بورخيس «العربي»
اهتم بورخيس كثيراً بالأدب العربي، اطّلع عليه مترجماً إلى لغات أوروبية، واستفاد من دراسات قام بها مستشرقون، وعلى الخصوص إدوارد لِين، ريشار بورتون، إرنِست رينان، أسين بَلاثيُوس. يكفي في هذا الصدد استعراض عناوين بعض نصوصه لتكوين فكرة عن انشغالاته العربية: «الدنو من المعتصم»، «حجرة التماثيل»، «بحث ابن رشد»، «الحمراء»، «ابن خاقان البخاري، ميت في متاهته»…
إلى جانب الإسبانية، كان بورخيس يُتقن الإنجليزية والألمانية والفرنسية، ومنذ أن نُقِلَتْ كتاباته إلى هذه اللغة الأخيرة صار مُعترفاً به ومحل تقدير على صعيد العالم، فاستضيف في الجامعات، وحظي بمختلف مظاهر التكريم، وحاز ما لا يُحصى من الجوائز والأوسمة. إلّا أنه، وعلى الرغم من تبوئه قمة المجد الأدبي، بقي في نفسه شيء من… اللغة العربية. لا شك أنه كان يعتبر معرفته بالأدب العربي ناقصة، تفتقر إلى الإحاطة بالأُسّ الذي يسنده، اللسان الذي دُوِّن به.
نجد في كتاباته عبارات تحيل إلى اللغة العربية، لكنه لم يكن يعرفها، وأغلب الظن أن حلم تعلمها راوده طيلة حياته، بيد أنه لم يسعَ إلى تحقيقه إلا حين بلغ عامه السابع والثمانين، وبالضبط في 1986. وبينما كان مُنهمكاً في التعرف إلى العربية، شاءت الصدف، في الفترة نفسها تقريباً، أن يلتفت المثقفون العرب إلى أدبه فاندهشوا به وانبروا لترجمته.
كان يقيم حينئذ في مدينة جنيف، وشرع في تعلم لغة الضاد على يد أستاذ مصري من الإسكندرية، ومن الراجح أن التلقين تَمّ شفوياً لا عن طريق الكتابة، ما عدا ربما تلك الخاصة بفاقدي البصر. لم يكنْ همّ بورخيس الإلمام بالعاميات أو اللهجات، ولم يكنْ على الأرجح يتوق إلى التحدّث بها، كان هاجسه ولا ريب دراسة اللسان الفصيح، والتعرف عن طريقه على النصوص الأدبية الكبرى.
قِيل إن معلمه كان قد قرأ مؤلفاته بالكامل. لست أدري ما الفائدة من هذا القول، ما عدا إذا افترضنا أن معرفة أعمال بورخيس تؤهل لتعليم اللسان العربي وأنه ارتاح لذلك. لنقلْ إذن إن اطّلاع المعلم على مؤلفات التلميذ أحدث قَرابةً بينهما وأضفى قدراً من الحميمية على علاقتهما. أما لماذا كان ينبغي أن يكون المعلم مصرياً، فلربما في الأمر، وقد بلغ بورخيس من السن عتياً، إشارة إلى بُناة الأهرام وإلى عنايتهم الفائقة بطقوس الموت ومراسم الدفن وما يرتبط بها من أماني استئناف الحياة. إضافة إلى ذلك، ربما ليس من قُبيل الصدفة انتساب المعلم إلى الإسكندرية، حيث كانت أشهر مكتبة في التاريخ، تقول الأسطورة إنها تضمنت مُصنفات شعوب الأرض قاطبة. ومن المعلوم أن بورخيس جعل من خزانة الكتب موضوعه الأعز، ومن بين تجلياته قصيدة سَرَدَ فيها مناقب مكتبة الإسكندرية بالذات: «قِيل إن عدد مجلداتها يفوق حساب الأفلاك / أو حبات رمل الصحراء».
رغب بورخيس إذن في تعلُّم اللغة العربية من أجل الاقتراب أكثر من الأصول الأدبية المقترنة بها. أية أصول؟ تجدر الإشارة هنا إلى أنه من الأدباء الذين باشروا تعلُّم لغة من أجل قراءة كتاب واحد «في النص». وحسب من كتبوا عنه، فإن الأمر يخص «ألف ليلة وليلة»، كتاب انتقل جزئياً إلى الثقافة العربية عن طريق الترجمة. بالنسبة لبورخيس، والحالة هذه، يتلخص اللسان العربي، والأدب العربي، في هذا الكتاب الذي اُفتتن به فكتب عنه مِراراً، ومن الواضح أنه شَكّلَ أفقاً لمؤلفاته، ربما أكثر من «الكوميديا الإلهية» التي شغف بها ولهج بذكرها، مُعتبراً إياها أعظم كتاب أدبي (لكنه لم يجشم نفسه- حسب علمي- عناء تعلُّم الإيطالية من أجلها). كان يود قراءة كتاب «ألف ليلة» بالعربية لفكّ سره المُفترض وجوده في هذه اللغة بالذات، يود كشف مكنونه ورؤية ما لم يبصره حين قرأه بلغات أوروبية، وكأن الأمر يتعلق بسر الوجود ولغز الأبدية. كان يتمنى وهو على حافة الموت أن يجد فيه كلمة السر التي تتيح له ولوج العالم الآخر واكتساب حياة جديدة.
أن تدرس اللغة العربية، ثم تموت! ومن اللسان ما قتل… لم يمهل العمر بورخيس لكي يدرس «ألف ليلة» بالعربية، بضعة أشهر ليست كافية. تُوفي مؤلف «الأَلِف» و«مكتبة بابل» وفي نفسه شيء من حكايات شهرزاد، من اللغة العربية التي ختم حياته على عتبتها وهو يتلعثم بتهجيها.