب اللغوي، فاللغة في نظره؛ يكتسبُها الإنسان بشكل متدرج غير مقصود، فتبدو هذه المقدرة وكأنها طبيعة وفطرة، وهو بذلك يقف موقفا معاكسا للاتجاه الذي يعتبر اللغة تكتسب بالفطرة وحدها، ويقصي دور المحاكاة في اكتسابها قائلا: “إن الملكات إذا استقرت ورسخت في مجالها، ظهرت كأنها طبيعة وجِبِّلَة لذلك المحل، ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لا يعرف شأن الملكات؛ أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعي، ويقول: “كانت العرب تنطق بالطبع، وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع “[1].
إن ابن خلدون في تصوره لاكتساب اللغة؛ ينطلق من محورين أساسيين؛ أحدهما أن الإنسان كائن لغوي بالفطرة؛ أي أنه مؤهل لاكتساب اللغة، والثاني أن الإنسان يكتسب اللغة كأي صناعة أو مهارة أخرى. وهو بذلك يتوافق في المحور الأول مع النظرية المعرفية في تصورِها على أن الإنسان مزود ببعد بيولوجي (L.A.D) يؤهله لاكتساب اللغة.
أما كيفية استثمار هذا البعد فلا يتردد ابن خلدون في وضع برنامج تعليمي قائم على الاستماع والحفظ والتقليد وتكوين العادات اللغوية، إلى أن ينتهي إلى ما أسماه بالملكة التي أصر فيها على مجموعة من العادات الراسخة؛ أي أنه يلتقي في المحور الثاني مع النظرية السلوكية التي تنظر إلى اللغة على أنها عادات تنشأ من حاجة الإنسان للتواصل مع الآخرين؛ حيث يستمِعُ ثم يحفظ ويُقلِّد، وبعدها ينطق معبرا عن حاجاته ومتطلبات حياته؛ دون الحاجة إلى تعلم قواعد اللغة النظرية.
إن ابن خلدون يميز بين نوعين من عمليات اكتساب اللغة؛ نوع يتم فيه اكتساب اللغة عن طريق الاحتكاك بالمحيط وسماع لغتِه، فيحاول الطفل إتقانها موظفا قدراته الذاتية والذهنية إلى أن تصير ملَكة راسخة فيه؛ إذ أن “المتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله وأساليبَهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقَّنُها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقَّنُها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر، إلى أن يصير ذلك ملكة“[2]؛ أي أن الاكتساب اللغوي يتم عن طريق السماع الذي يعتبره ابن خلدون أبو الملكات.
أما النوع الثاني فيقوم فيه اكتساب اللغة على الحفظ و المران بدل السماع، ويتطلب وجود محيط لغوي مشابه للغة المراد تعلمها؛ حيث يقول:” ووجه التعلم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السَّلَف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم“[3]. وتشكل هذه الخطوة محورا أساسيا من محاور برنامجه التعليمي في بناء الملكة.
أما هدفها فيتجلى في أن يتنزل الطفل “لكثرة حفظِه لكلامِهم من المنظوم والمنثور منزلةَ مَن نَشَأَ بينهم ولُقِّن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصُل له الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة“[4].
إن اكتساب الطفل للُغتِه كأحد متحدثيها يتطلب حفظ كلامِهِم وكثرة استعماله إلى أن يجري على اللسان بصورة طبيعية، انطلاقا من تكوين بيئة تعليمية مصطنعة مشابهة للبيئة الطبيعية.
[1] : المصدر نفسه، ص: 387.
[2] : المصدر نفسه، ص: 378.
[3] : المصدر نفسه، ص:384.
[4] : المصدر نفسه، ص: 384.
[1] : بحوث في اللغة والتربية، محمد أحمد عمايرة، دار وائل للطباعة والنشر، عمان، ط1: 2001، ص: 195.
[2] : مقدمة ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدروبش، دار البلغي، حلبوني، مكتبة الهداية، دمشق، ج2، ط 1، 2004، ص: 388.
[3] : المصدر نفسه، ص: 378.
[4] : المصدر نفسه، ص:378.