سرديّات نسائيّة عن النكبة: شهادات وأدوار
- البداية من النكبة:
وما أدراك من ذكراها الثانية والسبعين لسنة 2020. ذكرى ما جرى للفلسطينيين/ات في 15 ماي/ أيار سنة 1986، يحييها جميعهم في مخيّماتهم بالأردن وسوريا ولبنان والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة وفي دول الشتات التي احتوتهم منذ تهجيرهم. وذكرى هذه السّنة لم تتمّ في ظلّ فعاليّات وتجمّعات كما العادة بل ظلتّ حبيسة الإنترنيت ووسائل الاتّصال الالكترونيّة بسبب جائحة فيروس “كورونا”.
واقتصر فيها الفلسطينيون/ات على التشارك في هذا الفضاء السيبراني رجالا ونساء، جيلا بعد جيل، للتذكير بما وقع وجرى لهم آنذاك، بما قامت به العصابات الصهيونيّة المسلّحة سنة 1986، إذ هجّرت ما يزيد عن 800 ألف فلسطيني/ية إلى الضفّة الغربية وقطاع غزة والدول العربيّة المجاورة، ونكّلت بهم، واستولت على ما يقارب الـ 774 قرية ومدينة فلسطينية تابعة آنذاك لقضاء عكا، وبيسان وبئر السبع وغزة وحيفا والخليل ويافا والرملة والقدس وجنين والناصرة والطبريّة، وطولكرم حسب التقسيم الإداري لفلسطين قبل الانتداب البريطاني(بين 1920 وحتى 1948).
وما كان للنساء أن يغبن عن سرديّات هذه النكبة التي بدأت معها الحرب العربيّة الإسرائيليّة الأولى وتحوّلت جرّاءها الخارطة الجغراسياسيّة في الشرق الأوسط بولادة قيصريّة لكيان صهيونيّ حلّ على أرض فلسطين وشرع ينخر باستمرار الوجود الفلسطيني أرضا وشعبا. بل عانين كما الرّجال فصولا من رواية النكبة وكنّ من شخوصها أبطالا وضحايا، وما يزلن في نهاياتها المفتوحة يطالبن من مخيّماتهنّ والدول التي احتوتهنّ بحقّ العودة إلى ديارهنّ التي هُجّرن منها قسرا.
واعتمدنا في تقصّينا لهذه السرديّات على تعدّدها مجموعة من المصادر تتمثّل في كتاب شاهد على النكبة شاهد احتلال للصحفيّين كمال زكرانة وجمانة أبي حليمة، الصادر بعمّان، دار أمجد للنشر، طبعة أولى سنة 2016. وثلاثة ملفّات صحفيّة: “ذكريات عن نكبة اللّد” لميرفت صادق في الملفّ الصحفي الذي رصد لـ” نكبة فلسطين .. الذكرى الـ67″، و” ما أخرجته نساء فلسطين معهنّ أثناء التهجير في العام 1948″ لرفعة أبي الريش، و”نساء الريف الفلسطيني حتّى النكبة” لرنين جريس، وكلاهما يردان بجريدة حقّ العودة في عددها 18. ويتّخذ حضور النساء في هذه المصادر أربعة مستويات :
- 1-مستوى شهادة العيان على ما جرى وما كان:
قدّمت النساء في سرديّاتهنّ عن النكبة ما عاينّه بحواسهنّ وأجسادهنّ من هجوم على مدنهنّ وقراهنّ وبداية تقتيلهنّ وإخراجهنّ عنوة من منازلهنّ. وتورد الصحفيّة ميرفت صادق شهادتين لكلّ من “عائشة أبي الروس” و”غصون سالم عداسي عن ذكرياتهما في طفولتهما عن نكبة ” اللّد” وهي تابعة لقضاء الرملة. فالأولى تروي بالتفصيل ” المجزرة الشهيرة التي قتل فيها العشرات في مسجد “دهمش” الذي جمع به الإسرائيليّون العشرات من أهالي اللد، وقتلوهم جميعا”. أمّا الثانية فتعرض تشرّد أهالي اللدّ إلى الجبال بما في ذلك هروب عائلتها إلى غزّة ثمّ رام الله وعمّان، وتذكر القصف ومكبّرات الصوت التي ينادي بها اليهود ويطلبون من جميع المسلّحين تسليم أنفسهم. وفي سياق الحديث عن العائلات المهجّرات ينقل كمال زكرانة وجمانة أبو حليمة شهادات لنساء عائلة ” سمور” بدير ياسين التابعة لقضاء القدس، يصرّحن فيها أنّهنّ” لم ينسين كيف اعتقلن بعد المجزرة وتعرّضن للإهانات وسرقت منهنّ مقتنياتهنّ الشخصيّة كلّها (…) إلى أن سلّمن إلى الصليب الأحمر”.
وتؤكّد هذه الشهادات أنّ النساء يعتبرن من المراجع الأساسيّة للأحداث التي جرت في تلك الفترة ولا يمكن للمؤرّخين أن يتغاضوا عنهنّ في التأريخ للنكبة ولعمليات التهجير التي تتمّ بشكل ممنهج فتقتلع أسرا وعائلات برمتها من عروقها وأصولها من أجل توطين أسر أخرى وتشريع استيطانها.
- 2- مستوى الدور الاجتماعي، وتأمين المأكل والملبس:
وهو يندرج في صلب الدور الذي تضطلع به النساء الفلسطينيّات، وما كان ليغيب عنهنّ زمن النكبة ولحظة التهجير، فهنّ في ذروة القصف وسياسة التهجير والترهيب كنّ يجمعن ويجمّعن ما يمكن حمله وإنقاذ ما يؤود رمق أسرهنّ في الأيام القادمة التي لا يعرفون نهايتها. وينقل في هذا الصدد رفعة أبو الريش عن ” زهرة يوسف أبي طه” من الرملة حديثها عمّا قامت به حماتها أثناء الحرب إذ:” قالت لنا إلي ولسلافاتي خذولكم طنجرة بتسلقوا فيها شويّة شغله للأولاد وحملت أنا من لهفتي طنجرتين وتشت العجين [لجن] وأواعينا كانت حماتي حطاهم [وضعاهم] في وجه مخده (…) وذهباتنا أنا وسلافاتي كانت حماتي لفّاهم على أجريها حطّاهم بمحارم،(…) ولولا عملتها هذه لمتنا من الجوع بعد الهجرة طول الوقت نبيع منه ونصرف على حالنا”.
وكان دور تأمين المأكل والملبس هو نفسه الذي تقوم به النساء اللواتي يستقبلن آنذاك اللاجئين/ات. وتنقل رنين جريس شهادة لإحدى المعيلات للاجئين وهي ” نديمة طنوس” من قرية المكر التابعة لقضاء عكّا أنّها ومجموعة من نساء قريتها” كل يوم كنت أحلب البقرات وأعمل ألبان وأجبان ونروح ع الكنيسة عشان نطعمي اللاجئين. نسوان البلد كانت تعجن وتخبز كل يوم وتبعث للكنيسة والجامع“. وهكذا نتبيّن أنّ تأمين المأكل للعائلات المهجّرة دور قامت به النساء من الطرفين سواء النساء المهجّرات أو اللواتي استقبلن اللاجئين/ات، وفي ذلك دليل على حسن تدبير النساء وتحلّيهنّ بقيمتي العطاء والترابط على أرض الواقع زمن النكبة.
- 3- مستوى الدّور النضالي والحفاظ على الوحدة الأسريّة:
ويظهر ذلك حينما تأخذ النساء على عاتقهنّ تأمين عودة الرجال والأبناء الذين هجّروا أو رحلّوا إلى الدول المجاورة، وهنّ بذلك يجابهن المخاطر التي قد تواجههنّ في الطريق. ونتبيّن هذا الدّور ممّا تنقله رنين جريس عن “غوسطة دكور” من قرية ترشيحا قولها “ وقتها كانت النسوان تطلع تجيب الرجال من لبنان، لأنّه الرجال كانوا يخافوا يطلعو أحسن ما يطخّوهم”. كذلك كنّ يتسلّلن إلى القرية لجلب بعض الممتلكات التي لم تتمكن الأسرة من إخراجها وحملها معها أثناء التهجير وتذكر أيضا ” غوسطة دكور” أنّه“ كنا كتير مرّات نيجي بالليل ع عمقا عشان نوخذ أغراض من بيوتنا، زيت، سميدة، قمح، رز، سكر، طحين.“..
وبذلك ساهمت النساء بقسط كبير في الحفاظ على الوحدة الأسريّة في ظل العدوان والتهجير وجازفن بحياتهنّ في سبيل بقاء الأسر واستمرارها. وسياق الحرب لم يجعل النساء يكتفين بدورهنّ في الفضاء الداخلي وإنّما دفعهنّ إلى أن يخرجن إلى الفضاء الخارجي مقاومات ومناضلات.
- 4- مستوى الدور الفني، والتعبير عن لوعة التهجير والشوق إلى العودة:
صاغت النساء المهجّرات نصوصا غنائيّة عبّرن من خلالها عن لوعة التهجير والتشرّد، وشكّلت مادّة فنيّة هامّة للتراث الفلسطيني الذي يتنفّس في جزء منه من قلوب النساء فينبعث من شغاف قلوبهنّ نغما شجيّا وكلمات مكلومة ترثي نكبتهنّ، وفي هذا الصدد يعلو صوت ” خزنة سمعان” فيما نقلته رنين جريس عنها “والصبر يا مبتلي والصبر يا أيوب…والصبر جبتو معي حتى ينمحى المكتوب… والصبر جبتو معي من يوم هجرتنا…امانه يا يما ان متت حطوني بنواعش”… واقبروني بالوطن على دروب الحباب”. وهذه اللوعة وما يرافقها من شوق إلى العودة لم تغب عن الشاعرات الفلسطينيّات أمثال فدوى طوقان، أسماء طوبى، ثريا ملحس، سلمى الخضراء الجيوسي، دعد الكيالي وغيرهنّ… فرغبتهنّ في العودة ملحّة وقد عبّرت عنها فدوى طوقان في قصيدة نداء الأرض، بقولها” وظلّ المشرد عن أرضه…يتمتم : لابدّ من عودتي…وقد أطرق الرأس في خيمته..وأقفل روحا على ظلمته…وأغلق صدراً على نقمته.
ولا نشكّ حينئذ في أنّ النساء ساهمن بشكل فنّي جليّ في حفظ الذاكرة الفنيّة الجماعيّة لشعب أرضه محتلّة وإرثه يتعرّض لحملة سطو غير مسبوقة في تاريخ الشعوب والثقافات.
- النهاية في حقّ العودة:
كشفت السرديّات النسائيّة عن النكبة شهادات مهمّة للنساء بوعيهنّ الطفولي المبكّر بتفاصيل التهجير والتشريد والتقتيل والتجويع، وبيّنت أدوارا قامت بها النساء بوعي الشابات والكهلات والعجائز اللواتي شاركن بالمساعدة والمخاطرة بحياتهنّ من أجل ذويهنّ، ورسّخن ذاكرة التهجير وتجربة المعيش اليومي في المخيّمات والشتات من خلال شجن فنّي شعري يستعيد لحظة النكبة وأوجاعها والشوق إلى العودة، فكنّ بالفعل شريكات في التأريخ للنكبة وهنّ الآن مسؤولات عن تاريخ العودة… نعم حقّ العودة ولا سواه حقّا ولو إلى حين..