يكثر الحديث والتحليل والتفسير في مواقع التواصل الاجتماعي عن الكائن الأكثر غرابة واستفزازاً للفضول، فيكتب البعض معايبها ويذيل نصه ب لا تتزوجها، ويرد الآخر بتعداد مزاياها “مهشتجا ” لا تتزوج إلاها! من هي ولما تحدث كل هذه الفتنة !
إنها المرأة القارئة تلك المرأة الأجمل والأبسط والأعمق من كل البهارات التي تضاف على تفاصيلها، فهي صندوق يعج بالمفاجآت والروائع، فقد تستهين وتستغفل سطحيتها حينا عندما تكتب عن سذاجة شعورها وقد أحرقت طبختها المفضلة، وتدهش غرورك حينا آخر في جلسة فكرية عميقة، فهي عبقرية حين تفكر بسيطة حين تحب وتشعر.
لا تستغرب وأنت تقرأ في التاريخ كيف تهب العديد من النساء منتوجاتهم الفكرية والفلسفية وبحوثهن الكثيرة لمن يحبونه، لشركائهم في الحياة كأمثال “جان بول سارتر” وعشيقته “سيمون دي بوفوار” ومقالاتها في الفلسفة الوجودية والكثير من النماذج المشهورة، فالمرأة بعكس الرجل تهمل التاريخ ولا تبالي أنصفها أم لم يفعل، فهي بغريزتها المعطاءة تتدثر خلف حبها وعطائها وتهدي كل مآلات جهدها لمن تحب.
قد تتلخص أمنيتها في أسرة علم، وبحوث تتقاسم فضول السؤال فيها وشريكها، تحكي الحفيدة “عابدة المؤيد العظم” في كتابها هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي عن شغف البحث في جدها وكيف كان حريصاً على زرع فتنة التساؤل والبحث بينهم كي يغرقوا بين الكتب بمنهجية علمها إياهم. قد يكون شغف الفتاة القارئة هو صورة كهذه يجري العلم منها مجرى الشغف والحب.
إن المرأة القارئة تعي جيداً أن خطاب الصراع بينها وبين الرجل ما هو إلا تضليل لها عن غاياتها، فمعلمها العميق والراسخ هو أسرتها
بل وقد تتلخص إحدى أمنياتها بسلسلة كتب لكاتبها المفضل مرفوقة بوردة افتراضية! نعم افتراضية، فهي رغم شغفها برائحة الأوراق إلا أنها تكون أسعد حين تجد من يشاركها شغف الصفحات ومعانيها، فالحب عند القارئة هو ذلك التراشق الموسوم بالمعاني والكلمات والاقتباسات المغرية من الكتب، وأكبر فتنتها هي أن تكون الكلمات من إنتاج محبوبها بعد أن صقلته كثرة المطالعة، قد يكون أيضاً غاية سؤلها أن يكون لها مركز للبحث تتشارك وإياه مشروعه فيغرقان سويا في الكتب والنهل من مباحثها، وعائلة تلقمها الشغف قطرة قطرة.
إن المرأة القارئة تعي جيداً أن خطاب الصراع بينها وبين الرجل ما هو إلا تضليل لها عن غاياتها، فمعلمها العميق والراسخ هو أسرتها، فهي بعض لكل متلاحم متناغم يعي جيداً رسالة التكامل وينبذ الانشطار والانفراد بالذات، قد يشير البعض لتلك الحالات القارئة والمتمردة عن ما ذكر أعلاه، سنجد بتأمل بسيط أنها حالات متذبذبة تائهة، أودت بها البوصلة نحو اللامعنى فأذابت كل قواعدها الصلبة من مبادئ وغايات، وأحدثت فيها تناقضاً بين غريزتها وبين جهلها للحقائق، فهي حالات لا معالم لها ترى في الرجل ندا يسرق حضورها وكينونتها فتقع في فخ الهواجس وتغرق في التيه لأخمسها.
إن المرأة تبقى وفية لشغفها، بل وتربيه وليداً، فتتخذه سبيلاً عسى يأتي يوم ويبزغ في ذريتها
حديثنا الآن عن المرأة التي لا ترى في الرجل خطورة على ذاتها وتفردها واختلافها، حتى وإن بلغ عتيه في الذكورية والقمع، فذاتها تشرق بذاتها وعطاؤها يشيد بكينونتها، فهي لا تحتاج من الرجل عرفانا بأنها تماثله وتشاركه في شؤون حياتها لأنها تفعل حقا، إن الذكوري شخص معتل الفهم تراه القارئة كما ترى أي مريض تبقى أعراضه قزمة على أن تنال من شغفها.
بإسقاط بسيط نجد أن المجتمع يحكي مئات القصص عن نساء مسهن طائف من تلك العنتريات الموبوءة فحُرمن من شغفهن بالدراسة والعلم، لكن تلك الجمرة لم تنطفئ بل أوقدت ناراً من العلم والأدب يقتبس المجتمع كله من أنوارها ودفئها، ربت شغفها في ذرية تقدس العلم وتجليه بل وتجسده في أعمال يشهد لها من حولهم.
إن المرأة تبقى وفية لشغفها بل وتربيه وليداً وأملاً فتتخذه سبيلاً عسى يأتي يوم ويبزغ في ذريتها ساطعاً، فكيف بنا ونحن نتحدث عن امرأة قارئة سنح لها الزمن من أن تنال حريات أوسع أفقاً، ومنابر أكثر تنوعاً للعلم والتدارس، هذا وتأثيرها يتعدى فردها لمجموع ما تربي وتنشئ.
فالأب أحادي المنح والإحاطة بعكس الأم التي يتجزأ شعورها وفهمها بين أطفالها، فتهب كل طفل منها جزءاً من تطلعها وشغفها بما يتميز به من شخصية وأسلوب، ولكم انضوت جمرة رجل نهم للكتب والعلم بعد أن أختار شريكة سطحية لا تفقه في الحياة إلا مثلثها المميت المحشو بالمشاكل والترهات، وكم من رجل أشرقت مداركه واستنار فكره بشغف امرأة أرادته للعلم ولها، فأعانته على البحث والمطالعة، واستفزت عقله للتساؤل ومنه للغرق بين مناهل العلوم.
إن المرأة أكثر حرصاً إذا أحبت وطمحت من الرجل، فهي لا تهمل الجزئيات ولا تتعبها البدايات، ببساطة المرأة القارئة هي أسرة قارئة نحو مجتمع قارئ.