البعد النقدي في كتاب “غسان كنفاني إلى الأبد”
لا شك في أنّ أي كتابة منجزة جديدة عن كتابة سابقة هي بالضرورة كتابة نقدية، سواء أكان الكاتب يقصد ذلك أم لم يقصده، وكل كتابة من هذا القبيل إما أن تكون كتابة تقدير أم كتابة تشهير، وفي حالة شقير مع كنفاني فإن الكتابة تحمل قدرا كبيرا من التقدير، كون الكتاب جاء ضمن سياق إحياء فلسطين لذكرى استشهاد غسان كنفاني الخمسين وتمجيد هذه الذكرى، وبناء على هذا التأسيس فالكتاب ضمناً يحمل بعدا نقديا وهو يناقش أو يعرض حياة غسان كنفاني وأعماله الأدبية، وقد تجلى هذا البعد النقدي في أوجه عدة.
يتنوع النشاط النقدي في هذا الكتاب بين تحليل الأعمال الأدبية، أو عرض فكرتها، أو مناقشة جانبا من جوانبها، وإعطاء أحكام نقدية حولها، والموازنة فيما بينها، إضافة إلى أن عنوان الكتاب يتناص جزئيا مع أحد أعمال غسان كنفاني وهو مسرحية “جسر إلى الأبد”، ليصبح العنوان “غسان كنفاني إلى الأبد”، فما الذي يريده شقير من هذه العنونة؟
أعتقد أن الكاتب أراد أن يحيل أولا إلى عمل غسان كنفاني، ويجعل من هذه الإحالة رابطا لفظيا ومعنويا مخفيا إلا أنه مهم، وهو يتناسب مع هذه الخمسين عاما، فكأن هذا العمل المتحدث عن غسان كنفاني جسر بين الأجيال الجديدة، كونه موجها للفتيان والفتيات، وبين غسان كنفاني وإبداعاته، وهو جسر ممتد إلى الأبد، لأنه يتحدث عن قضايا لها صفة الأبدية، كونها متعلقة بفلسطين وأناسها، أو مشاكل الإنسان بشكل عام.
فثمة جانب إنساني عام في إبداع غسان كنفاني، لم يشر إليه شقير، لكنه موجود ومن اليسير ملاحظته، لاسيما أن غسان كنفاني يسير في أدبه برؤيا يسارية شمولية الطرح والأفكار، وإن كان أثرها المباشر في فلسطين، لكنها تصلح لكل مجتمع مبتلى بالاحتلال والتهجير ومصاب بداء اللجوء.
وبذلك يكون غسان كنفاني جسرنا إلى الأبد في إدراك هذا كله، من خلال قراءة أدبه وإعادة فهمه فهما جديدا متطورا بناء على الوقائع المستجدة، وعلى ذلك يصحّ أن نتوهم العنوان على النحو الآتي: “غسان كنفاني جسر إلى الأبد”.
تقوم استراتيجية الكاتب محمود شقير في هذا الكتاب- كما يقول الكاتب نفسه- على مواصلة “ما كتبه ويكتبه غسان كنفاني، وكنت أشرك الطفل الذي في داخلي في القراءة، وفي التعليق على ما نقرأ باستمتاع وانسجام”. (ص61) يبدو في هذه الإستراتيجية أبعاد العملية النقدية، وهي إعادة القراءة بالمفهوم النقدي للقراءة، بمعنى الفهم والتحليل والاستنتاج والوصول إلى الأحكام النقدية القيمية، كما سيرى القارئ ذلك واضحا في محطات كثيرة في هذا الكتاب.
إضافة إلى أن شقير جعل النقد تفاعليا بينه وبين الطفل الذي في داخله؛ وهذه المسألة غاية في الأهمية في بعدها النقدي، تحيل أولا على مدى قدرة شقير على تقمص وعي الطفل ليجعل الأحكام النقدية مناسبة للمستوى العمري الذي تجاوز الطفولة المبكرة إلى مرحلة الفتيات والفتيان، إذ يوجّه شقير لهم الكتاب.
وقد أكد ذلك في حفل توقيع الكتاب حيث اشترك ثلة من الفتيان والفتيات في تقديم ملحوظات على الكتاب وهو مخطوط، وكذلك في حديثهم عنه في حفل التوقيع الذي جاء ضمن فعاليات ملتقى فلسطين الخامس للرواية التي رعته وزارة الثقافة الفلسطينية، بل إن هذا الكتاب أيضا من إنجازات الوزارة ليكون حاضرا في هذا الملتقى.
كما تشير هذه الاستراتيجية إلى أن عملية القراءة “النقدية” في الكتاب كانت عملية تشاركية- تفاعلية بين جيلين؛ جيل شقير وجيل الفتيان والفتيات، حيث استطاع الطفل أن يسجل عدة ملحوظات نقدية على أدب غسان كنفاني في التفصيلات السردية التي تعرضت لها تلك القراءات. هذه التشاركية النقدية تؤكد احترام شقير لوعي الفتيان والفتيات ونظراتهم النقدية في مناقشة الأعمال الأدبية، وكيفية النظر إليها وطرح الأسئلة العميقة حيال بعض تفاصيلها.
كما أن فيها جانبا تعليميا للنقد، عمليا، أو شبه عملي، قائم على التقمص، يدفع القراء إلى طرح الأسئلة والتعبير عن وجهة نظرهم تجاه تلك الأعمال، ويعزز شقير نفسه في هذا الكتاب أعماله للأطفال، تلك التي أنجزها خلال مسيرته الطويلة من الكتابة.
على الرغم من أن المسألة جميعها هي بين شقير وبين نفسه من وجهة نظر نقدية خالصة؛ فقد سلخ من نفسه طفلا، وحاوره، هذه الإستراتيجية وإن كانت إبداعية سردية إلا أنها تلبست بلبوس نقدية، جعلت الكاتب شقير يحاور نفسه، من موقعين مختلفين، موقع الكاتب المجايل لغسان كنفاني ويعرفه معرفة شخصية، وموقع الطفل الذي يقرأ أدب غسان كنفاني بحب أو بموضوعية لا فرق بينهما.
فكأن شقير في هذه العملية يعيد إستراتيجية الجاحظ الذي كان ذا قدرة على أن يكون مقنعا في موقعين مختلفين إلى حد التضاد، وبذلك اكتسب الكتاب مسحة من الجدل اللطيف بين شخصيتين، تنتميان إلى جيلين مختلفين، لكنهما اجتمعا على مائدة واحدة وهي مائدة كنفاني الإبداعية، ليتفقا في مجمل التقدير، ويختلفا في بعض التفاصيل.
من باب آخر، فإن هذه الإستراتيجية السرد- نقدية جعلت النقد أقل حدة، فقد جاءت في معرض المناقشة بين اثنين، يسود بينهما الاحترام والانسجام كما قال، ولذلك من الطبيعي أن يختلفا في بعض التفاصيل، ولأحدهما أن يقتنع أو لا يقتنع، ليست هذه هي المسألة التي كانت تؤرق شقير في هذا الكتاب، إنما الذي كان يستولي على أفكاره هو تقديم كتاب مقنع إلى حد ما وواقعي في النظر إلى كاتب مثل غسان كنفاني، مالئ الدنيا وشاغل الناس منذ أكثر من خمسين عاماً، وفي هذا العمل أيضا رسالة مهمة في أنه لا كتابة تخلو من انتقاد ومن تعدد وجهات النظر.
يلفت الكتاب وطريقة بنائه هذه، إلى أن نقاش الأعمال الإبداعية للكتاب ستكون ذات أبعاد نقدية لا محالة، حتى لو لم يكن المناقشون نقادا، فالكاتب محمود شقير، ليس ناقدا، وإن كتب بعض القراءات النقدية لأعمال إبداعية، هنا وهناك، والطفل كذلك، كما أن غسان كنفاني ليس ناقدا، إلا أن ثلاثتهم كان لهم وجهات نظر تحمل أبعادا نقدية.
وهذه العملية تؤكد فطرية النقد، وأنها موجودة عند كل الناس بكل فئاتهم العمرية، وهذه الملكة النقدية موجودة عند الكتاب الإبداعيون من باب أولى، فكل من اشتغل في حقل من الحقول الإبداعية أو الفنية لا بد أن يكون لديه حسّ نقدي يلزمه من أجل إنجاز أعماله أو تطوير أدواته الإبداعية، فلا يعقل ألا يكون الكاتب خاليا من الحس النقدي، وهذه مسألة بدهية بين الكتاب والنقاد على حد سواء.
بناء على هذه الملحوظة، فإنه بالإمكان فهم تعليق محمود شقير النقدي على لوحات غسان كنفاني، فقد وصفها نقديا بقوله: “في لوحاته اختيار موفق للألوان التي تعبر عن ذاته، وعن الرسالة التي كان يرغب في إيصالها لمتابعي فنه، وفيها استفادة من تشكيلات الخط العربي، ومن الرموز التي تحيل إلى تراثنا….، وفيها اعتماد على الخطوط الصارمة بالأبيض والأسود في بعض اللوحات”. (ص89)
انقسمت الملحوظات النقدية المقدمة في هذا الكتاب بين الكاتب محمود شقير وبين الطفل الذي في داخله، وكانت أولى تلك الملحوظات النقدية التي قدمها الطفل على قصة “القنديل الصغير”، فلم يقتنع الطفل بطلب الملك من “ابنته الأميرة بإدخال الشمس إلى القصر، ولم يقم هو أثناء حكمه بفعل ذلك” (ص24) يحاول شقير أن يبرر ذلك، فلا يقتنع الطفل بهذا التبرير، فهل كان أيضا شقير غير مقتنع بعمل غسان كنفاني؟ أغلب الظن أن ملاحظة الطفل هي ملاحظة شقير نفسه، بناء على ما أسلفت القول فيه من التقمص، والحيلة السردية.
كما ظهرت عدم قناعة الطفل في موضع آخر عندما أعاد مع الكاتب قراءة رواية “عائد إلى حيفا”، وكان تعليق الطفل على سعيد س. وزوجته صفية بقوله “لا أحبهما لأنهما نسيا ابنهما في سريره وغادرا حيفا في نيسان 1948”. (ص 66) أيضا يحاول الكاتب إقناع الطفل لكن دون جدوى، فهذه الأسئلة الإبداعية المطروحة على هذه التفاصيل السردية مهمة في توجيه القراء، ومنهم فئة الفتيات والفتيان إلى التعمق فيما يقرؤونه وألا يأخذونه مسلمات.
لا بد من أن يكون العالم القصصي السردي مبنيا على ما يؤيد وجوده في الواقع الحقيقي أي يجب أن يكون مقنعاً، ومن هذه القناعة تتولد قدرة الكاتب الإبداعية في الكتابة وقدرته على أن يظل حاضرا ومقروءاً أيضا، وفي هذا رسالة نقدية غير مباشرة للكتاب أنفسهم، إذ عليهم أن يهتموا بعالمهم السردي، ليكون كما يجب أن يكون.
والسؤال الذي يجب أن يطرح في مثل هذه الحالات: هل يمكن وقوع هذه الحالة أو تلك على أرض الواقع ليحق بناء عالم روائي لا يتحقق إلا بوجودها أو إمكانية حدوثها ما دام الكاتب يكتب أدبا واقعيا ومقاوماً؟ أعتقد أن ظروف الحرب التي وقعت عام 1948 وحالة الهلع المجنون التي داهمت الفلسطينيين لا شك في أنها تركت مثل هذه الأحداث؛ فقد نقل بعض كبار السنّ أن امرأة حملت “مخدة” بدلا من أن تحمل رضيعها، ولم تنتبه إلى ذلك إلا بعد أن فات الأوان. فكل شيء في الحروب ممكن أن يقع، حتى أكثر الأفعال فانتازية أو غرائبية.
هذه مسألة ربما غفل عنها شقير، علما أنه قرأ أعمال كنفاني جميعها، وقرأ كثيرا مما كتب حولها، ولعل بعض الدراسات أو الأخبار أو الحوارات مع غسان أشارت إلى أن غسان كنفاني كان يستند إلى وقائع حقيقية في كتابته للروايات، كما حدث في رواية “رجال في الشمس” وأم سعد” و”برقوق نسيان”. وعائد إلى حيفا” لم تخرج عن هذا، كما أشار إلى ذلك الشاعر زكريا محمد في مقال له في مجلة الآداب البيروتية (17/7/2017) بعنوان: غسان كنفاني ورواية السطر الواحد.
والموقع الثالث الذي يعترض عليه الطفل هو هروب سعاد خارج فلسطين في الرواية غير المكتملة “برقوق نيسان”، فيسأل الكاتب: “هل تبرر لها مغادرة البلاد؟” فيجيبه: “ذلك أفضل من وقوعها في الأسر، وقد تعود إلى البلاد بطريقة ما” (ص75-76)
إنه موقف محير فعلا، فما هو الأفضل أن تظل في البلاد فتقع أسيرا أم تفرّ بجلدك خارج البلاد فتسلم؟ لم يحسم شقير هذه المسألة ولم يعلق الطفل على هذه المسألة الموضوعية التي تمس إحدى مفاصل الرؤيا الإبداعية لدى غسان كنفاني، فهل بحثت سعاد عن خلاص فردي بعد أن أوقعت آخرين ممن جاءوا إلى بيتها في محنة الأسر والاحتجاز؟ ماذا كان يخبّئ غسان كنفاني للقراء لو انتهت القصة؟ الرؤيا هنا ناقصة، ولذلك باعتقادي كان السكوت عنها حلّا نقديا وسرديا مقبولا من شقير، فربما أدى الارسترسال الغيبي القائم على التصور الذهني البحت تقويضا لعالم غسان كنفاني ومقولاته التحررية التي أودعها كتبه.
انتبه شقير وهو يناقش عالم غسان كنفاني إلى أن يتتبع هذا العالم، ويربط بين أعمال غسان، قصصه القصيرة، ورواياته، وبين الثيمات التي تمت مناقشتها فيها، والعلاقة بينها، وأين تتقاطع وإلى أين صارت رؤية غسان الإبداعية، والموازنة بين أعماله الروائية في التقنيات المستخدمة، وفي اللغة، كما فعل مثلا عندما وازن بين “رجال في الشمس” وبين رواية “ما تبقى لكم”، وينقل ما قاله صديقه محمد في هذه الموازنة النقدية: “كتب “رجال في الشمس” بأسلوب سردي بسيط، يصل إلى أوسع قطاعات الناس، لكنه محمل بالرموز وبالإشارات…،
وكُتبت “ما تبقى لكم” بأسلوب مختلف صعب، فيه اعتماد على التذكر، والاسترجاع، وتقاطع المواقف والانفعالات”. (ص58-59). وفي موضع آخر يوازن بين رواية “ما تبقى لكم” وبين رواية “الأعمى والأطرش”، فيصف رواية “ما تبقى لكم” بأنها كتبت “على التداعي الحر واستبطان العالم الداخلي لشخوصه”. أما رواية “الأعمى والأطرش” فإنها تدعو إلى رفض المعتقدات البالية والتأسيس لبنى فكرية جديدة”. (ص87-88)
مع أن هذه الموازنة ناقصة من ناحية نقدية؛ فالحديث عن رواية “ما تبقى لكم” كان حديثا نقديا فنيا، يمس صنعة الكتابة وأسلوبها، والحديث عن رواية “الأعمى والأطرش” كان حديثا موضوعياً، ولم يتطرق إلى الناحية الفنية الأسلوبية.
كما لاحظ شقير أن شخصيات غسان كنفاني في رواية “رجال في الشمس” حضرت في أعمال روائية وقصصية أخرى مع تغيير مصائرها، كأسعد وأبو قيس. وكشخصية حامد والموازنة بين موقفه في المجموعة القصصية “عن الرجال والبنادق” وبين موقفه في رواية “ما تبقى لكم”، وكيف أنه أراد أن “يغسل الاسم (أسعد) من الذل والهوان”، وليتوصل إلى حكم نقدي بخصوص الأسماء في عالم غسان كنفاني السردي بأنه “يتقن انتقاء الأسماء”. (ص78)
وليس فقط الأسماء والشخصيات إنما المكان أيضا، فيوازن بين الصحراء وفعلها في الشخصيات في رواية “رجال في الشمس” وبين فعلها في رواية “ما تبقى لكم”.
تجاوز هذا الربط النقدي الإبداعي عالم غسان كنفاني إلى أعمال إبداعية أخرى، فربط شقير بين رواية “رجال في الشمس” وبين رواية “صمت البحر” للكاتب الفرنسي جان بروليه، فيرى شقير إلى أن الروايتين “من أبرز روايات أدب المقاومة في العصر الحديث”. (ص91)
لقد استعان شقير كذلك- وهو يتحدث سرديا عن إبداعات غسان كنفاني- بكتابين نقديين تحدثا عن إبداعاته السردية، وهما: كتاب “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية” للناقد د. فاروق وادي، ويسجل ما تحدث به حول الصحراء، ويثبت مكان الإحالة، وكتاب “غسان كنفاني: جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية” للناقد د. محمد عبد القادر، ويقتبس منه ما يدل على عمل المثقف، ويبت مكان إحالته أيضا”. إن هذا العمل عمل نقدي بامتياز، أخضعه شقير إلى منطق السرد العام الذي حكم الكتاب كله.
عدا هذا وذاك، فإن الكتاب حافل بمواقع متعددة أثبت فيها شقير أحكاما نقدية حول تجربة غسان كنفاني الإبداعية بشكل عام، أو حوله بوصفه ظاهرة عبقرية، محللا جوانب من الظروف الموضوعية التي أحاطت بغسان كنفاني، لكنه مع كل ذلك استطاع إنجاز الكثير من الأعمال، إنها نوع من العبقرية التي يعلق عليها شقير بقوله: “إنها العبقرية التي يمكن تمثلها أو الاحتذاء بها وهي التي لم تهبط عليه من السماء، ولم تتوفر له بالمجان،
بل هي نتاج الرغبة والجهد والتعب والجد والمثابرة والاجتهاد والاستعداد لتقبل الجديد من الأفكار”. ( ص89) في هذه المناقشة من ظاهرة الإبداع عند غسان كنفاني رسالة إلى الفتيات والفتيان ليتنبهوا أن بإمكانهم أن يحققوا أحلامهم وآمالهم بالجد والاجتهاد والمثابرة، فها هو غسان كنفاني مثال حيّ، يمكنكم الاقتداء به.
كما تخلل السرد الكثير من العبارات النقدية التي تصف أعمال غسان كنفاني بالجودة والتشويق والسلاسة واستخدام الرمز الشفاف واللغة الشاعرية، وتحقيق المتعة مع الإجادة والإبداع، كما أشار شقير إلى أن غسان كنفاني “كان دائم التجديد والابتكار”. (ص87) في جميع نشاطاته الإبداعية؛ في السرد والرسم والدراسات الأدبية.
وبعد، كيف يمكن تجنيس هذا الكتاب؟ هل هو كتاب “سيرة” كما جاء على الصفحة الداخلية للكتاب؟ غالب على ظني أن الكتاب- بعد تحليل بنيته السردية- ذاهب نحو النفَس النقدي وليس السيَري، ليس فقط لما تضمنه من ملحوظات نقدية عامة وخاصة، أو لتنوع النشاط النقدي فيه، بل لأن الذهنية العامة التي تحكم الكتاب تدور في فلك الإضاءة على إبداع غسان كنفاني وقراءته في زمن مختلف،
بعد مرور خمسين عاما على كتابة آخر عمل لغسان كنفاني، وهذه قضية نقدية في الأساس، كما لم تكن السيرة حاضرة بكثافة في الكتاب، بل إنها لم تشكل من بنية السرد سوى الجزء اليسير منه، وظلت تدور حول ما يعرفه جمهور المثقفين والقراء عن غسان، وربما لن تشكل المعلومات الشخصية عن كنفاني عند جمعها سوى ثلاث صفحات أو أربع على الأكثر، من أصل أكثر من مئة وعشرين صفحة.
كما أن الكتاب لا يعدّ سيرة فكرية لغسان كنفاني، وإن وجدت ملامح لهذه السيرة معجونة مع السرد الشخصي للكاتب شقير الذي ظل نشاطه منصبا في الكتاب على الجانب الإبداعي في الكتابة، وهي بهذه الكيفية، ظلت “السيرة الشخصية والفكرية” لكنفاني خلفية غائمة ومتوارية وراء الأعمال الإبداعية التي أنشأها غسان كنفاني،
وكان السرد كله متوجها ومتمحورا حول تلك الأعمال وفنيتها ونضجها وأهميتها، إلى غير ذلك من مقولات نقدية، ويظهر هذا الكتاب لمحمود شقير جانبا من جوانب الكتابة لديه، وهي القدرة على الكتابة النقدية للفتيان والفتيات، بالطريقة نفسها التي كتب لهم فيها القصص والروايات.
إنه بلا شك كتاب مهمّ في تعليم الناشئة النقد بطريقة الحكي والحوار، وكيفية التعاطي مع الأعمال الأدبية، وكيفية مناقشتها، وتقبّل الآراء المختلفة حولها، لذلك فإنني أميل إلى اعتباره كتابا نقديا، كتب بطريقة سردية، قد تساهم في جعل النقد أقرب مأخذا تجاه الجيل الجديد من القراء، وكيفية التعامل مع الأعمال الأدبية، بشكل منفرد، عملاً، عملاً أو بشكل كلي في مناقشة أعمالا كاملة لأديب من الأدباء.
كما أن الكتاب ضروري بشكله الذي جاء عليه في صقل المواهب الأدبية والحس النقدي، وتطوير اتجاهات القراء من الفتيات والفتيان حول ما يقرؤون من أعمال جيدة، تساعدهم على تنمية شخصياتهم الفكرية، ليكون لها أثر في سلوكياتهم الحياتية، وهذه هي غاية كل عملية قراءة ومناقشة للأعمال الأدبية.