اللبنانية الفرنسية “كلوي دولوم” تكتبُ بيانَ النسويَّة الرقمية
منذ بداية مسيرتها الأدبية، ما برحت الكاتبة اللبنانية ــ الفرنسية كلوي دولوم تستكشف الحميمي والأنثوي، كما يشهد على ذلك العديد من كتبها، وآخرها “يا أخواتي العزيزات” الذي صدر حديثاً عن دار “سوي” الباريسية وتتوقّع فيه ليس أقل من تواري السلطة البطريركية وقدوم عالمٍ جديد.
مكتوبٌ كبيانٍ قاطع، بنبرةٍ سوداء تعزيمية، وبجُمَلٍ صاعقة وصافِعة، يتوجّه هذا الكتاب إلى النساء عموماً وحلفائهنّ، وإلى النساء الفرنسيات خصوصاً اللواتي يسائلن بجرأة عادات وواقع وطنهنّ حيث يتعرّض عشرة في المئة من النساء إلى الاغتصاب وتُقتَل امرأة على يد زوجها كل ثلاثة أيام. كتاب يمكننا أيضاً أن نقرأه كدليل نضالٍ شعري، وأن نشهره كسكّينٍ عند أقل اعتداء ذكوري.
ولا عجب في كتابة دولوم هذا النوع من الكتب وبهذه الطريقة، فمن يعرفها يعرف أنها اضطرّت منذ نعومة أظافرها إلى مواجهة أكثر أنواع التمييز الجنسي راديكاليةً إثر مشاهدتها عملية قتل أمّها على يد أبيها: “يتعذّر إهمال نتائج الهيمنة الذكورية في البيئتين الخاصة والعامة، حين نعرف اليتم بعد ما سُمِّي آنذاك مأساةً زوجية”، تقول الكتابة. ولا عجب بالتالي في شخوصها بعينٍ عليمة بآليات تسلُّط الرجل على المرأة وفي فهمها هذه الآليات بشكلٍ شبه تلقائي. لكن بدلاً من الاكتفاء في كتابها بإجراء جردة حساب، تقترح خطّة هجومية يمكن اختصارها بكلمة واحدة، الأخوّة: “أن نكون أخوات يلغي فكرة الهيمنة والتراتبية أو الهرمية”. وفي هذا السياق، تدعو إلى التكاتف والتعاون في وجه التحيُّز الجنسي، إلى نسوية ناشطة، وإلى “عودة الساحرات اللواتي تكمن خطورتهنّ في كونهنّ تعلّمن وصفة الاتحاد السحرية”.
ولا شكّ في أن دولوم اختارت عمداً وضع نصٍّ قصير نسبياً وكتابته بلغة مشدودة على ذاتها نظراً إلى ضررورة التحرّك الطارئة وواجب الشهادة والانخراط في حركة التاريخ الذي تدور أحداثه اليوم. إذ ثمة شيء حصل داخل الفضاء العام للشبكة العنكبوتية يتعذّر إنكاره أو إهماله: نساء كثيرات ألقين بشهاداتهنّ، دعمنّ بعضهنّ بعضاً، وأوصلن إلى مسامعنا خطاباً آخر، سردية جديدة. وفي هذا السياق، وضمن سيرورة النضال التاريخية من أجل حق المرأة في التصويت، مساواتها بالرجل أمام القانون، حقّها في التصرّف بجسدها كما تشاء، تبدو “النسوية الثانية” كالتكملة أو البديل الحقيقي لـ “النسوية الأولى”: “بخلاف “مولينكس”، تمكّنت الشبكة العنكبونية من تحرير المرأة”، تقول الكاتبة بنشوة، وتضيف: “حقبتنا مفصلية ونشوتي كاملة. وفّرت الثورة الرقمية للنساء الأدوات الضرورية لتكاتفهنّ، وساهمت في انبثاق وعي لديهنّ بتشكيلهنّ “نحن” واحدة ومتعددة في الوقت نفسه، وبالتالي في تفجير جدران عزلتهنّ الضيّقة الماضية”.
وإلى إزالة الحواجز الجغرافية والاجتماعية والنفسية التي أمّنتها الشبكة المذكورة، تضيف دولوم الاستمرارية الزمنية. فإلى جانب إدراجها النضالات المعاصرة والأحداث الأخيرة ضمن تاريخٍ جماعي طويل، نراها تُدرِج هذه النضالات والأحداث داخل قصّة كل امرأة، أبعد من أي حقبة أو زمن. هكذا تتبدّى لنا هي بالذات في صفحات سيرذاتية سبق وعالجت موضوعها في عدد من كتبها السابقة، مثل “في منزلي تحت الأرض” (2009)، “امرأة لا أحد داخلها” (2012) أو “إلى حيث يدعونا الدم” (2013). وفي السياق نفسه، وضمن تحية إكبارٍ مؤثِّرة توجّهها إليهنّ، تحضر أيضاً النساء اللواتي سبقنها في النضال ونشطن “في زمنٍ لم تكن عبارتا “تحرّش جنسي” و”اعتداء جنسي” مستخدمتين بعد، زمن كانت جميع أنواع التحرّشات والاعتداءات على المرأة موجودة من دون أن تُسمّى”. أما نساء المستقبل، فتوجّه دولوم كتابها بكامله إليهن. نساء من جميع الأزمنة إذاً يجتمعن داخل نصّها ضمن “حلقة أفضل من عائلة” حيث قد لا ترغب واحدة منهنّ بذرّية لها، لكنها تلتزم حتماً بواجب نقل إرثهنّ المشترك.
- نسوية تعاطفية
ويتعذّرعلى القارئ عدم التأثّر بشمل الكاتبة كامل التجارب النسائية في عملها، خصوصاً مع استخدامها المكرَّر صيغة “أكتب من قِبَل تلك النساء التي…” التي تسمح لها باستحضار جميع الحالات التي تقع المرأة فيها ضحية النزعة الذكورية المرضية. صيغة سبق واستخدمتها الكاتبة الفرنسية فيرجيني دوبانت في كتابها “نظرية كينغ كونغ” (2006) الذي يتقاسم كتاب دولوم معه راديكاليته وبعض مميزات كتابته.
وبالتالي، يتعلّق الأمر في “يا أخواتي العزيزات” بنسوية نضالية، وفي الوقت نفسه، بنسوية “تعاطفيّة” (empathique) لذهابها أبعد من النساء، في اتجاه مختلف تجارب الأقليّات المؤلمة ومجموع حالات الطغيان، مبتكِرةً سياسة محرَّرة من العلاقات السلطوية والهوياتية، وقادرة على ضمّ أولئك الرجال الذين هم أخوة للنساء. انفتاح لا يحضر في الكتاب بشكلٍ نظري أو مجرَّد فحسب، بل أيضاً من خلال أدوات أدبية ملموسة وموظَّفة في خدمة هدفه. وفعلاً، تتجلى في كتابة هذا النصّ أبحاث ومناورات داخل اللغة تمدّ خيطاً من العملاق رابليه إلى مواطنته مونيك ويتيغ (روائية ومنظِّرة نسوية)، ويتجاور داخله الأسلوب الاستدلالي بشعارات وأغانٍ، ما يحوّله إلى استعراض أدائي فاتن وفاعِل يعكس قدرات دولوم الكتابية المدهشة وإيمانها بسلطة الكلمات، خصوصاً تلك التي نبتكرها أو نمنحها معنى ووظيفة جديدتين. وبشكلٍ رئيس، يرتكز هذا العمل على الكلمات، من أجل مدّها بقوة جديدة، على تقنية “الاختطاف” (détournement) التي ابتكرها الدادائيون وطوّرتها حركة “مبدعي الأوضاع”، وتستثمرها الكاتبة بطرافة ناجعة وسخرية قارصة وعبقرية نادرة. هكذا تتفجّر كلماتها مخلِّفةً ألفاظ مستحدَثة غريبة بقدر ما هي معبِّرة.
باختصار، لمن فاتته ظاهرة “أنا أيضاً (Me Too)، لمَن لاحظها من دون التوقف عندها، أو لمَن تابعها ودعمها أو حتى انخرط فيها، يشكّل كتاب دولوم فضاء تقاطُر وإصداء مثالياً، ونصّاً يستمدّ قيمته من سلطة خطابه وأيضاً من طابعه الظرفي. نصٌّ انبثق من مأساة حقبته ــ حقبتنا ــ لكن، بدلاً من رفضها، نراه ينخرط فيها، وفي الوقت نفسه، يتحلّى بما يلزم كي يفرض قراءته على الأجيال اللاحقة من “الأخوات” كأحد أهم النصوص النسوية في مطلع الألفية الثالثة.