إصداراتالأدب النسويسرديات

“التمثيل السرديّ النسويّ”.. من تأنيث السرد إلى تأنيث النقد

- رشيد الخديري -

عن مكتبة سلمى الثقافية في تطوان، صدر للقاصة والباحثة المغربية، نجاة بوتقبوت، كتاب نقدي بعنوان “التمثيل السردي النسوي، حوارية الخطاب والمتخيّل” (ط1، 2021، 347 صفحة)، وقد تناولت فيه الكاتبة بالدرس والتّحليل نصًا روائيّا لزهور كرام تحت عنوان “قلادة قرنفل” كنموذج.


تأتي هذه الدراسة في سياق نفض الغبار عن الإنتاج السردي المكتوب بنون النسوة من جهةٍ، وأيضًا لتأصيل الوعي بأهميّة الكتابة بنفسٍ مغاير ومختلف، وتجذيره في الذاكرة الثقافيّة في المغرب من جهةٍ ثانيةٍ. وللاقتراب أكثر من هذه الدراسة، والكشف عن أهميّتها وراهنيتها وجدّتِها، وما تطرحه من منافذ في مسار التجربة الروائيّة لزهور كرام، إضافةً إلى طرائق المقاربة والتأويل، نذكر ما يلي:

1 ـ سَعْيُ الناقدة إلى الحفر في طبقات الكتابة الروائيّة النسائيّة في المغرب، من خلال رصدٍ تاريخيّ لإبدالاتها وكشوفاتها، خصوصًا على مستوى النصوص الروائيّة الأولى، إذ يُعدُّ نص “الملكة خناثة” لأمينة اللوة، أوّل نصٍ روائيّ نسوي صَدَرَ في خمسينيات القرن الماضي، وخلَّفَ إبّان صدوره موجة من الانتقاد من زاوية التجنيس،

فهنالك من عَدَّه قصة، وهنالك من النّقاد من اعتبره رواية، ومن المهم، في هذا السّياق، تطرّق الكاتبة إلى واقع المرأة المغربية في تلك اللحظة، إذ عَانَتْ من الجهل وسيطرة العقليّة الذكورية وسطوة العادات والتقاليد، قياسًا بما عرفته المرأة العربية من طفرةٍ نوعيّة في كافة المجالات، لا سيما المرأة المصرية واللبنانية، فالكتابة السردية النسائية في مجملها، “عرفت بدورها تحولًا مهمًا، انعتاقًا من أسر الفحولة والتقاليد، ووعيًا مختلفًا، سواء على مستوى التجريب، أو على مستوى اختيار الموضوع.

فقد تحولت من وعي إلى وعي آخر، بحيث لم تعد، كما نقرأ في كتابات قصصية كثيرة، حبيسة رؤية للجسد والجنس، لعلاقة الذكر بالأنثى، وإنما تحولت إلى قضايا مجتمعية مختلفة”(1). ووفق هذا المعنى، فإن الكتابة السردية في المغرب قد تحرّرت ـ نسبيًّا ـ من التمثيل الاجتماعي للمتخيّل الفحوليّ الذي كرّسته كتابات عديدة في هذا السياق، وهو تحوّل جذريّ على مستوى الوعي بالكتابة من جهةٍ، ثم الوعي بضرورة تغيير واقع المرأة من جهةٍ ثانيةٍ.

 

 

2 ـ تسليط الضوء على خصوصيّات الكتابة النسائيّة في المغرب، ودورها المركزيّ في التعريف بقضايا المرأة، وإسهاماتها في بناء مجتمعٍ حداثيّ تنويريّ، مما يستدعي باستمرار قراءة كل ما أنتجَ من “مرويات”، ومراجعتها وفق منظورات جديدة في المقاربة والتأويل، ذلك أنّ التصورات النقدية تتبدّل كلّ يومٍ، تتغيّر وتنتقل من مكان إلى آخر، وهو ما يستدعي قراءات بمنظورات جديدة ومُتجدِّدة.

3 ـ دمقرطة فعل الكتابة في سياق الولوج إلى عوالم الكتابة النسائيّة والاحتفاء بها إبداعيًّا ونقديًّا، من خلال تجلية أسرارها الكامنة في وجدان الأنثى ـ المبدعة، والوعي بقيمة الاختلاف، ومضاعفة الحسّ النقدي التأويليّ لديها. وعلى هذا الأساس، من جدالات الكتابة وشواغلها، يجيئُ هذا الكتاب قارئًا تجربةً زهور كرام السرديّة وملامحها الأساسيّة، وهي تجربةٌ لها وضعها الاعتباريّ في الساحة الثقافية العربيّة، والمغربية بالخصوص، وذلك بهدف الكشف عن خصوصياتها الفنيّة وتبيانِ تعدُديّة منابعها ومرجعياتها.

من هنا، نفهم، لماذا جَعَلَتْ الناقدة نجاة بوتقبوت سرود زهور كرام أفقًا لدراستها، ذلك أن رواية “قلادة قرنفل” تتعيّنُ بوصفها رواية التمثيل الاجتماعي للمرأة، من خلال إبراز مكانتها داخل فضاءٍ يموجُ بحالات الصراع والتجابه مع الآخر.

4 ـ التشديد على أهميّة الوعي بالذات في صلتها بالآخر، والتحرر من الرؤية المتصلّبة التي ترى في إبداع المرأة نوعًا من محدوديّة وقصورٍ، قياسًا بما يكتبه الرجل من إبداعٍ يَتَعَيّنُ وصفه بأنّه مُتفرِّدٌ وكونيّ. وفي هذا السّياق، تقول الكاتبة: “بعدما عرف الفن الروائي ازدهارًا ملحوظًا خرجت الكاتبة الروائيّة من مناطق الصمت والركون، والانتظار وعملت بجهد على خلق مناخٍ إبداعي يعترف بالكتابة النسويّة، ويجعلها تتجاوز عصر الهشاشات..”(ص 39.

بهذا التوجُّه الحريّاتيّ الناعم، استطاعت المرأة المبدعة إلغاء الصوت الواحد وإبراز موهبتها وقُدرتها على الإبداع والتميّز، وذلك “من أجل رفض المركزيّة الذكورية anrtocentrism، ورفض مطابقة الخبرة الإنسانيّة بالخبرة الذكوريّة، واعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعًا، وتجهد لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري وللتجربة الإنسانيّة الذي طال قمعه وكبته”(2)،

فالأساس في التجربة الكتابيّة هو القبول والتفرُد والأصالة، فـ”ليس هناك كتابة نسائيّة محضة، وكتابة رجوليّة محضة، بل هناك كتابات جيّدة، وكتابات رديئة”(3).

تستجلي نجاة بوتقبوت الأبعاد الجماليّة والفنيّة والدلاليّة من رواية “قلادة قرنفل”، انطلاقًا من التركيز على خصوصيّات الكتابة عند زهور كرام، وحضورها الوازن في المشهد السردي العربي، والمغربي على وجه الخصوص، إذ حَرِصَتْ على تحرير المرأة من تلك الصُورة النّمطيّة التقليديّة التي تواترت في سرديات الرجل، ففي هذه الرواية تحضر المرأة “المثقفة والأم والكاتبة والمناضلة والطالبة والموظّفة..

تعمل أغلبهنّ من موقعها الخاص على الانتصار للمبادئ العليا والقيم النبيلة”(ص 97)، وحريٌّ التنصيص ها هنا أنّ هذه الخصيصة لا تحضر في هذا النص الروائيّ فقط، وإنّما في أعمال سرديّة نسائيّة أخرى، ويكفي أن نذكر هنا رواية “عام الفيل” لليلى أبو زيد، على سبيل التمثيل لا الحصر، وفي ذلك إشارة لمّاحةٌ إلى قدرة المرأة على الإبداع والتفرُد، وتحرير ذاتها وكينونتها من رقابة الرجل وتسلُطه.

في هذا الكتاب، نلمسُ اشتغالًا أفقيًّا وعموديًّا في الآن نفسه، حيث عَمدت الدارسة إلى الولوج إلى عوالم الرواية التخيلييّة والبنائيّة والدلاليّة، مما يؤكَد أن هذه الروايّة توفِّرُ مساحات واسعة للإبداع، وكذلك تعرضُ تجربةً خاصّة بالمبدعة، ووفق هذا المنظور “يُحقِّقُ العمل الأدبي قيمته الفنيّة وشكله الجديد من خلال ما يودع فيه مؤلفه من إمكانيات تعبيرية وأسلوبية ينبغي أن تكون نتاج علاقة الكاتب القلقة بالكتابة، إذا أراد أن يتحرّر من رتابة الشكل وتكرارية النماذج”(4)، ولا شك أن المزج بين الذَاتيّ بالتخييليّ، له دور محوريّ في تغيير العالم.. في تغيير نظرة المبدع إلى هذا العالم، وامتلاك القيم الإنسانيّة الكونيّة الكفيلة بإخصاب المادة الكتابيّة وإثرائها.

 

 

وعليه، فإن التمثيل السردي النّسوي “جاء لِيموضع المرأة في موقع جديد تكون فيه فاعلة ومُنتجة. لها كلمتها الفصل في المواقف وفي حياة الشخصيات التي تعكسُ الواقع بشكلٍ آلي”(ص 316).

وعليه، فإن الكتابة النسائيّة صارت أكثر قدرة وعُمقًا على التمثيل الاجتماعي والإبداعي للمرأة، حيث أصبحت “رافدًا هامًا من روافد الأدب منذ الربع الأخير من القرن، وإن بدا حييًا مترددًا في بادئ الأمر، إلا أنه ما لبث أن اكتسب أسباب الجرأة، واهتدى إلى صوته المميّز، فوصل إلى درجة عالية من النضج”(5)، والاهتمام بإبداع المرأة هو ما يفرضُ الوعي بقيمة هذا الإبداع، وما ينطوي عليه من جماليات، بعيدًا عن الرؤية المتصلّبة التي ترى إلى إبداع المرأة نوعًا من المحدوديّة.

وهكذا، فإن هذه الدراسة، إضافة إلى سعيها التقرب من نبض النصوص الروائيّة، فهي تفتحُ منافذ للتلاقح بين التجارب والاطلاع على أفق إنساني دافقٍ وأرحب، لم يعد فيه مكانٌ للإبداع الأحادي، والرؤية البطريركية المكرّسة.

إن هذه الدراسة التي شيّدتها الكاتبة نجاة بوتقبوت تنم عن وعي بقيمة الاختلاف والمغايرة، وتصبُّ في نهر الممارسة النقديّة التي ترى في جذوة الإبداع، والكيان الأنثوي، على وجه الخصوص، أفقًا للتخييل، ومادّة جماليّة، يتعيّنُ رهانها الأساس في الولوج إلى فضاءٍ ثقافي إبداعي يُؤَمِّنُ للظاهرة الأدبيّة كيفما كان نوعها، شعرًا أو نثرًا، إمكانيّة الدخول إلى معترك النقد والمقاربة والتأويل، ولا شك في أن هذه المسألة تتطلّبُ التحرُّر من المنظورات الأحاديّة، واعتبار الإبداع مَلَكَة إنسانيّة، ولا علاقة لها بالجنس، أو العرق، أو الانتماء.


  • الهوامش:

(1) عبد الرزاق هيضراني: جداول الكتابة وأوفاقها الثقافية، في القصة القصيرة العربية المعاصرة، منشورات دائرة الثقافة بالشارقة، ط 1، 2017، ص: 19.
(2) يمنى طريف الخولي: النسوية وفلسفة العلم، مجلة عالم الفكر، العدد 2، المجلد 32، 2005، ص: 10.
(3) حسن اليملاحي: الكتابة النسوية، الاتحاد الاشتراكي، العدد 42، 30 يناير 2003، ص: 4.
(4) إدريس الخضراوي: الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب، أفريقيا الشرق، ط 1، 2020، ص: 318.
(5) جوزيف زيدان: مصادر الأدب النسائي في العالم العربي، النادي الأدبي الثقافي، ط 1، المملكة العربية السعودية، 1986.


بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى