السجل الإيمائي في الشرائط المصورة
يتميز الشريط المصور، شأنه في ذلك شأن الرواية المصورة، وكذا بعض الاستعمالات الخاصة بالزجاجيات أو الصور البينالية القديمة[1]، بطابعه السردي الخالص. إنه يحكي قصة يلعب فيها، وفق معايير بعينها، كائن مسكوك، أو كائن مؤنسن، دورا مركزيا؛ وهو الذي يظهر في واجهة المشهد، أو إن شئتم، هو ما يشكل واجهة الصورة.
فبإمكاننا سرد المغامرة ذاتها، من خلال سند لفظي، من قبيل الحكاية أو القصة القصيرة، دون أن تفقد شيئا من مضمونها. بل يمكن أن تتجسد هذه القصة من خلال الحركات الميمية أو من خلال الرقص أو الفيلم الخ. ذلك أن المغامرة يتم التعبير عنها، في الشريط المصور أو الرواية المصورة، من خلال سلسلة من الصور الثابتة، تُشكل كل واحدة منها لحظة داخل القصة، ويتطابق تتابعها مع التطور الزمني لأحداث هذه القصة.
فبقدر ما يتقلص دور اللفظي- إنه لا يتجاوز في الغالب كلام الشخصية، أو بعض الإشارات من السارد- تزداد أهمية الموقف والإيماءة والتعبير الجسدي، إلى الحد الذي تصبح فيه هذه العناصر هي التعبير المباشر عن مشاركة الشخصية في الحدث.
استنادا إلى هذا التتابع يتبلور سنن، وهو من طبيعة أيقونية، تدل السمة الغْرافية داخله على عنصر دال على وضع أو إيمائية جسدية ستصبح هي ذاتها دالة، منفردة أو في تآلفها مع عناصر أخرى، على لحظة معيشة في حياة الشخصية.
ويُكثف هذا التمثيل الآني داخله ويدل بدوره على مدة زمنية ستصبح في تآلفها مع مدد أخرى، أحد العناصر الدالة على الحكاية المسرودة. إن دراسة هذا السنن، أو بالأحرى، تقديم دراسة مقارنة لمختلف صيغه، هو ما نحاول القيام به هنا من زاوية جديدة، استنادا إلى النتائج المحصل عليها في ما أُنجز حول تحليل المقاطع السردية.
فلنترك جانبا كل ما يمكن أن يؤدي إلى الخلط بين الأشياء. وتعود أولى أشكال هذا الخلط إلى الخلاصات التي قد يتوهم البعض استنتاجها من دراسة هذا السنن الأيقوني في أفق الإمساك بالأسنن المستعملة في التجربة الواقعية.
فمن البديهي أن تكون هناك روابط بين هذه الأسنن، ولكن من السابق لأوانه محاولة تحديد طبيعتها: فنحن لا نستطيع، من خلال السجل الإيمائي الخاص بأبطال الشرائط الأمريكية، دراسة سوى الأسنن الخاصة بمدرسة ما؛ وهو ما يعني أن لا قدرة لنا على استنتاج ما يعود إلى خصائص السجل الإيمائي الأمريكي الواقعي: أولا لأننا نجهل كل شيء عما يفصل الأسنن الاصطناعية الخاصة بالتخييل ( المسرح، الميم ، الخ)
عن الأسنن الطبيعية التي تتحكم في سلوك الأشخاص الذين يحيون حياة واقعية (وفضلا عن ذلك لا نعرف إلى أي حد يمكن أن يؤثر الطابع المسرحي في السلوك الواقعي)؛ ولا نعرف ثانيا، في الحالة الخاصة بالشريط المصور ( وليس الرواية المصورة)، إلى أي حد يمكن اعتبار الغْرافية الدالة على الإيماءة والموقف والتعبير الجسدي نظيرا لتجربة حقيقية:
فمجموع المواضعات الغْرافية التي تدل على الارتعاش مثلا، ليس لها سوى رابط غامض مع إدراكنا البصري لسلوك الغير؛ وفي الختام، لا نستطيع فعل ذلك لأن عالم الشرائط المصورة هو كون شاذ[2]: فشخصيات من قبيل شخصيات والدي زناي تمتلك تشكلا جسديا يمنعها ( أو يجب أن يمنعها ) من القيام ببعض الإيماءات، أو ببعض الحركات الميمية الخاصة بالإنسان. وستكون لهذه الوحوش، فضلا عن ذلك، أهمية كبيرة في دراسة اللغة الإيمائية المستعملة في الشرائط المصورة:
إنها تُمكننا من التساؤل عن هوية الأعضاء الإنسانية الضرورية للتعبير عن بعض الإرساليات؛ وما هي تلك التي يمكن حذفها ( بعض الحالات الخاصة بالسلوك المسكوك)؛ وما هي تلك التي يمكن تعويضها بأعضاء أخرى تقوم بحركات معادلة (يستعمل الفيل مثلا خرطومه للقيام بما يقوم به الإنسان بحركات الذراع واليد). وهناك شخصيات أخرى لها، على العكس من ذلك، لها تركيبة وإيماءات إنسانية، ولكنها تستعملها من أجل القيام بأعمال خارقة غير إنسانية.
وستكون القضية هنا هي معرفة : ما هي الإيماءات التي تستخدم من أجل القيام بهذه الأعمال الخارقة: يمكن أن يكون تحليق سوبرمان مثلا شبيها بالحركات المستعملة في السباحة.
وهناك صعوبة أخرى تتعلق بالروابط الممكنة بين السنن الإيمائي العام، الذي نقترح دراسته في سياقنا هذا، الذي يعد مُرسله هو مؤلف الشريط المصور ومستقبله هو القارئ/المتفرج، وبين سنن إيمائي من طبيعة خاصة، هو السنن الذي تستعمله شخصيات المحكي من أجل التواصل في ما بينها ( ستكون الغاية من هذه الإيماءات والميميات هي دبلجة[3] وتعويض الكلام).
لا يجب أن نخلط بين إيماءة دالة على الغضب يحاول من خلالها المؤلف التدليل على النوايا العدوانية لشخصية ما، وبين تهديد تعبر من خلاله شخصية ما عن نواياها العدوانية تجاه شخصية أخرى. فهذا السنن يستوعب السنن الأول ( ينبه المرسل القارئ/المتفرج إلى أن شخصية ما تعبر عن غضبها من شخصية أخرى)، دون أن يقودنا ذلك إلى الخلط بينهما: فامتدادات هذا السنن أقل حجما من الأول،
ذلك أنه لا يعني سوى جزء من السلوك، وقد يكون لإرسالياته دلالات مختلفة على مستوى السنن الآخر: فقد يكون مركب من الإيماءات والميميات والتعابير الجسدية، في السنن الداخلي للشخصية، دالا على الرفق والنية السليمة واللين، ويدل في السنن الذي يتوجه من خلاله المؤلف إلى القارئ/المتفرج، على التصنع والزيف والأفكار المسبقة والحساب المنافق.
إن وجود سننين اثنين دال على صعوبة تواجه كل الأبحاث حول اللغة الإيمائية: يتعلق الأمر برسم الحدود الفاصلة بين الفعل ( المفترض فيه أنه غير دال) وبين الإيماءة ( القصدية والدالة)، ومن جهة ثانية تحديد الشروط التي يتم فيها تفكيك هذه الإيماءات أو هذه الأفعال، التي ينجزها أو لا ينجزها مؤلفها باعتبارها علامات، ويستقبلها المتلقي بهذه الصفة أيضا: فكل الإيماءات غير الإرادية التي “تخون” مؤلفها وتُقرأ باعتبارها دالة على الخوف والغضب والرغبة يمكن أن تُعتبر، عن حق، جزءا من لغة إيمائية: فحتى في الحالة التي يكون مؤلفها متحكما فيها، فإن المتفرج يَفُكها باعتبارها إرساليات.
هناك نقطة ثالثة في حاجة إلى تدقيق، ويتعلق الأمر بمدى إمكانية تعميم نتائج بحثنا هذا. ذلك أن مقولة السنن ذاتها هي ما يضمن لنا مبدئيا إقصاء الإيماءات والميميات ذات الطابع الاستثنائي الكبير التي لا يستطيع الجمهور الواسع إدراك معناها. على أن هناك بعض الظروف الاستثنائية التي يمكن أن تفرض علينا، ضمن سياق قصة بعينها، إنجاز بعض الإيماءات التي يمكن أن تكون مفهومة في سياق آخر. وعلينا أيضا إقصاء هذه الحالات الشاذة، أو على الأقل، ترْكها جانبا.
ومع ذلك، فإن أغلب الميميات والتعابير الجسدية، وأغلب المواقف والإيماءات تعود إما إلى أحاسيس أولية ( من قبيل الخوف والغضب والتحدي الخ)، وإما إلى تبادل سلوكي بين الأفراد من طبيعة كونية ( كالاعتداء والحوار والخديعة والنجدة )، وإما إلى أفعال عادية ( كالمشي والسباحة والقراءة)، وإما إلى عمليات تقنية مركبة، ولكنها قابلة لأن تُختصر في أنماط بعينها ( لا وجود في ما يبدو لاختلافات أساسية بين قيادة طائرة صغيرة أو سيارة للسباق)، وإما في الأخير إلى أنماط سلوكية مسكوكة خاصة ببعض المجموعات أو أفراد بعينهم ( الانحناءة على الطريقة الصينية، أو رقصة السلخ[4]، وتهاون الأطفال السيئين ).
وعوض أن نخشى أن ينتشر “السجل الإيمائي” للشرائط المصورة في كل المقاطع السلوكية الممكنة التي تستعصي على التصنيف، فإننا نراهن على الإمساك بمعجم محدود جدا.
وسيكون لهذا الحدس ما يؤسسه إذا نحن حاولنا تصنيف إيماءات الشرائط المصورة انطلاقا من مدلولاتها السردية ( نستدل على المفاجأة من الفم الفاغر ومن العينين الجاحظتين، ومن الوثبة ) لا من وصف للعناصر الجسدية الدالة ( تدل العينان الضيقتان على الحيلة، وتدل المفتوحتان على المفاجأة أو الدهشة).
والحال أن التعرف على العناصر الإيمائية الدالة ومفهمتها وتعيينها وتسنينها وتحديد قواعد تأليفاتها يُثير عددا هائلا من المشاكل التي لا يمكن الإحاطة بها إلا في نهاية البحث الحالي؛ ذلك أن مفصلة بنيات المحكي عملية مألوفة لدينا.
فإذا كانت دلالة الإيماءات والحركات الميمية من طبيعة سردية في الشرائط المصورة، فإن نتائج الأبحاث التي سعت، استنادا إلى مجهودات بروب، إلى تفكيك الكون السردي إلى مقاطع فعلية أساسية يمكن أن تطبق مباشرة على موضوعنا.
فلنأخذ على سبيل المثال مقطعا تقوم فيه شخصية بالقضاء على خصمها من خلال الإيقاع به في مصيدة، بعد أن تكون قد نجحت في كسب ثقته. فمن خلال أخذنا لأفعال وردود الأفعال المتعاقبة للخادع والمخدوع في الحسبان، سينصب اهتمامنا على تحديد الإيماءات والمواقف الميمية التي يمكن أن تكون دالة على:
-العدوانية الأولية لشخصية تجاه أخرى، وارتباطا مع ذلك، الثقة أو الحذر اللذين يمكن أن يصدرا عن الخصم؛
-البحث عن مخطط المعتدي والكشف عنه ( يمكن للعلامات الدالة على العمل الذهني في كل مراحله أن تدخل ضمن تأليف مع العلامات العدوانية والاحتقار والاستهزاء)؛
-المناورة المؤدية إلى الإغراء ( علامات دالة على الصداقة أو تقديم خدمة، وقد تكون مركبة، لأن الأمر يتعلق بتظاهر، من قبيل علامات تشير إلى الطابع المتكلف للأولى، فهي العدوانية الخفية)؛
-ثقة الضحية المخدوعة والمغرر بها ( مع تدرج تصاعدي محتمل يشير إلى المراحل التي قادت إلى الثقة وغياب الحذر)؛
-تفعيل المصيدة، عندما ترتكب الضحية الخطأ المنشود ( علامات يمكن أن تكشف عن الإصرار والفظاعة والسخرية والفرح المسبق)؛
-نجاح المصيدة الذي يمكن أن يوازيه، عند المعتدي، علامات الفرح والعدوانية والاستهزاء، وعند الضحية علامات الدهشة والعار والغضب.
هناك في مقابل كل مقطع كما تم تحديده، مركب من الإيماءات والمواقف والميميات الموجهة إلى الدلالة على مشاركة الشخصية في الفعل قيد الإنجاز. هناك بالتأكيد بعض المقاطع التي لن تكون مسننة داخل الإرسالية ( إنها متضمنة في القصة، ولكن لا تقوم الصورة والنص بتوضيحها )، أو ليست مسننة بوسائل أيقونية ( إذا كان الحوار أو التعليق هو ما يخبر عنها).
أو يمكن في الأخير أن يتم التدليل عليها من خلال وسائل أيقونية غير إيمائية ( يمكن التمثيل لاعتداء من خلال حجر يكسر زجاجا، أو طائرة تنقض على هدف دون الكشف عن إيماءات ومواقف المعتدي).
وهناك مراحل، على العكس من ذلك، قابلة لتسنين إيمائي متعدد يتجاوز الممكنات السردية: يتعلق الأمر خاصة بوصف مفصل لسلوك أداتي، فالعمليات فيه تتجسد في إيماءات يمكن أن تكون نظريا غير محدودة: يمكن التدليل على الاعتداء مثلا بطرق متنوعة، حسب سلاح وتقنية المعركة المستعملة.
وفق هذا التحفظ المزدوج يمكن التأكيد أن تحليل هذه الإيماءات والميميات المتطابقة مع اللحظات الأساسية للتجربة هي من نفس الأهمية التي تكتسيها المواجهة، وكذا البحث عن الوسائل التي تمكن من القيام بالمهمة، نجاحا أو فشلا الخ، كل هذا يكشف عن الجزء الأكبر من الدلالة المستثمرة فيها، وكذا في الدوال الأيقونية في القصة المروية.
تقدم لنا دراسة المحكي، بالإضافة إلى ذلك، إطارا مرجعيا مقبولا من أجل دراسة مقارنة للأسنن الإيمائية وفروعها. سواء تعلق الأمر باستخراج الخصائص الدائمة، أو تعلق بخصائص شخصية واحدة من خلال مجموعة كبيرة من المغامرات التي قد تكون متشابهة، ولكنها لا يمكن أن تكون متطابقة، أو شخصيات مختلفة، ولكنها تنتمي للحقل نفسه ( مخلوقات والدي زناي مثلا)، أو تعلق، على العكس من ذلك، بالكشف عن الاختلافات الممكنة.
إما بين شخصيات من أوضاع قابلة للمقارنة، ولكنها تنتمي إلى دوائر ثقافية مختلفة ( الأبطال الأمريكيون في “جولييت قلبي”، والأبطال الفرنسيون في “شارع الأمل”)، وإما بين شخصيات من الثقافة نفسها، ولكنها توجد في أوضاع مختلفة (لن تكون إيماءات ومواقف الإغراء هي ذاتها عند الرجال وعند النساء، عند الفتاة الشابة، أو عند العاهرة)،
ففي هذا المستوى من التحليل وحده يمكننا التغاضي عن الصيغ التي تعوق المواجهة؛ فالظرفيات العرضية، من قبيل ظرفيات المحيط الطبيعي أو التقني، حيث يتطور المحكي، وأخرى من قبيل التشكل الجسدي للأعضاء التي تقوم بالإيماءات والميميات، يمكن في كل لحظة أن تؤثر في التحليل ويصبح أعمى ولا يهتدي إلى التشابه الممكن بين الأسنن الإيمائية.
فنحن لا نستطيع معرفة إلى أي حد تقوم الشرائط المصورة بتسنين التجليات الجسدية للشخصيات إلا من خلال مقارنة الطريقة التي تجسد من خلالها الشخصيات وضعيات عبر إيماءات وأفعال متشابهة يمكن أن يتعرف عليها القراء بسهولة. ولكن هذا التطابق في الوضعيات والأفعال لا يتحقق إلا على مستوى الخطاطات السردية الموغلة في التجريدية.
وهكذا سيكون بإمكان البحث، استنادا إلى أسس أنتروبولوجية، أن يتطور في اتجاهين: اتجاه الدوال الإيمائية التي تسنن الأفعال التي يتضمنها المحكي؛ واتجاه المدلولات الإيمائية التي تكمل أو تُدخل تمييزات خاصة بتنفيذ هذه الأفعال وتؤثر فيها. علينا توضيح هذه النقطة الأخيرة. إذا كانت الإيماءات والمواقف والميميات تدل في المقام الأول على مشاركة الشخصية في القصة قيد الإنجاز،
وإذا كانت دلالتها الأولى، تبعا لذلك، من طبيعة وظيفية، فإنها يمكن أن تُستعمل أيضا من أجل تخصيص الشخصية، والدلالة على كينونتها، لا على ما تقوم به فقط. استنادا إلى ذلك، ستدل حركة جيدو على الاعتداء، بطبيعة الحال، ولكنها بالإضافة إلى ذلك قد تشير إلى “ياباني” في بعض الحالات.
إن التمييز الذي قام به رولان بارث بين القرينة (indices) والوظيفة (fonctions ) في المحكي[5] يتطابق مع جهة النظر المزدوجة هاته. سيكون هناك، ضمن سنن إيمائي ما، إيماءات ومواقف وميميات من طبيعة وظيفية خالصة: إنها تتحقق بالطريقة ذاتها عند كل الشخصيات عندما تنخرط في وضعية متطابقة: هناك ميميات دالة على الغضب أو الخوف وكل المشاعر الأساسية.
وهناك، في المقابل، مركبات إيمائية وميمية لن تكون سوى قرائن: إنها تُستعمل لتخصيص نوع بعينه من الشخصيات، بغض النظر عن طبيعة مشاركتها في القصة الجارية: وهكذا هناك شخصيات لا تقوم بأي دور في الحبكة، ولا تَلج الصورة إلا باعتبارها عنصرا ديكورا أو محيطا ( شرقيون منحنون، خدم صينيون وأيديهم إلى صدورهم وقد غطاها ثوب عريض).
وهنا أيضا علينا أن نُحصي التعبيرات والمواقف والإيماءات الدالة على استعداد فطري دائم: وجه شاحب، سذاجة، خبث. وغالبا ما تلعب الإيماءات والمواقف والميميات في الوقت ذاته دورا وظيفيا في الحبكة، وتكون دالة على قرائن في علاقتها بالشخصيات.
استنادا إلى المثال السابق، يدل مركب من الإيماءات الجسدية والهيئية[6]، على مناورة للإغراء ستؤثر على أحداث القصة الآتية، وتدل على الأنوثة الأبدية التي تجسدها البطلة، في الوقت ذاته. والمشكلة التي ستُثار في حالة كهاته هي معرفة: هل يمكن أن نعزل من جهة السمات الدالة على الإغراء ( ذكورية وأنثوية)، ومن جهة ثانية السمات الدالة على الأنوثة ( ليس من الضروري أن تكون من طبيعة إغرائية)، أو هل نحن أمام جشطلت [7] يستعصي على التحليل، ذلك أن الإغراء الأنثوي سيشكل وحدة غير قابلة للتفكيك.
فلنحاول الآن ضبط حدود مشكلة خاصة بالوحدات الدالة في الشرائط المصورة. تنطبق الاعتبارات السابقة بدقة على أنواع سردية أيقونية أخرى من قبيل الأفلام التنشيطية أو المسرح أو الدمى. مع وجود فارق: فبينما تتبلور الإيماءات والميميات وتتعاقب في الزمن في هذه الفنون، فإنها، ضمن خصوصية الشريط المصور ( والرواية المصورة أيضا)، تحضر في شكل تعاقب من خلال لحظات ثابتة مستخلصة من مدة القصة بفواصل غير منتظمة.
إن كل لحظة آنية من هذه اللحظات تشير، بالإضافة إلى الإحالة على نفسها، إلى مدة زمنية موجودة قبلها وبعدها. ويمنح تجزيء هذا التتابع الزمني التحليلَ سهولةً عملية جلية، ولكنه يضع أمامه مشاكل نظرية أيضا. هذا دون أن نشير إلى السهولة المادية التي يفترضها الاطلاع على مادة أيقونية ثابتة والتحكم فيها، مقارنة مع الآلية التي تشترطها دراسة الفيلم السينمائي مثلا.
وفي المقابل، علينا إثارة الانتباه على أن تمفصل الإرسالية في مقاطع للصور الثابتة، يقدم لنا حلا مباشرا للمشكلة الصعبة الخاصة بالبحث عن وحدات دالة أساسية. فكل صورة، وهي تكثف داخلها، باعتبارها آنية، مدة زمنية، تقوم بتقطيع للمدة على المحلل أخذ مضمونها في الاعتبار. ذلك أن العناصر الإيمائية والجسدية التي يتضمنها تصبح دالة من خلال تقابلها مع الصور المجاورة.
ويمكن أن يحدث، مبدئيا على الأقل، أن تقوم الصور المتتالية التي تمثل سيرورة ما ( مراحل فعل ما مثلا) بمفصلة هذه السيرورة في حلقات ضرورية لكي تضمن معقولية الحدث في نظر المتفرج/القارئ.
صحيح أن هذا المبدأ لا يُحترم في واقع الأمر. ذلك أن اللحظات المُمثلة من خلال الصورة تُنتقى وفق قيمتها الفرجوية، أكثر مما تُنتقى استنادا إلى جدواها في فهم أفضل للقصة. إن الشريط المصور يوكل أمر رواية القصة إلى التعليق أو المنطق الضمني للمحكي. إنه لا يختار الصورة التي تدل على اللحظة، بل اللحظة هي التي تخلق الصورة.
فقد تكون هاته الهنيهة الزمنية غنية بالأفعال الهامة الخاصة بالحبكة، ولكن التعبير عنها من خلال الصورة يكون فقيرا، كما هو الحال في الكتب التي تتضمن صورا إيضاحية، وكذا الزجاجيات والصور البينالية، حيث يتم ملء الفجوات إما من خلال إرسالية لفظية، وإما من خلال التعويل على ذكاء المتفرج. وعلى العكس من ذلك يمكن تفكيك هنيهة أخرى قصيرة وخالية من الحركة إلى سلسلة من الصور ليست ضرورية من أجل فهمها.
وعليه يمكن التمثيل لرجل يسقط من طائرة أو من جرف من خلال وضعيات متعددة تتطابق مع دورانه في الفضاء. فكل صورة تنتقي وضعا جديدا وتستمد دلالتها السردية من الصورة السابقة عليها: فمن خلل هيئات متنوعة لا يتم التركيز سوى على الوضعية ذاتها–السقوط-. وبناء عليه، يُكثف محكي الشريط المصور أحيانا بشكل إيجازي في إيماءة واحدة سلسلة من الأحداث المركبة؛ وأحيانا أخرى يُطور، بشكل موسع في سلسلة من الإيماءات، عملية بسيطة.
وبالإضافة إلى الانتقاء الثيمي الذي يُعلي من شأن الوضعيات الاستثنائية لحظة اختيار الموضوعات، هناك انتقاء ثان يقود إلى اختيار وتطوير، على مستوى الصورة، لحظات الأزمة الخانقة. سيحمل السجل الإيمائي للشرائط المصورة بالضرورة آثار هذا التفاوت المزدوج. سيكون المعجم الخاص بإيماءات الحياة “التي لا قصة فيها” فقيرا، ولكنه سيكون مليئا بالإيماءات والميميات والمواقف المتشنجة. وبالمثل إذا كان هناك تركيب ما يربط بين تطور العناصر الإيمائية من صورة إلى أخرى ممكنا، فإنه لا يعود سوى إلى لحظات التوتر أو الأزمة.
يثير هذا الانحياز للإيماءة التي تتحول إلى صورة في النهاية مشكلة البلاغة الإيمائية في الشريط المصور. يمكن أن نتصور بالتأكيد، أن الإيماءة التي ينتقيها السنن تتم استنادا إلى قيمتها التقريرية: إنها تلك التي تدل على الوضعية بأقل قدر من الغموض. ولكن يمكن أن يتم انتقاؤها من أجل فصاحتها الفرجوية، ولكن لا شيء يضمن لنا قبليا، أن الشرطين يجب دائما أن يتطابقا.
بل يمكن أن نتوقع أن الاختيار و التأطير والمعالجة الغْرافية للإيماءات كلها تميل في الغالب إلى تقديم أسلوب جمالي لا يمكن الوصول إليه إلا على حساب الدلالة السردية للصور. إن السنن الإيمائي للشرائط المصورة، كما حاولنا الإحاطة به، يصطدم هنا بمحدوديته: إنه يتحلل لصالح سنن جمالي تعود دراسته إلى مقاربة من طبيعة أخرى.
النص مأخوذ من Langages, Juin 1968 n 10 , Pratiques et langages gestuels, من الصفحة 94 إلى الصفحة 100
[1] – Image d’epinal الصور البينالية ، وهي مجموعة من الصور ” الشعبية”. وهي صور كان الباعة المتجولون في البوادي يعرضونها للبيع.وهي شبيهة، من بعض النواحي، بما كان الناس يتداولونه في الأسواق المغربية من قبيل سيدي حمزة وزليخية وغيرها. ويعد ج شارل بيلوران Jean Charles Pellerin هو أول من قام بطبع هذه الصور ، وكان يقطن مدينة إبينال Epinal وهي مدينة صغيرة في اللورين في فرنسا ( المترجم).
[2] – teratologique من tératologieالتي تنحدر من أصل إغريقي دال على ما يشير إلى عالم الوحوش، ولكنه يعني العالم الخاص بالكائنات التي تملك خصائص تنزاح بها عن التركيبة الفسيولوجية المعتادة ، البعض يترجمها ب “مسوخ “. ( المترجم)
[3] -دبلجة doublage على غرار ما يتم في السينما، حيث تقوم شخصية ما بأفعال تنسب إلى البطل ( المترجم)
[4] – رقصة السلخ scalp وهي الطقس الذي كان يقوم به الهنود الحمر في أمريكا قبل سلخ رأس الأمريكيين اليانكي ( المترجم)
[5] -introduction à l’analyse structurale du récit, in communications 8 , 1966, pp.8-9
[6] -postural أي ما يشير إلى الطريقة التي يحضر الإنسان من خلالها إما جالسا أو منحنيا أو واقفا( المترجم)
[7] -gestalt نسبة إلى gestaltisme أي سيكولوجية الأشكال ، إن العين حسب هذه النظرية لا تلتقط من مركب شكلي عناصر معزولة ، بل كل قائم بذاته في انفصال عن العناصر المكونة له ( المترجم).