الدراسات الأدبيةنقد

الحجاج والسخرية في الأدب العربي الإمتاع والمؤانسة أنموذجًا

لقد نبغت المؤلفات العربية التراثية بالكثير من النظريات النقدية التي تصنف في وقتنا الراهن أنها مناهج معاصرة في حين أن جذورها تأسست في مصنفات عربية سالفة العهد، هذا وإن لكل زمن مظهره النقدي الذي يألفه ويستأنس به، ولعل القرن الثالث للهجرة تفوق بغزارة المناهج النقدية، وكذلك فاق بالذائقة المميزة والفذة لبعض النقاد ولاسيما أبو حيان التوحيدي، إذ كشفت مؤانسته الوعي النقدي الذي ظهر في تلك الحقبة الزمنية التي انبعثت منها جذور نقدية راسخة واستوت في عصور لاحقة لنظريات ومناهج عديدة، ولعل اغلبها يدخل الآن في مضمار الدراسات الجديدة، ولاسيما نظريات الحجاج، وأسلوب السخرية.


فيعرف الحجاج كما يرى بيرلمان بأنه “دراسة التقنيات الخطابية التي تتيح إثارة أو زيادة إذعان العقول للأطاريح للحصول على التصديق”1، فهو “نظرية لسانية تهتم بالوسائل اللغوية وبإمكانات اللغات الطبيعية التي يتوفر عليها المتكلم، وذلك بقصد توجيه خطاب وجهة ما، تمكنه من تحقيق بعض الأهداف الحجاجية، ثم إنها تنطلق من الفكرة الشائعة التي مؤادها إننا نتكلم عامة بقصد التأثير”2.

فالحجاج هو تقديم الحجج والأدلة المؤدية إلى نتيجة مؤثرة، وهو يتمثل في انجاز تسلسلات استنتاجيه داخل الخطاب، وبعبارة أخرى، يتمثل الحجاج في انجاز متواليات من الأقوال، بعضها بمثابة الحجج اللغوية، وبعضها الآخر بمثابة النتائج التي نستنتج منها3،

وهذا يعني أن الحجاج لا يقتصر في الانجاز على الكلام وحده فهو “نشاط كلامي واجتماعي وعقلي الغرض منه إقناع ناقد معقول بمقبولية وجهة نظر عن طريق تقديم كوكبة من القضايا المبررة أو المفندة للقضية المعبر عنها في وجهة نظر”4، لذا يحشد في الحجاج “جملة من الحجج التي يؤتي بها للبرهان على رأي أو إبطاله، أو هو طريقة تقديم الحجج والاستفادة منها، وهو “مسرد من الحجج تنزع كلها إلى الخلاصة ذاتها”5،

وهو طريقة عرض الحجج وترتيبها، وبناءً على هذا فالحجاج يضم “مجموعة من الحجج أو سلسلة من الحجج يؤتي بها لدعم أطروحة معينة، وهو “طريقة انتظام الحجج في الخطاب، وكيفية عرضها على المتلقي”6، ويمكن تعريف الحجاج بمعناه النصي بأنه “حاصل نصّي عن توليف بين مكونات مختلفة تتعلق بمقام ذي هدف إقناعي، فهذا النص كله أو بعضه سيكون بالإمكان ظهوره في شكل حواري (حجاج حواري) حجاجي مكتوب أو شفوي (حجاج أحادي الحوار)”7.

وللحجاج وظيفة تعطي القابلية على تفسير أقوال يقع إنشاؤها حول العالم ملبية وجهة نظر مزدوجة تمتثل إلى العقل الاستدلالي والعقل الاقناعي8، ويستهدف الحجاج التأثير في السامع فلا يكون الخطاب فعالاً دون ذلك التأثير بوصفه معيارًا أول لتحقيق السمة الحجاجية يشاركه في ذلك معيار آخر يرتبط بطبيعة السامع أو المتقبل المستهدف؛ لأن نجاح الخطاب يقاس بمناسبته للسامع وقدرة التقنيات الحجاجية المستعملة على إقناعه9،

ويتجلى الحجاج عند التوحيدي في الليالي الفلسفية والصوفية، فقد برع باستعمال الآليات الحجاجية قبل أن تستوي النظرية بشكلها الحالي، فقد اعتمد أساليب لغوية واقناعية جعلت كل من انسه لا يمله؛ لأنه كان ذو ثقافة موسوعية استشهد لكل حادثة بموضع مناسب، وكانت مصادره من الفلسفة اليونانية المترجمة والفلسفة العربية ولاسيما أبي سليمان ويحيى أبن عدي فضلاً عن تأثره بالفلسفة الأفلاطونية على وجه الصفوة وحلقات المناظرات التي كان يرتادها10،

أما الجانب الصوفي لدى التوحيدي فقد نشأ مبكرًا أثناء تردده إلى مجالس العلم والدرس، وكانت مصادره مستمدة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وحياة الصحابة والزهاد، والثقافة الكلامية11، فقد كان من أوائل المهتمين بالفلسفة اليونانية، والآراء العربية بهذا الشأن، والتمهيد لوضع رأي خاص به مستسقى من كلا الفلسفتين، ولقد كان تأثره بالجاحظ كبيرًا، إذ بعث تراثه؛ لأنه تلقاه بالمتابعة وتممها بما وصل إليه بعد أن تمرس بأساليبه، وتأسى به فنًا وسخريةً وفلسفةً وإلمامًا بالمعارف وتشخيصًا لأمراض مجتمعه، حتى صار امتدادًا لفنهِ.

وقد كان التوحيدي ذا طابع نقدي صارم لم يسلم كاتب من قوارضه، وربما هذا الأمر جعل أغلب المؤرخين ينأون عنه أدبه، ولم يعيروه اهتمامهم، وبعضهم أهمله ولم ينوه بذكره، قال ياقوت الحموي “لم أر أحدًا من أهل العلم ذكره في كتاب.. من ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب”12، فعلى الرغم من ثقافته الكبيرة، وفطنته بالتنبه إلى بواكير المناهج والنظريات إلا إنه لم يلق اهتمام كأقرانه هذا ولقد تشرب أبي حيان بالتصوف في وقت مبكر من حياته بقراءته الغزيرة للتراث واطلاعه على إخبار رجاله وصحبته لهم ومحاورته إياهم حتى أنه أقام ركنا من أركان الدين على طريقته الصوفية بحجة ماشيًا مع جماعة منهم13، ولقد عرف لدى الكثيرين بمخالطته للصوفية وخير ما يوضح ذلك قول أبو الوفاء المهندس مخاطبه في مقدمة الإمتاع والمؤانسة14،

هذا وقد كان التوحيدي مطبوعًا بالطابع الصوفي متأثرًا به حتى يكون التصوف أظهر ما اعرف به من بين معارفه الأخرى فأغلب الكتب التي ترجمت له وصفته بذلك وقد اقتصر بعضها على هذه الصفة فحسب15، فياقوت الحموي عده شيخ الصوفية، وصاحب الطبقات وصفه بالمتكلم الصوفي، ولقد كان التوحيدي بما وصفه المؤرخون متآلها صوفي السمت والهيئة يكثر من مخالطة الغرباء والمتشددين ويرافق أصحاب المرقعات وكان صحبته للمتصوفة أقدم صحبته عرفت له16،

ولعل أهم الليالي التي كان يغلب عليها الطابع الصوفي هي الليالي الأوائل للكتاب، ومن أمثلة ذلك ما رواه أبا حيان للوزير ابن سعــدان “وكنت في البادية في صفر سنة أربع وخمسين منصرفًا من الحج ومعي جماعة من الصوفية”17، يشير النص إلى أنه كان عائدًا من الحج ماشيًا مع جماعة عابرين الصحراء مكتفين بالزاد القليل،

وهذا أمر عرف عن الصوفية، ولنكون على بينة أن التوحيدي لم يكتفِ بقراءة التراث الصوفي وصحبته للصوفيين فقط فقد تجاوز ذلك إلى إقامة بعض من الشعائر على طريقة الصوفية فلم يكن فيلسوفًا بالمفهوم المحض لهذه الكلمة فقد كان مثقف ثقافة فلسفية عريضة مثلت أحد جوانب ثقافته المتعددة حيث كان متفنن في جميع العلوم18، وقد وصفه الحموي بأنه “فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة” وهو يصف يشعر بمشاركة فنه الأدبي فيما يدخل على المسائل الفلسفية، وتعاقب على نعته بذلك جل مؤرخيه.

ومع ذلك فلم يترجم له من تلك الكتب التي تجردت لتاريخ الفلاسفة أمثال تاريخ الحكمــاء ومنتخب صوان الحكمة وتتمة صوان الحكمة19، وهذه العبارة فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة توحي بتداخل التوحيدي الفيلسوف بالأديب، وهي إشارة تعبر عن فهم القدماء لظاهرة الأدب الفلسفي20، فمن أحاديثه الفلسفية التي خاض بها في الإمتاع والمؤانسة حديث الأخلاق الإنسانية وكيف أنها لا يمكن تغييرها لأنها مرتبطة بخلق الفرد حيث يقول: “وفي الجملة الخلق الحسن مشتق من الخلق فكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدره على تحويل الخلق لكن الحض على إصلاح الخلق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعبث والتحريف بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة.

ومثاله أن الحبشي يتدلك بالماء الغسول لا ليستفيد بياضًا ولكن ليستفيد نقاء شبيها بالبياض, يقال للمهذار: أكفف لا ليكف عن النطق ولكن ليؤثر الصمت”21.

وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة “أعني أن كل ما يدور عليه ويحور عليه إليه مقابل بالضد أو شبيه بالفلسفية والموت، والنوم واليقظة، والحسن والقبح، والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف، والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسفه”22، ومثاله أيضًا عندما طلب منه الوزير إن يحدثه عن كنه الاتفاق وحقيقته لم يجد أبا حيان أفضل من إن يسلك طريق الأدباء في تقريب وتفسير هذه القضية الفلسفية،

فراح يروي للوزير حكايات عديدة منها “ولقد حكى أبو الحسن الفرضي في أمر الاتفاق شيئًا ظريف عن بعض إخوانه، قال: خرجنا إلى بعض المتنزهات ومعنا جرّ نصيد به السُمانى وكنا جماعة فقال حدث كان معنا وكان أصغرنا سنًّا أنتم تصيدون بجرّ، وأنا أصيد بيدي، يقول ذلك على جهة من المزح، فرمى بعد قليل فأتفق له أن اثأر سمانى فأسرع إليه ونحن لا نعلم أنه أخذ شيئًا، فقلنا له عن طريق العبث: احذر الخنزير من غير أن نكون رأينا خنزيرًا فالتفت إليه فزعًا وفر موليًا فأتفق له من رأى خنزيرًا منه غير بعيد فأقبل ألينا مسرعًا هاربًا من الخنزير والسمانى بيده ولقد صاده”23، ويروى إن الوزير سأل أبي حيان يومًا عن معنى قول الله عز وجــل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)24، فكان جوابه أن الإشارة في الأول إلى ما بدأ الله به من الإبداع والتصوير والإبراز والتكوين، والإشارة في الآخر إلى المصير إليه في العاقبة على ما يجب في الحكمة من الإنشاء والتصريف والإنعام والتعريف والهداية والتوقيف25، المتأمل في هذا النص يلاحظ إن التوحيدي يميل إلى القول بـأن الله سبحانه وتعالى لم يتكلم عن نفسه بصيغة الزمان أو المكان إلا كي نفهم مقصده الإلهي وفقًا لطبيعتنا الزمنية والمكانية القاصرة،

فالأول والأخر معاني زمنية، والظاهر والباطن معاني مكانية، وكل تصور لهذه المعاني على سبيل العيان إنما هو ظن وتخيل وحسبان ولا بد من التفرقة بين الحس والعقل26، وجل هذه الحوادث التي ذكرها بكتابه تشير إلى التركيز على الحجة في إقناع المتلقي بالآراء التي يذكرها مع ذكر الأسانيد وإسباغ التأويل لدلالة ما يتحدث عنه، وهو في كل ذلك ينهج نهج غريب عن عصره استوى بعصور لاحقه وحديثة نظرية نقدية بلاغية مهمة وهي نظرية الحجاج.

ومن الموضوعات القابعة في الإمتاع والمؤانسة أسلوب السخرية، وقد أتم التوحيدي في هذا الاتجاه آراء الجاحظ في كتاب الحيوان27، وهذا الجانب يعد من الموضوعات المعاصرة لما يشحنه المؤلف من أفكار تؤثر بالمتلقي وتعرف جماعة Mu  السخرية بأنها “ليست السخرية شيئًا آخر غير تقاطع بنية ضدية مع انفعال هازئ”28، فالسخرية ضرب من ضروب الفكاهة، فهي أرقى أنواع الفكاهة، لما تحتاجه من ذكاء وخفة ومكر،

ولا يخفى إن الفكاهة تعني ما يضحك الفرد أو الجماعة، فالضحك هو نتاج الفكاهة وهدفها، فالسخرية محاولة لإضحاك السامعين من شي ما، وعملية الإضحاك هذه لا تطلب لذاتها وإنما هي وسيلة نقد واحتاج ورفض لحالة شاذة تسببت في أغاضة شخص ما مما يقال أيضًا عن الجماعة التي تستعمل الضحك أداة لمعاقبة الحرجين على معايرها الجمعية وآدابها العامة فهو والحالة هذه ذو دلالة وأثر اجتماعيين29.

ونلاحظ إن التوحيدي قد أتى بالهزل مع الجد إراحة للقارئ وإبعاد الملل عنه، ففي الهزل دواء النفس وطرد لجاثم الكرب وراكد الفكر، وهذا الأمر بدأه الجاحظ في كتبه وسار عليه الكتاب بعده، ومما ينبغي فهمه هنا هو إن قصد التوحيدي من حشد الطرائف والنوادر والأقوال الماجنة وغيرها هو إثارة الضحك لدى القارئ لبعث الراحة،

وإبعاد الملل عنه30، فيقال أنه وعلى الرغم من أن التوحيدي قد قصد من طرائفه ونوادره التي أتى بها في بعض كتبه إلى إراحة القارئ وإبعاد الملل عنه إلا إن المتمعن في قراءة العديد منها يجده قد استخدمها في نقد من لم يكونوا على جادة الصواب في كلامهم وسلوكهم ومذهبهم، وذلك في سخرية تشعر من خلالها مما يرمي إليه، ولقد اتبع التوحيدي طريقتين في سخريته الأولى: يطلق سخريته بطرفة أو بنادرة لا تخلو من هدف نقدي يكتشفه المتمعن فيها من ذلك “قيل لغلام :أتحب إن يموت أبوك؟ قال: لا، ولكن أحب أن يقتل،

قيل وكيف ذلك؟ قال: لأرث ديته فأنا فقير”31، هذه الطرفة تبين ضعف العلاقة الإنسانية بين الصبي وأبيه حتى أنه يتمنى لأبيه القتل طمعًا في ديته، والتوحيدي ذم زمانه الذي شهد مثل هذا الانحدار، فهو زمان فاسد المزاج أبيّ الخير معدوم الفضل، قليل الناصر، بعيد المنعطف، وسخر أيضًا من البخلاء وأساليبهم مع علمهِ أن الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلا ما شذ عنه،

ولكن هذا لا يعني إن الجاحظ قد أحاط بكل ما هو موجود، إذ إن الفترة بين زمنيهما قد أوجدت أنماطًا من البخل جديدة وبخلاء غير معروفين في عهد الجاحظ، وقد أشار أبو حيان إلى ذلك بقولهِ: “على انه حدث من عهد الجاحظ إلى وقتنا أمورًا وأمور وغرائب وعجائب”32، ثم يستغرق في رواية أقوال البخلاء وأفعالهم التي تشعر فيها بقوة السخرية التي استخدمها في نقد عيوبهم، ولعل من النوادر الساخرة ما رواه “وحكي لنا ابن أساده حيث قال: كان عندنا يعني بأصفهان رجل أعمى يطوف ويسأل فأعطاه مرة إنسان رغيفًا فدعا له وقال أحسن الله إليك وبارك عليك وجزاك خيرًا ورد غربتك فقال له الرجل ولمَ ذكرت الغربة في دعائك وما أعلمك بالغربة فقال الآن لي هاهنا عشرون سنة ما ناولني أحد رغيفًا صحيحًا”33،

ففي هذه النادرة سخرية واضحة من بخل أهل أصفهان خرجت من لسان رجل شحاذ خبير بالمدينة وأهلها عشرون عامًا، وهذه هي الطريقة الأولى التي كان يسخر بها أبي حيان، ففي طريقته هذه يكتفِ بإطلاق النادرة يرويها عن محدث أو بنفسه دون سند كذلك فعله في ما ينقل من أقوال ساخرة فلا يعلق عليها ولا يوضح أين يكمن القصد أما الأسلوب فهو سردي سهل، ولغته سهله ولا تشعر عند قراءتها بتكلف أو صعوبة وتخلو من أي تزويق أو تفنن لفظي34.

فالغاية من النص هو بيان عيوب المجتمع وتسليط الضوء عليها بغية إصلاحها وهي وظيفة السخرية النقدية، إما طريقته الثانية في السخرية هي: التنكيل بمن يسوؤه خلقهم وادعائهم ولحنهم في القول، غير أنه في هذه الطريقة يبين غضبه على من يسخر منه وغالبًا ما يقع الخطأ إمامه فيرويه مباشرة، وإن الخطأ يبدر من رجل راح يتحدث معه فيخطأ بالإعراب أو يلحن فيشرع التوحيدي في الهجوم عليه حانقًا وغاضبًا ولاعنًا35، ومن ذلك قوله “سألني بعض الفقهاء، فقال: أين مولودك؟ وهو يريد إن يعلم أين ولدت، فقلت: ما لي مولود، فقال: سبحان الله! وزاد تعجه، فقلت: لعلك تسألني عن مكاني الذي ولدت فيه؟ قال: نعم فقلت: أين مولدك، قال: فخجل هو للحاضرين،

وذاك أردت، ليكون خجله باعثًا له على الأدب، أو على إكرام الأديب وهذا الفقيه الدّاركي ولعله يريد أبا القاسم الداركي نسبة إلى داراك قرية في أصفهان وهو أحد فقهاء الشافعية، وكان ركيك اللسان، فدم الطباع، سيئ الخلق، شهودًا بالوزر، خبيث الدين”36، ففي هذه الرواية المضحكة تتضح براعة التوحيدي في الحوار وحرصه على سهولة الأسلوب، أما أكثر ليلة شحنت بمدلولات ساخرة فهي الليلة الثامنة عشر حيث جعل أبي حيان التوحيدي هذه الليلة فكاهات ومجونًا: وقال عن لسان الوزير “تعال، حتى نجعل ليلتنا هذه مجونيه،

ونأخذ من الهزل بنصيب وافر فإن الجد قد كدنا، ونال من قوانا، وملئنا قبضًا وكربًا، هات ما عندك: وربما عيب هذا النمط كل العيب، وذلك ظلم، لأن النفس تحتاج إلى بشر، وقد بلغني أن ابن عباس كان يقول في مجلسه، بعد الخوض في الكتاب, والسنة والفقه والمسائل.. أحمضوا وما أراه أراد بذلك إلا تعديل النفس، لئلا يلحقها كلال الجسد، ولتقتبس نشاطًا في المستأنف، ولتستعد لقبول ما يرد عليها فتسمع”37،

فيتضح بهذه الطريقة صرامة تصل حد التجريح أكثر من النوع الأول لان السابق كان بالصفات أو الطباع أما هذا النوع فبالتصرف والقول وادعاء المعرفة وجاءت السخرية بموضع مهم؛ لأن هذا الكلام عرضة أن ينقل، ويدون وبالتالي يورث العيوب والسقم فكانت سخرية التوحيد لاذعة وبأسلوب هجومي يشخص العيب ويصلحه مباشرة وهي وظيفة السخرية في الوقت الراهن تسليط الضوء على ظاهرة سلبية وتركها أحيانًا دون إيجاد حل أما التوحيدي فقد امتلك من الجراءة الأدبية ما لم يمتلكه غيره من أدباء العرب أو ربما من القلائل الذين خاضوا بهذا الموضوع النقدي عرض الآراء بأسلوب فيه نوع من الطرفة والتمليح،

وقد كان لثقافته كبير الأثر في إرساء هذه النظريات التي شحذها بكتابه النقدي الإمتاع والمؤانسة، بدءًا بالمصطلحات الخاصة به دون غيره مرورًا بالأمثلة التي حملتها ليالي الكتاب، وصولاً إلى السخرية مؤسسًا بهذه المواضيع التي طرحها قاعدة للدراسات البلاغية والنقدية العربية الحديثة.


الهوامش:

1 – الحجاج في التواصل، فليب بروطون، ترجمة محمد مشبال وعبد الواحد التهامي، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط1، القاهرة 2013: 22-23.

2 – اللغة والحجاج، د.أبو بكر العزاوي، دار العمدة، ط1، الدار البيضاء، 2006 :14.

3 – ينظر: المصدر نفسه:16.

4 – نظرية نسقية في الحجاج المقاربة الذريعة الجدلية، فرانزفان أيمرن وروب غرونتدورست، ترجمة وتقديم عبدالمجيد جحفة، دار الكتاب العربي الجديد، ط1، بيروت 2016 :11.

5 – كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج رسائله نموذجًا، علي محمد علي سلمان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 2010 :80.

6 – المصدر نفسه:80.

7 – الحجاج بين النظرية والأسلوب، باتريك شارودو، ترجمة د. أحمد الودرني، دار الكتاب الجديد، ط1، بيروت 2009: 16-17.

8 – ينظر: المصدر نفسه:17.

9 – ينظر: التداولية والحجاج مداخل ونصوص، صابر الحباشة، دار صفحات، ط1، دمشق 2008: 21.

10 – ينظر: السخرية في أدب الجاحظ، عبدالحليم محمد حسين، الدار الجماهيرية، الطبعة الأولى، ليبيا 1988: 112 –146.

11 – ينظر: المصدر نفسه:42.

12 – تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، أنيس المقدسي، دار العلم, الطبعة السادسة، بيروت 1979: 190.

13 – ينظر: المصدر نفسه:169.

14 – ينظر: المصدر نفسه:158.

15 – ينظر: أبو حيان التوحيدي (سيرته وأثاره) عبدالرزاق محي الدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت 1979: 162.

16 – ينظر: المصدر نفسه:163.

17 – ينظر: النثر الفني عند أبي حيان التوحيدي، دكتور فائز طه عمر، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى، بغداد 2000: 160.

18 – ينظر: المصدر نفسه: 121.

19 – ينظر: أبو حيان التوحيدي سيرته وأثاره:172.

20 – ينظر: النثر الفني عند أبي حيان التوحيدي: 132.

21 – الإمتاع والمؤانسة أبو حيان التوحيدي، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة 1953: 207 – 208.

22 – المصدر نفسه:148 – 149.

23 – المصدر نفسه:155.

24 – سورة الحديد: الاية3.

25 – ينظر:الإمتاع والمؤانسة:62–63

26 – ينظر: أبو حيان التوحيدي(أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء) د.زكريا إبراهيم, سلسلة الإعلام الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، مصر 1974: 163.

27 – ينظر:النثر الفني عند أبي حيان التوحيدي: 68–110.

28 – البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول, د. محمد العمري, أفريقيا الشرق 2005, المغرب:87. نقلا عن السخرية عند جماعة مي ترجمة العمري.

29 – ينظر:النثر الفني عند أبي حيان التوحيدي: 68.

30 – ينظر:المصدر نفسه: 77.

31 – المصدر نفسه: 80.

32 – المصدر نفسه: 80.

33 – المصدر نفسه: 80.

34 – ينظر:المصدر نفسه: 80 – 82.

35 – ينظر:المصدر نفسه: 80.

36 – الإمتاع والمؤانسة: 82 – 83.

37 -المصدر نفسه: 112.

المصادر

-القران الكريم

– أبو حيان التوحيدي(أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء) د.زكريا إبراهيم, سلسلة الإعلام الهيئة المصرية العامة للكتاب, الطبعة الثانية, مصر 1974.

– أبو حيان التوحيدي(سيرته وأثاره) عبد الرزاق محي الدين, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, الطبعة الثانية, بيروت 1979.

– الإمتاع والمؤانسة أبو حيان التوحيدي, تحقيق احمد أمين واحمد الزين, القاهرة 1953 .

– البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول, د. محمد العمري, أفريقيا الشرق المغرب2005.

– التداولية والحجاج مداخل ونصوص, صابر الحباشة, دار صفحات, ط1, دمشق 2008.

– تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي, أنيس المقدسي, دار العلم, الطبعة السادسة , بيروت 1979.

– الحجاج بين النظرية والأسلوب, باتريك شارودو, ترجمة د.احمد الودرني، دار الكتاب الجديد، ط1، بيروت 2009.

– الحجاج في التواصل، فليب بروطون، ترجمة محمد مشبال وعبدالواحد التهامي، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط1، القاهرة 2013.

– السخرية في أدب الجاحظ, عبد الحليم محمد حسين, الدار الجماهيرية, الطبعة الأولى, ليبيا 1988.

– كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج رسائله نموذجًا، علي محمد علي سلمان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 2010.

– اللغة والحجاج، د.أبو بكر العزاوي، دار العمدة، ط1، الدار البيضاء 2006.

– النثر الفني عند أبي حيان التوحيدي، دكتور فائز طه عمر، دار الشؤون الثقافية العامة, الطبعة الأولى، بغداد 2000 .

– نظرية نسقية في الحجاج المقاربة الذريعة الجدلية، فرانزفان أيمرن وروب غرونتدورست، ترجمة وتقديم عبدالمجيد جحفة، دار الكتاب العربي الجديد، ط1، بيروت 2016.


مجلة فكر الثقافية

زينب ميثم علي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى