الدراسات الأدبية

ضرورة الصنافة الأدبية

 

تُعنى الصِّنافة، أو علم التصنيف، في البيولوجيا، بدارسة قوانين ومبادئ تصنيف الكائنات الحية. وفي الدراسات الأدبية يمكن إدراج نظرية الأجناس الأدبية في نطاقها بصفتها مبحثا يهتم بتصنيفها وترتيبها حسب القوانين التي تنظمها، والمميزات التي يختلف بها بعضها عن بعض. لا يمكن أن تتطور الصنافة الأدبية إلا بتطور الدراسة الأدبية التي تتأسس على قواعد البحث العلمي وإجراءاته. ولما كان النقد الأدبي العربي وحتى النقد الثقافي غير معنيين بالبعد العلمي في قراءة النص الأدبي لا يمكن لهذا الاختصاص أن يتشكل في فضائنا الثقافي.

إن انبناء النقد الأدبي العربي على الموجات النظرية التي تتأسس في الغرب بدون فهم أو استيعاب أو حوار نقدي لا يمكنه إلا أن يفرض على الدارسين الالتفاف على بعض القضايا الجزئية، والدوران في فلكها إلى أن يبرز غيرها، فتكون الممارسة نفسها قائمة على الدوران في متاهات لا صيرورة لها. فمنذ أن بدأت تشيع في مناخنا الأدبي مقولة «النص ولا شيء غير النص»، في الثمانينيات وهي اليوم متجاوزة تحت سيادة النسق الثقافي، والمضمرات، والأدب والسياق، تم الإجهاز على النظر إلى الأدب باعتباره جنسا عاما قابلا لأن يتمفصل إلى أجناس فرعية يتضمن كل منها أنواعا تقبل بدورها أن تصنف إلى أنواع فرعية أخرى متى أتيح لها التطور الذي يسمح لها بفتح مجالات جديدة للإبداع.

يكفي أن ننظر في واقع الدراسات الأدبية الغربية اليوم، ونتأمل ما يجري في الفضاء الأدبي العربي لنعاين الاهتمام بالصنافة الأدبية وتطورها على مستوى النظر والعمل في الوقت الذي نجد ندرة الدراسات العربية، بل غيابها. وموازاة مع ذلك نجد الإبداع العربي يزخر بما يمكن أن يفرض علينا التفكير في ما يقدمه لنا من إمكانات للتصنيف والترتيب حسب الأنواع الأصلية المتعددة التي يتضمنها كل جنس، وكذا الأنواع الفرعية التي يعرفها كل نوع.

ما دمنا غير قادرين على التمييز بين الجنس والنوع، وما ينضوي تحتهما، لا يمكن لمصطلحاتنا إلا أن تعكس الفوضى نفسها، فتجد من يتحدث عن الأجناس الروائية، والأنواع الأدبية؟ وهي نفسها فوضى مكتبات الرصيف بلا ترتيب أو تصنيف؟

في غياب وعي نظري بالصنافة وما يمكن أن تضطلع به في تحديد النصوص وأجناسها وأنواعها وأنماطها، والتمييز بينها، يصبح كل شيء نصا، ولا شيء غيره. فالناقد الأدبي يتعامل مع أي رواية على أنها رواية فقط. وما يهمه منها هو الكشف عما تزخر به من أفكار ودلالات، وإذا ما اهتم ببعض جوانبها التقنية أشار إليها غير معني بخصوصياتها. يقوم الناقد الثقافي بالعمل نفسه، فالبعد الثقافي للنص يمكن ان يجعله متساوقا مع كل الظواهر الأخرى التي ينجح في ليّ أعناقها لإبراز ما تشترك مع غيرها لتجسيد ما تخفيه وفق تأويلات ذاتية.
لا يتحقق الإبداع الأدبي إلا من خلال الجنس الذي يبدع في إطاره الشاعر أو السارد. فالشاعر، وعى ذلك أم لا، يكتب وفق قواعد الجنس الذي يبدع، وكذلك السارد. وهما معا، وفي نطاق الجنس الأدبي يندرج، ما يبدعه كل منهما، قصَدا ذلك أم لا، في نطاق نوع معين. ما يقال عن الرواية بأنها تستوعب كل الأجناس والأنواع كلام عام. فكل جنس كيفما كان نوعه يمكن أن يتفاعل مع غيره من الأنواع ويستوعبها. صحيح للرواية خصوصيتها، ولاسيما الرواية الطويلة، ولكن تفاعل النصوص داخل أي نص وارد أبدا. لكن ما يحدد نوعية الرواية هو قبولها الاندراج في نطاق أنواع فرعية خاصة.

في الدراسات الأدبية الخاصة بالسرد، يمكننا التمييز بين الرواية حسب الطول والقصر، وحسب الشكل أو المحتوى. وفي كل منها يمكن أن تأتلف أو تختلف تبعا لنوعية الكتابة التي تندرج فيها. وكذلك القارئ والكتبي يتعاملان مع الرواية حسب الإمكانات التي تتيحها له وهي تتحقق من خلال نوعيتها الخاصة إذا كانت فعلا محددة النوع الفرعي القابل للتعيين.

إن الإبداع الأدبي مثله في ذلك مثل كل النشاطات والممارسات التي يقوم بها الإنسان. قد تكون المادة المشتغل بها من لدن أي صانع واحدة، والأدب صناعة، ولكن كل صانع يمكن أن يشكل منها ما يتوافق مع النوع الذي يريد أن يحققه تبعا للأغراض التي يريدها للمستعمل (القارئ). وبدون الميثاق النوعي الخاص الذي يبدع الروائي في نطاقه لا يمكن إلا أن يضيع التفريق بين الطاولة والكرسي والدولاب إذا استعرنا صناعة النجار، أو القرط والسوار والدملج، إذا أخذنا صنعة الصائغ، وقس على ذلك.

هذه الفوضى الصنافية لا نجدها فقط في نقدنا الأدبي والثقافي، ولكنها تفرض نفسها علينا حين ندخل مكتبة عربية. فأنت تبحث، إذا كانت المكتبة مصنفة ومرتبة، عن شيء اسمه الرواية؟ وحين تقصد الرواق الخاص بها تجد روايات مختلفة ومتنوعة، ولا أحد قادر على التمييز بينها، عكس ما يحصل في المكتبات الأجنبية. وفي مواقع الكتب العربية تجد «التصنيف» الفوضوي نفسه، بل لا تتعجب إذا رأيت ضمنه «منوعات» أي كتبا تتأبى على قبول التصنيف؟. ما دمنا غير قادرين على التمييز بين الجنس والنوع، وما ينضوي تحتهما، لا يمكن لمصطلحاتنا إلا أن تعكس الفوضى نفسها، فتجد من يتحدث عن الأجناس الروائية، والأنواع الأدبية؟ وهي نفسها فوضى مكتبات الرصيف بلا ترتيب أو تصنيف؟

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى