- تقديم
تجول لفظة أو مفهوم النّصّ في عددٍ كبيرٍ من الحقولِ المعرفية والعِلمية والتخصصات اللغوية والنقدية، كما يتعدى النص إلى المجالات الثقافية المختلفة.
النص، هو الوحدة الطبيعية للتفاعل اللغوي بين المتكلمين، أو لنقل بين المتواصلين (بالعلوم أو الأدب أو الفن أو الثقافة …)، إذ لا يتم هذا التواصل بِجُمل وعبارات معزولة ومتفرقة، وإنما يحصل عن طريق إنجازٍ كلاميٍّ أو كتابيٍّ؛ يمكن أن نَصطلح عليه بالخطاب أو النص.
إن للنص دورا هاما وحاسما في نقل الخبرات والتجارب من جيل إلى جيل، وكذا تبادل هذه الخبرات بين مجتمعات الجيل الواحد. ولكيْ يحيى هذا النص ويسود، كان لا بد له من آلية تُبقيه وتُخلِّدُه وتُنْجِيهِ مِن عَجْزِ الذاكرة وسراديبِ النسيان، فكانت الكتابة.
فالكتابة، هي من أعطى للنص بُعدَهُ الماديَّ الملموس (كتب/أوراق/ منحوتات/ رسومات…) بعد أن ظل مجرّدَ موجاتٍ صوتيةٍ (منطوق) تستقبلُها الآذان وتنسَخُها الذاكرة ويَبُثُّها اللسان من جديد.
لقد ظل النص على الدَّوام، موضوعا للدراسة والبحث لدى مُعظم فروع المعرفة كالفلسفة والتاريخ وعِلم الاجتماع وعلم النفس العلاجي والعلوم السياسية … وغيرها من العلوم، ثُم استسلمَ أخيرا للعلوم اللغوية (اللسانيات / اللغويات / تحليل الخطاب) كموضوع خاصٍ للبحث والتحليل، بعد أن قضى رَدْحا طويلا من الزمن في مختبرات التشريح والدراسة اللسانية، التي اعتُبِرَتْ المُمَهِّد الأول والوحيد لدراسة النصِّ دراسة علمية، اعتمادا على وصف النُّظُمِ الداخلية للجُملة وطرائق بنائِها.
وبالتالي الكشفُ عن القوانين والمعايير التي يستقيم بها النص (أيُّ نصٍّ كيفما كان) سواء أكان نصّا دينيا أو قانونيا أو تشريعيا أو سياسيا أو علميا أو إعلاميا أو فلسفيا …، وقد فرض هذا التوجه الحاجة الملحة لدراسة السلوك اللغوي، والكشف عن قوانينِه ونُظُمِهِ الداخلية.
إن النصوصَ ضرورية لتدوين وحفظ مُنتجات البَشَرِ العلمية والثقافية والأدبية والفنية والثقافية؛ وكذا تدوينِ معتقداتهم الدينية والفكرية والإيديولوجية.
قد يتساءَل البعض عن جدوى هذه الدراسات اللغوية للنص؟
نقول وبكل ثقة: إنها وبكل بساطة ستُفيدنا في تعلم اللغات ودراسة الأدب والعلوم وتدريسِهِما، بالإضافة إلى فوائدَ أكبر خصوصا في الطب النفسي وعِلم الاجتماع والعلوم السياسية والخِطابات بجميع أنواعِها.
إذِ النصُّ ليس أمرا طارئا وغير ذي أهمية، بل على العكس، إنه ضروريّ بل ومُهيمِن ومُسيطِر “.. إنه يُمثل سلطةَ توجيهٍ وتقنينٍ وتشريع…”
- النّص مفهوما
النص شَكْلٌ من أشكالِ الكتابة، ويُفترَض في النص أن يتعدى في بِنيتِهِ الحَرْف والكلمة والجملة إلى مجموعة من الجُمل والتعابير (التركيب).
– نجد في لسان العرب: “النصُّ: أقصى الشيءِ وغايتُه، ومنه نَصُّ الناقة: أي أقصى سَيْرِها، ونَصُّ الشيء، مُنْتَهاه” .
– ونجد في معجم “أساسُ البلاغة” أن النصَّ هو الرَّفْعُ “… نَصَّ الحديثَ يَنُصُّهُ نَصَّا: إذا رفعَهُ” .
وعلى العموم فإن المعنى اللغوي للفظة النص لدى الأقدمين، تعني الكَمَال والاكتمال والوضوح والظهور.
وجدير بالذكر، أن النص بمفهومِه الحديث غيرُ النصِّ في كُتُبِ التراث العربي، فحتى لفظة الكتابة في تراثنا، ظلتْ تحوم حول مصطلحاتٍ من قَبِيلِ التسجيل والتقيِيد والتدوين والتخليد، أمّا لفظة النص في هذا الباب بمفهومه الحديث فلَمْ تَرِد قَطّ.
أما إذا انتقلنا إلى المُراد الاصطلاحي للفظة “النص”، فقطْعًا سنستدعي الاصطلاح الغربي لأنه هو الأسبق وهو المتوفر، وسيُغنينا عن كثير من الجهد الذي لن يُفْضِيَ إلا لتضييع مزيد من الوقت في البحث والتنقيب عن اصطلاحِ لفظة (نص).
وهذا بلا شك أمرٌ مُحرج لنا (المتخصصون في الدراسات العربية)، إذ لا نَكُفُّ نستخدم لفظة (النص) في دراساتِنا الأدبية ونظرياتِنا الفلسفية والعلمية والنقدية الحديثة، دون أن يكون لهذا التوظيف سندٌ في تراثنا اللغوي والفكري العربي.
ولكنَّ عزاءَنا الوحيد في ذلك؛ أن النَّصَّ هو النص في كل لغات العالَم، وبالتالي فَلَهُ مُقوِّماتٌ واحدةٌ مشتركة، وعليها يرتكز منهج التحليل.
ونورد هنا تعريفا حداثيا للفظة النص حسب بول ريكور ، إذْ ” تُطلَقُ كلمة (نص) على كلِّ خطابٍ تم تثبيتُه بواسطة الكتابة، وهذا التثبيتُ أمرٌ مؤسِّسٌ للنص ذاتِه ومُقَوِّمٍ له” .
• مفهوم النص في الدراسات اللغوية الغربية.
– النص لُغويا ولسانيا
في مُعجم لارُوسْ الفرنسي العالمي، نجد لفظة (نَصّ) أتتْ من فِعل نصَّ (Texture) بمعنى نَسَجَ.
وبالتالي فالنصُّ بهذا المعنى هو النَّسْجُ، أي الحياكة أو الخياطة، وهي ضَمُّ الخيطِ إلى الخيط لصناعة قطعة من قماشٍ أو ثوْب، “فالنص نسيجٌ من الكلمات يترابط بعضُها ببعض، هذه الخيوط تَجمَع عناصر مختلفة ومتباعدة، وهو ما نُطلق عليه لفظة نصّ”.
في كتاب (الانسجام في الانجليزية / Cohesion in English) نجد “أن كلمة نص تستخدم في عِلم اللغويات للدلالة على فقرة مكتوبة أو منطوقة بغض النظر عن طولِها أو قِصَرِها، شريطة أن تكون وحدةً مُنسجمة ومتكاملة”.
وهذا بالضبط ما أشار إليه الدكتور سعيد يقطين حينما تطرق لهذه الجزئية بقوله: “وبذلك فهو (أي النص) ليس وحدة نحوية مثل الجملة مثلا، أو شبه الجملة، كما أن معيار الكم ليس ضروريا .. إذ قد يكون كلمة أو جُملةً أو عملا أدبيا. وبتعبير أعمق وأوضح، النص “وحدة دلالية” وهذه الوحدة ليست وحدةَ شَكْلٍ، بل وحدةَ معنى”.
لا تزال الدراسات اللسانية تسعى لتأطير وتحديد مفهوم النص، وحصرِه في قالب مفهومي واحد أوسعَ وأشمل وأكثرَ كفاءة. وهذا أمر صعبٌ بل غيرُ ممكن؛ نظرا لتنوع الاتجاهات الفكرية واختلاف المدارس اللسانية وتعد مناهج وطرائق التحليل، ناهيك عن تعدد غايات وأهداف تحليل النصوص.
- تعريف النص باعتبارِه أدبا
يُعرِّف رولان بارث النص ضمنيا وهو يتحدث عن الأدب فيقول: “… فالأدب ليس إلاَّ لغة، إنه نظامٌ من العلامات؛ وليس جوهرُه في الرسالة التي يَحْمِلُها، وإنما في نظامه بالذات” . فالنص هنا حسب “بارث” ليس وثيقة أو وسيلة لمعرفة العصور الأدبية أو ما يَصطلح عليه أصحاب النقد بتاريخ الأدب (التاريخ الأدبي)، إن النص هنا هو الغاية والهدف.
للبنيويين نظرة خاصة للأدب، باعتبارِه وحدةً عضوية كُلية تامة ومغلقة، وتبقى المَهمة الأصعب هي حصْرُ هذه الوحدة العضوية إذا ما أردنا دراستَها، طبعا من المنظور البنيويّ.
يعرّف “تودوروف” النص قائلا: “… مفهوم النص لا يتموضع في نفس المستوى مع مفهوم الجملة أو العبارة أو المُركب .. وبذلك وجب تمييز النص عن الفقرة التي تمثل وحدة مطبعية لعدد من الجمل، إذ يمكن أن يكون النص جُملة أو كتابا بأكملِه.
إن أهم ما يحدد مفهومَ النصّ هو استقلاليته وانغلاقه” . يكرّس هذا التعريف مفهوم الانغلاق الذي جاءت به البنيوية، فالنص مُكتفٍ بذاته مُستقلٌ بخصائصِه وعناصرِه، وأيضا بقوانينِه الداخلية.
وعودا على بدء، فإن التعريف الذي أوردناه للنص لِـ”رولان بارث” والذي تحدث فيه ضمنا عن النص في علاقته بالأدب، يحثُّنا على التعامل مع النص لأجل النص دون إيلاءِ أي اعتبارات للعوامل الخارجية، سواءً أكانت تاريخية أو اجتماعية أو ثقافية، حتى لا تخرج دراسة النص (أيَّ نص) عن إطارِها الأدبي المحض.
كذلك نجد مفهوم النص حاضرا في اللسانيات، ونعني به مجموع الملفوظات اللغوية التي يمكن اخضاعُها للتحليل، إنه (النص) “عينة من السلوك اللغوي الذي يمكن أن يكون مكتوبا أو منطوقا”.
نورد تعريفا آخر للنص للناقدة البلغارية “جوليا كريستيفا”، وهو تعريفٌ دقيق جدا تقول فيه “النص نظام لغويٌّ يتكفل به الكاتب، وذلك عن طريق عملية توزيعٍ لنظام اللغة بِدمج الملفوظات القديمة والحديثة بُغيةَ تحقيق وظيفتيْ الإبلاغ والتواصل” .
قد يبدو هذا التعريف في الوهلة الأولى تعريفا عاديا، ولكنه في الحقيقة أعمقُ من ذلك بكثير، إذ تُحطّم “كرستيفا” بتعريفها هذا التقوقُعَ والانغلاق الذي كرّستْه البنيوية على النص. وتدعو ضمنيا إلى انفتاح النص على نفسِه وعلى محيطِه.
ومن خلال عدد كبير من الدراسات التي أنجزتها “كريستيفا” خاصة في الحقل السيميائي، نجدها تؤكدُ على تفاعل النصوص بين بعضِها البعض. وهو ما يُصطلح عليه لدى النقاد بعملية التناص.
- الهوامش
1- حسن حنفي، قراءة النص- الهرمينوطيقا والتأويل، طبعة2، تأليف مشترك بين باحثين الدار البيضاء، قرطبة للطباعة والنشر ، 1993، ص 12.
2- ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف مصر، جزء 6، مادة نصَّ، ص 444.
3- الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعارف بيروت 1982م، باب نصَّ.
4- بول ريكور: فيلسوف فرنسي وعالم إنسانيات معاصر من مواليد سنة 1913، هو واحد من ممثلي التيار التأويلي، مهتم بالبنيوية، يعتبر وهو امتدادا لفريديناند دي سوسير. يعتبر ريكور رائد سؤال السرد.
5- من أشهر كتبه (نظرية التأويل – التاريخ والحقيقة – الزمن والحكي- الخطاب وفائض المعنى …)، توفي سنة 2005م.
6- ريكور بول، النص والتأويل، ترجمة منصف عبد الحق، مجلة العرب والفكر العالمي، بيروت عدد 3 1988م، ص 37.
7- الأزهر الزناد، نسيج النص – بحث فيما يكون به الملفوظ نصا، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، طبعة 1- 1993م، ص 12.
8- أحمد عفيفي، نحوُ النصّ – اتجاه جديد في الدرس النحوي، القاهرة ، مكتبة زهراء الشرق 2001م، ص 22.
9- سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي: النص والسياق طبعة 2 المركز الثقافي العربي 2001م، ص 17.
Barth Roland. Essais Critiques. Paris. Edition Seuil. 1964. P 257.
Todorow Tzvetan. Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. Editions du Seuil 1972. P375.
12- محمد الاخضر الصبيحي، مدخل الى علم النص ومجالات تطبيقه، منشورات الاختلاف، الطبعة 1 – 2008م، ص 20.
Kristiva Julia. Recherches pour une sémanalyse. Editions Seuil. 1969.P 19.