الدراسات الثقافيةنقد

النقد الثقافي في المدوّنة النقدية.. أهميته ومهامه

د. سامي شهاب الجبوري

إنّ إزاحة ستار العتمة عن الثقافة بوصفها كينونة فاعلة في أحداث التقاطبات الفكرية بين البشر ومدى أثرها في رفد الاتجاهات المستقبلية وتحديد مسارها أمر ليس بالهيّن؛ كونها تمثل مرجعية معرفية يُدان لها بالولاء؛ حتى وان كانت متغيّرة تبعا لتغيّر الظروف والبيئات، ونتيجة لعدم استقرارها ونزوحها نحو مفاتن التغيير تبدأ مرحلة الصراعات الفكرية واثبات الأيديولوجية وتنمو وتزدهر مكوّنة في النهاية جملة من الثقافات المتنوعة المنتمية لهذه الجماعة أو تلك.


هذا التشابك المعرفي وانهيار مفاهيم الثبات في سلّم الثقافة افضى ويفضي على الدوام الى تأسيس اتجاهات وتيارات ومذاهب ومناهج ونظريات تأخذ على عاتقها امتحان التطور الثقافي وبلورته في بوتقة تخدم ما تبغيه خططها وما تحدّه حدودها،

لذا فإن مشروع ما قبل الحداثة قد اختزل لنفسه ما رآه صالحًا وكافيًا لتحقيق معطيات تقدمه، والشيء نفسه كان مع الحداثة التي رسخت دعائم ثورتها في ذهنية المثقف وغرست فيه حب الانتماء بوعي ومن دون وعي، والحال نفسها انتهجته ثقافة ما بعد الحداثة.


وعلى وفق ثلاثية المثلث الما قبل والحداثة والما بعد تبلورت رؤى مغايرة لكل ما تربّع في ساحة المثلث الفكري، وهي رؤى اتخذت من سؤال الثقافة منطلقا يُوصلها إلى مبتغاها، ومثّل النقد الثقافي أحد الاتجاهات النقدية البارزة لثقافة ما بعد الحداثة والتي انحصر عملها في استنطاق الأثر الكتابي المتجذر في الخطابات الادبية والثقافية.

والنقد الثقافي كما يراه أرثر أيزابرجر  نشاط وليس مجالاً معرفيًا بذاته، استخدم نقاده المفاهيم التي قدمتها المدارس الفلسفية والاجتماعية والنفسية والسياسية في تراكيب وتباديل معينة، ونتيجة لاتكاء النقاد الثقافيين على المدارس والاتجاهات الفكرية المتنوعة؛ فإن ذلك أدى إلى دخول المصطلح في متاهات صاخبة من الاشتطاطات والتأويلات التي رزحت به في أقبية التيه مع الاحتفاظ بجوهره العام.


فمصطلح النقد الثقافي ما ثلته مصطلحات عدّة جعلت المتلقي في حيرة من أمره الى أين منها يهتدي، ولا مجال لقبول اشتراطاته كونها متداخلة مع مسلّمات المصطلحات الأخرى، ومن هذه المصطلحات (التاريخانية الجديدة/التحليل الثقافي/الثقافة والدراسات الثقافية/النقد الثقافي/ التاريخية الجديدة، والمادية الثقافية).


تكمن أهمية النقد الثقافي في مساءلة النصوص الابداعية الراقية التي نالت حظوتها من الترويج بجماليتها بحثًا عن أنساق الثقافة المتوارية خلفها، وقراءة النصوص الهامشية وتفعيل دورها كسابقتها، لهذا تسعى القراءة الثقافية إلى إعادة قراءة النصوص الأدبية في ضوء سياقاتها التاريخية والثقافية، لما تتضمنه من أنساق مخاتلة قادرة على المراوغة، ولا يمكن كشف دلالاتها في الابداع الأدبي إلاّ بإنجاز تصور كلّي بشأن طبيعة البنى الثقافية للمجتمع.


ومن طبيعة العمل النقدي أنه يبحث دائمًا عن سبل وكيفيات خاصة لتحقيق اهدافه؛ وترجمتها في الساحة الفكرية على أنها ماثلة وحاضرة ولا مجال بالحياد عنها، لذلك فان (فنسنت ليتش) خصّ النقد الثقافي بميزات ثلاث يمكن عدّها أهدافًا يسعى لترجمتها على أرض الواقع وهي:

“1 – أنه يتمرد على الفهم الرسمي الذي تشيعه المؤسسات للنصوص الجمالية فيتسع إلى ما هو خارج مجال اهتمامها.

2 – أنه يوظف مزيجًا من المناهج التي تعنى بتأويل النصوص وكشف خلفياتها التاريخية، آخذا بالاعتبار الآباد الثقافية للنصوص.

3 – إن عنايته تنصرف بشكل أساسي إلى فحص أنظمة الخطابات والكيفية التي بها يمكن أن تفصح بها النصوص عن نفسها ضمن إطار منهجي مناسب”. أي أن مهمة الناقد الثقافي تكمن في معارضة الجديد من الثقافة؛ فضلاً عن ابعادنا عن التفكير بنتاجات معينة على أنها الأكثر قيمة في سلّم المفاضلة مع النتاجات الأخرى.


وباتجاه مهمة النقد الثقافي فإنها نابعة من كونه يحاول إيجاد العلاقة الترابطية بين الخطابات الأدبية وبين الثقافة التي انتجتها؛ وإبراز حالة التأثير والتأثر لمعرفة الأنساق الثقافية المخاتلة التي ترسخت عبر تراكمات جيل من الزمن، أي أن مهمة الناقد الثقافي تكمن باكتشاف عناصر التشابه وإيضاح وسائل الأخذ والاعتماد أكثر من انشغاله بممارسة التحليل.

وبحدود التشابك المعرفي والاستفادة من عناصر الثقافة المتعددة فان مهمة النقد الثقافي تنبع من مدى استفادته من المناهج والنظريات النقدية العاملة في الساحة؛ على الرغم من إنه يساءل الخطابات الأدبية والثقافية المنتمية لها،

وعلى هذا فإنه لا ينطلق من فراغ بقدر ما يحتضن امكانات التعدد الثقافي ليستعين بها لرسم معالم خطابه هو، وعليه فإن “نقاد الثقافة يأتون من مجالات مختلفة ويستخدمون أفكارًا ومفاهيم متنوعة؛ وبمقدور النقد الثقافي أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد.

وأيضًا التفكير الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي، وبمقدوره أيضًا أن يفسّر نظريات ومجالات علم العلامات، ونظرية التحليل النفسي، والنظرية الماركسية، والنظرية الاجتماعية والانثربولوجية، ودراسات الاتصال، وبحث في وسائل الاعلام، والوسائل الأخرى المتنوعة التي تميز المجتمع والثقافة المعاصرة وحتى غير المعاصرة”.


وعلى وفق نظام ضرورة وجود خروقات تحجّم دور أي عمل؛ فإن النقد الثقافي كغيره تعرض ويتعرض لمشاكل عدّة تقلقه وتقلل من قيمته نوعًا ما، وأكثر ما يعرّضه للمساءلة هو الابهام والغموض الشديدان اللذان انطبعا على المصطلحات المستخدمة فيه.


مجلة فكر الثقافية

سامي شهاب الجبوري

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى