نقد

من كورونا إلى أوكرانيا

ما إن بدأنا الخروج من كورونا، حتى جاء الأمر بدخول أوكرانيا. سنتان ونيف خلقتا الهلع والتوجس لدى البشرية، وأبانت أن الإنسان المتحضر والذي بات يتصور نفسه مالك الأرض والمسيطر عليها ضعيف أمام ما يجري، وأن كل ادعاءاته حول تفوقه السوبرماني باطلة. توقفت الحركة، وشلت العلاقات بين الدول، وفرض على الناس حبس أنفسهم في أوكارهم. ما أكثر الكذب الذي تم الترويج له حول الجائحة. وكل يدعي امتلاك الحقيقة حول ما يجري.

هل الفيروس نجم عن خطأ أم كان مقصودا؟ لا قيمة لأي جواب، ولا أهمية لأية مقاصد كانوا يرومون تحقيقها صدقا أو كذبا. النتيجة واحدة: لا قيمة للأخلاق وللقيم، ولا قيمة حتى للإنسان، وتجار الجائحة لا يختلفون عن تجار الأسلحة والحروب. الهدف واحد: الربح، وليذهب الجميع إلى الجحيم.


ألم يكن من الممكن أن تخلق الجائحة عالما جديدا يسود فيه التعاون والتآزر بين الدول والأمم والشعوب؟ ألم يكن الأحرى البحث في الكوارث المحدقة بالحياة على الأرض، وخلق شروط جديدة للتعايش والارتقاء بالإنسان إلى أن يصبح إنسانا؟ لكن الحيوانية المتحكمة في الإنسان تجعله ضعيف الذاكرة، فكانت الحرب على أوكرانيا استئنافا لحياة الغابة «المتحضرة».


فكان أن هيأ الدب نفسه لنهب كل العسل، ولو أدى إلى جعل الشعب الأوكراني يتجرع السم والحنظل، وكان التخطيط لنزهة في الحديقة الخلفية، وكان الناطق الرسمي للتدمير وإراقة الدماء يعدد علينا، يوميا، مفاخر جيوشه العظمى في تحقيق الأهداف المسطرة بالتدريج: تدمير البيوت، وقصف البنيات، والتهديد بالسلاح النووي، وإلحاق الأضرار بكل ما يمكن أن يجعل الحياة ممكنة لدى شعب تجمعه به علاقات تاريخية. ولا عبرة بتهجير ملايين النساء والأطفال والشيوخ والعجزة. فقانون الحرب لبسط السيطرة على الآخر، وفرض الوجود على الآخرين لا يهتم بالإنسان، ولا بحلمه في السلام والأمن.


عندما تساءلت بخصوص هذه الحرب القذرة عن نوع الصراع هل هو ديني (وكان في مخيلتي صراع الحضارات)؟ أم قومي؟ رد علي أحد القراء بأنه صراع مصالح. وهل المصلحة معلقة في فضاء غير محدد؟ لا يسند أية مصلحة إلا نزوع قومي، كيفما كانت الصيغة التي يصطبغ بها، أو الصورة التي يتخذها، وهي تختزل في «لغة»، تسعى إلى فرض نفسها، و«عملة» تريد أن يكون لها موقع بين العملات.

هذا ما لاحظناه بجلاء في هذه الحرب، وروسيا تريد استعادة أمجاد القيصرية والمجالس السوفياتية. وما استدعاء ما وقع في أكرانيا ليس سوى الذريعة التي اعتمدت لتسويغ الحلم الروسي. ألم تقم روسيا في سوريا بما يدعم رؤيتها وطموحها منذ زمن، بدعوى محاربة الإرهاب؟ ألا نرى في اتهام نظام أوكرانيا بالنازية سوى تعبير عن فرض البوتينية والوصاية على أوكرانيا مع رفض فاضح لتقرير الشعوب لمصيرها بدعوى الأمن القومي الروسي؟ هل الزمن دائري؟


وتظل الأحلام الكبرى فارضة نفسها على المتخيل القومي، وهي التي تدفع روسيا إلى العمل على استعادة أمجادها التي فقدتها بانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشرقية التي كانت خاضعة لها؟ هل هي «عودة» إلى «التوازن» الدولي، بفرض «القطبية» الثنائية، وتجاوز النظام العالمي الأحادي؟ هل هناك رغبة في الرجوع إلى «حرب باردة» ثانية (على وزن الحرب العالمية الثانية)، وبذلك ندعي وضع حد للهيمنة الأمريكية، ما دمنا صرنا نسلم بأن الغرب مريض؟

تابعت الكثير من النقاشات العربية حول ما يجري في أوكرانيا. ورأيت انقسام المحللين شذر مذر. فالمنحازون إلى روسيا يدافعون عن أمنها القومي، ويرفعون شعار نهاية الهيمنة الأمريكية، ويلحون على «التوازن» العالمي باعتماد القطبية الثنائية. والذين يتهمون روسيا بالعدوان يتهمون بالانحياز إلى الهيمنة الأمريكية. إن الرأيين معا، سواء كانوا ضد الحرب، أو يبررون الدمار الذي ألحق بأوكرانيا، يمارسون ما أسميه المقارنة المعتلة.

إن من تقل له: إنها حرب قذرة، يقل لك: ألم تفعل أمريكا الشيء نفسه في أفغانستان والعراق واللائحة طويلة. لماذا نلجأ إلى هذه المقارنات الخاطئة لتبرير ما يجري اليوم، بما وقع أمس؟ كان العالم الحر كله، وسيظل ضد الحروب التي قام بها الاستعمار ضد الشعوب، وضد ما مارسته أميركا، وما قامت وتقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين.


وفي إبان كل تلك الحروب كانت المطالب بإدانتها وإنهائها، وكان الرفض التام لها. ماذا نفعل في واقع الأمر حين نبرر هذه الحرب بمقارنتها بما قامت به الإمبريالية ومن يدور في فلكها؟ ألسنا، ضمنا، ندين هذه الحرب، تماما كما أدينت كل تلك الحروب الظالمة، والمتعسفة؟ وأننا في الوقت نفسه، في الجوهر، لا نميز بين أمريكا وروسيا؟ ما العبرة بالمسوغات، والمبررات التي يتم اللجوء إليها لإضفاء الشرعية على الحروب؟ ألا تدعي أمريكا أنها تدافع عن «مصلحتها»، وأمنها القومي الذي يتعدى حدودها؟ ألا تدعي إسرائيل بأنها تدافع عن نفسها؟ وفي كل هذه الحروب يتهم الآخر بالإرهابي، وها بوتين يتهم الرئيس الأوكراني بالنازية؟


يحلل المثقفون والمحللون السياسيون العرب هذه الحرب، تماما، كما يفعل إعلاميو مختلف الدول، ولكل زاويته الخاصة كما يفعل المعلقون الرياضيون على مباريات منتخباتهم. ألا يمكننا استخلاص العبر مما يجري لنتساءل عن آثار هذه الحروب على واقعنا العربي؟ أم أن التفكير «عربيا» معطل لأن «المصلحة» العربية لا وجود لها، وأن العرب لا خيال لهم؟ نجحت أمريكا ومعها الغرب في ترويج أفكار حول «قوميات»، و«طوائف» و«إثنيات» كان لها دور كبير في تشكل «قومية» تاريخية عربية، وعملت عن فصلها عن تاريخها، بجعلها تعمل على فك الارتباط عن تاريخها، وجعلتها تبحث لها عن «تاريخ» مفترض، ضد التاريخ الذي ساهمت فيه فعلا وواقعا، حتى صارت «القومية» العربية سبة وعارا. والذين يدافعون عن هذه القوميات يدعون أنهم ضد الاستعمار وأمريكا، وهم لا يعملون إلا على الدفاع عن قيمه وأفكاره، وترجمتها واقعيا باسم حقوق الأقليات.


لماذا لا نتساءل عن آثار هذه الحرب على الوطن العربي؟ ولماذا نرهن وجودنا بقمح روسيا وأوكرانيا، ونذرف دموع التماسيح على بعض البلدان العربية التي ستعرف الجوع بسببها؟ لماذا نربط سعر الغاز والنفط عندنا بما يجري في روسيا؟ أليست الأرض العربية معطاء؟ هل الإنسان العربي غير قادر على التفكير، أم أنه بلا إرادة ولا معرفة بأن له مصلحة وعليه الدفاع عنها؟ من يستفيد من النفط والغاز العربيين؟ ولماذا الأراضي العربية غير قادرة على تأمين الخبز لمواطنيها؟ لماذا يتصارع العرب فيما بينهم على الحدود التي وضعها الاستعمار؟ ولماذا لا يستطيعون العيش فيما بينهم حتى داخل القطر الذي يدعون أنه وطنهم؟ لماذا يخوضون بينهم هذه الحروب التي لا نهاية لها؟

لا أتحدث هنا عن الشعوب العربية المغلوبة عن أمرها، والتي تحاربها هذه الأنظمة، أو هؤلاء الحكام الذين فرضوا أنفسهم على الكراسي التي يتشبثون بها. إنهم، بالأمس، حاربوا شعوبهم، وتحاربوا فيما بينهم، باسم روسيا وأمريكا إبان الحرب غير الباردة، وها هم يقومون بالعمل نفسه اليوم، باسم أمريكا وروسيا وإيران وتركيا.

أما مثقفو هذه الأمة فهم على غرار حكامهم لا وجود لهم إلا بالتبعية لسياسة الحمار والفيل أو الانحياز إلى الدب، ولذلك ينافحون عن «التوازن» العالمي بوجود القطبين. ألا يعني ذلك أنهم ينحرون الجمل؟

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى