جيل بلا بوصلة (1/3)
أفرح كثيراً حين أرى كتابا جديدا في الدراسة الأدبية لباحث من غير جيلي، أو دراسة له في مجلة، أو أقرأ خبرا عن حصوله على جائزة. يعود مصدر السعادة إلى أن هناك استمرارية للعمل وللمجهودات التي بذلت، سواء في مجال التأليف أو الترجمة، منذ السبعينيات من القرن الماضي، وأن الأجيال الجديدة تواصل المسيرة بعزيمة واجتهاد وفرادة.
كما أن هذه السعادة تؤكد رؤيتي للمستقبل، رغم كل الإكراهات والشروط غير المناسبة، وتبين أن الذين يتشاءمون من واقع التعليم المغربي، ومن الجامعة المغربية أنهم يعلنون انتهاءهم وإفلاسهم، بتشبثهم بلعن واقع معتم بدل أن يشعلوا شمعة تضيء الطريق.
كما أن الذين يدينون واقع الجامعة هم على صواب، ولكنهم لا يبذلون أي جهد لتجاوز ما هو قائم، في إطار الكائن والممكن. عندما أواجه بتدني المستوى، أسأل ما نقدم لهؤلاء الطلبة لندينهم؟ إذا كنا لا نجدد أسئلتنا، وطرق تدريسنا، وبيداغوجيتنا، ونعمل على مواكبة ما يجري في العالم من حولنا على مستوى الإنسانيات بصفة عامة، والدراسات الأدبية، خاصة، أنى لنا أن نبحث عن المستحيل؟ ومع ذلك فالواقع، بمرارته، أفضل من السوداوية والتشاؤم، ولا سيما إذا بقيت روح التفاؤل سائدة.
لم يعد في إمكاني متابعة ما يكتبه الدارسون المغاربة «الشباب». فتعدد الجامعات لم يعد يتيح لنا معرفة الأسماء الجديدة. في السبعينيات وحتى الثمانينيات كانت مدينتا الرباط وفاس مركزيتين جامعيتين، وكان من الممكن التعرف على ما يجري فيهما، وما تقدمانه من أسماء جديدة.
الآن تبزغ بين الفينة والأخرى أسماء جديدة، من مختلف المناطق التي تتوفر على كليات، رغم أن الحظوة ما تزال تحتلها جامعات الرباط وفاس، بالإضافة إلى الدار البيضاء ووجدة ومراكش وأَكَادير.
فكرت مرارا في متابعة مجهودات الأجيال الجديدة، لمعاينة ماذا يكتبون، وكيف يفكرون في الأدب؟ أفعل ذلك متى كان متيسرا، لكن كثرة الانشغالات تحول دون التركيز على بعض القضايا التي تفرض علينا الاهتمام بها ومناقشتها. لكن المرء لا يمكنه سوى أن يتفاءل بوجود استمرارية الأجيال، وهي تبذل أقصى الجهد لمواصلة المسير.
هذا التطور ما كان له أن يتحقق لولا الخلفية المعرفية التي تشكلت في السبعينيات والثمانينيات بصورة خاصة. وهي ما تزال تشكل، بصورة أو بأخرى، الرصيد الذي تنهل منه هذه «الأجيال» الجديدة، لذلك لا بد من متابعة هذه التجارب الجديدة ومواكبتها بالتحليل والنقاش ليشتد عودها، وتتجاوز إكراهات غياب التفاعل، وسوء التقدير.
في الإبداع الأدبي يمكننا أن نتحدث عن أجيال: جيل الستينيات، جيل التسعينيات، لكن في النقد الأدبي، والدراسة الأدبية والفكرية يصعب ذلك. فالإبدالات الفكرية التي يمكن أن تتوزع عليها التجارب قليلة، ولحظات التحول الكبرى نادرة. كما أن المسافة الزمنية بين الدارسين قصيرة.
فمواليد الخمسينيات بدأوا الكتابة في السبعينيات والثمانينيات، وبعضهم يواصل الكتابة. ومواليد الستينيات والسبعينيات بدأوا الكتابة في الثمانينيات والتسعينيات. وهم مستمرون إلى جانب دارسين آخرين من الثمانينيات والتسعينيات. فهناك أجيال تتعاصر، وإن كنا نستطيع التمييز بينهم بما يراكمه السابقون في السن ولو بخمس أو ست سنوات، فيجعلنا هذا نميز بين «الأجيال» حسب الإبدال الذي هيمن في حقبة معينة، وما برز بعد ذلك.
في الثمانينيات سادت البنيوية في المغرب، والوطن العربي، واستمرت إلى التسعينيات، وإن ظل من يستثمر بعض إنجازاتها بشكل أو بآخر، لكن مع بداية الألفية الجديدة يمكننا الحديث عن «ما بعد البنيوية» في الدراسات الأدبية. بهذا التمييز يمكننا الحديث عن «جيل» ما بعد البنيوية، مقابل جيل الثمانينيات والتسعينيات. فما الفرق بين «الجيلين»؟ وما هي العلاقة بينهما؟ وما مستقبل الدراسة الأدبية العربية بصفة عامة، والمغربية بصورة أخص؟
أؤكد أولا ما قدمت به هذه المقالة، بأن هناك جيلا جديدا يواصل المسير، وهو يبذل قصارى جهده لتطوير الدراسة الأدبية العربية. هذه حقيقة. ثانيا إن هذا الجيل يواجه مشكلات عديدة على مستوى المنهج، والرؤية، والنص. وهو يواجه واقعه ومستقبله بلا بوصلة. وهذه بعض الملامح الدالة على ذلك، وإذ أقدمها هنا بصورة مجملة، فإني أتمنى أن تناقش، ويفتح بصددها حوار نقدي وأبستيمولوجي مفتوح بهدف المستقبل.
أبدأ بتحديد الشروط التي اشتغلنا فيها نحن الجيل الذي ساهم في تشكيل البنيوية، لإبراز ما يجعلها مختلفة عن نظيرتها بالنسبة إلى جيل ما بعد البنيوية، لتضح أمامنا الصورة ناصعة، بغية فرز أوجه الاختلاف وآثارها على التجربتين، للوصول إلى ما يمكن أن يسهم في خلق شروط جديدة لتجديد دماء التجربة الجديدة، ومدها بما يلزم لتحقيق أهدافها، بعد الوعي بشروط تشكلها والإكراهات التي تواجهها.