نظرة الإسلام للطبيعة الإنسانية
- مقدمة:
لعل التساؤلات المتعلقة بفكرة الخير والشر، من أكثر التساؤلات الوجودية المؤثرة في التوجهات الفكرية، والتي كان لها أثر كبير في توجيه شخصيات تاريخية، بل جماعات فكرية كالمعتزلة والخوارج، إلى أن تبني أفكار ذات ميول حدّية،
وقد نوقشت هذه المسألة في الفكر الغربي، وبنفس المستوى ببعديه الديني والفلسفي، وخاض فيها فلاسفة كبار أمثال: (كانت)، (روسو)، (آدم سميث)، (هوبز)، (سبيوزا)، و(شوبنهاور) وغيرهم من علماء الفلسفة والأخلاق. (الكشي،2013)
وقد تعددت النظريات المختلفة حول طبيعة الإنسان:
- النظرية الأولى: شريّة طبيعة الإنسان:
يرى أصحاب هذه النظرية أنّ طبيعة الإنسان تميل إلى الأخلاق الذميمة، بمعنى أنّ نفس الإنسان جُبلت بأصل الخلقة على الشرّ، وعُجنت طينته بالرذيلة والأطباع الخبيثة والسيّئة، فـالشرّ جزء من تكوينه النفسيّ، وبه يندفع إلى العدوان والانحراف.
وقد عبّر عن هذه النظرة المتشائمة بعض رجال الدين المسيحي. ويترتّب على هذه النظرية أن تقوم التربية باستخدام وسائل العنف والقسوة لانتزاع الشرّ منه.
- النظرية الثانية: حيادية طبيعة الإنسان:
ترى هذه النظرية أنّ الإنسان يميل بنحو متساوٍ إلى الخير والشرّ، وبعبارة أخرى إنّ نفس الإنسان من طبيعة محايدة، وإنّما يلحق الفساد بهذه الطبيعة نتيجة لفساد التربية التي يتلقّاها.
- النظرية الثالثة: خيرية طبيعة الإنسان:
يعتقد أصحاب هذه النظرية بعكس النظرية الأولى، أنّ طبيعة الطفل وفطرته جُبلت على حبّ الخير، فهو يميل إلى الخير والصلاح بأصل الخلقة. (جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، 2019).
- فلسفة النظرة الإسلامية إلى النفس الإنسانية بصفة عامة:
وقبل أن نتطرق إلى نظرة الإسلام لطبيعة الانسان، من المهم أن نُدرك أولاً فلسفة النظرة الإسلامية إلى النفس الإنسانية بصفة عامة، فالنفس الإنسانية بصفة عامة مُكَرَّمَةٌ ومُعَظَّمَة، وهذا الأمر على إطلاقه، وليس فيه استثناء بسبب لون أو جنس أو دين، قال تعالى في كتابه:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).
وهذا التكريم عام وشامل، وهو يلقي بظلاله على المسلمين وغير المسلمين، فالجميع يُحمَل في البر والبحر، والجميع يُرزَق من الطيبات، والجميع مُفضَّلٌ على كثير مِن خلْق الله عز وجل.
وقد انعكست هذه الرؤية الشاملة لكل البشر، وهذا التكريم لكل إنسان على كل بندٍ من بنود الشريعة الإسلامية، وبالتالي انعكست هذه الرؤية الشاملة على كل قولٍ أو فعل لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
وهذا يفسر لنا الطريقة الراقية الفريدة الرحيمة التي تعامل بها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم مع المخالفين له والمنكرين عليه، إنه يتعامل مع نفوس بشرية مُكرَّمة؛ فلا يجوز إهانتها أو ظلمها، أو التعدي على حقوقها، أو التقليل من شأنها، وهذا واضح بَيِّن في آيات القرآن الكريم وكذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول الله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام: 151) فالأمر هنا عام، يشمل نفوس المسلمين وغير المسلمين؛ فالعدل في الشريعة مطلق لا يتجزأ، فالشريعة تأبى الظلم في كل صوره، والنهي عن ذلك واضح في آيات وأحاديث لا تُحصَى، وهو مرفوض إلى يوم القيامة.
هذه هي النظرة الإسلامية الحقيقية لكل البشر، إنها نظرة التقدير والاحترام والتكريم.
وفي شريعتنا الإسلامية تجد مثلاً قول الله عز وجل في مسألة الرحمة يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فليست الرحمة هنا خاصة بالمسلمين، إنما هي عامة لكل البشر على اختلاف أديانهم ومِللهم.
وفي مسألة التعارف يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، فلم يقتصر التعارف أيضًا على طائفة معينة، إنما اتسع ليشمل كل الشعوب والقبائل.
والرزق في الأرض مكفولٌ لكل البشر، والكون مُسَخَّرٌ للإنسانية جمعاء، دون تفرقة بين مؤمن وكافر. يقول تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحج: 65)، فهذا التسخير للأرض والفُلك والبحار والسماء لكل البشرية، والتعليق الختامي على الآية يوضح أن الرأفة والرحمة لكل الناس. (السرجاني، 2011).
- طبيعة النفس الإنسانية بين الخير والشر من وجهة نظر الفكر الإسلامي:
انطلاقاً ممّا تقدّم، نقول إنّ طبيعة الانسان خيّرة بالطبع وبأصل الفطرة، كما تُفيده النصوص الدينية التي تتحدّث عن الفطرة التوحيدية. ولكنّ الطفل على الرغم من ميله الفطريّ بحسب الصبغة الإلهية إلى الخير (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (سورة الشمس: 8)، لا ينتفي ويرتفع استعداده النفسيّ للسير في الاتّجاهين معاً نتيجة عوامل خارجية كالتربية والبيئة وداخلية كالتفاعلات النفسية مع الأشياء (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (سورة الانسان: 3)،
فبسبب عنصر الاختيار يكون لديه استعداد للسير في اتّجاه الخير أو اتجاه الشرّ وهو بهذا المعنى حياديّ، ولكن أيضًا بسبب ضعفه وحاجته وعدم إدراكه ووعيه (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (سورة الروم: 54)، ضعف الإدراك والجسم في الأطفال من جهة، وبفعل عدم وجود قيم عقلية ودينية تُسيّر تصرّفاته من جهة ثانية، سيتحرّك على مقتضى ما تُمليه عليه قواه الطبيعية،
وبالتّالي سيميل إلى ما تأمره به قوّة الشهوة والغضب وحبّ الأنا، ممّا يترتّب عليه آثار ونتائج سلبية وغير حسنة، فهو للسير في اتّجاه الشرّ نتيجة ضعفه وجهله ونقصه وحاجته أوفق (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (سورة الأحزاب:72)، (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (سورة النساء: 28)، (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (سورة يوسف:53)، وهنا يأتي دور التربية في الأخذ بيد الطفل والسير به في أيّ اتجاه من الاتجاهات، فالطفل في المحصّلة هو صناعة التربية. (جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، 2019)
وبنظرة فاحِصة إلى آيات القرآن الكريم نرى أن ربنا – تجلَّت حكمته وعظمت مشيئته – دائمًا يقدم الخير على الشر ويتضح ذلك في الآيات الكريمة الآتية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7، 8). (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين: 4، 5). (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل: 4 – 10) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9، 10). (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار: 13، 14). (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (الأعلى: 10، 11).
فالخير دائمًا متقدِّم على الشرِّ، والتبشير سابق على التنفير، والثواب قبل العقاب، والجنة سابقة على النار، وذلك كله منهج ثابت يتفق مع طبيعة الإسلام باعتباره دين الإنسانية، الناسخ لكل الأديان والشرائع التي قبله، المكمِّل لرسالاتها، المتمِّم لأهدافها؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
إذًا فصورة الإنسان في نظر الإسلام – صورة خيِّرة – ونظرة الإسلام إلى الإنسان أنه خير بطبعه وجبلَّتِه وما خلق عليه، بدلالة قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، والشرُّ عنصرٌ طارئ عليه، دخيل على حياته وأفعاله، لم يُخلق به؛ بدلالة قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) ( (التين: 5)؛ أي: نتيجة لخطئه وزلَـلِه وسوء أفعاله رددْناه إلى أسفل سافلين، بعد أن كنا قد خلقناه في أحسن تقويم،
وهكذا يؤكِّد القرآن الكريم – أن الإنسان خُلق صالحًا قابلاً للخير قادرًا على إتيانه والسير في طريقه، فإذا سقط في هوّة المعصيَة والآثام، فلأنه لم يُقاوِم الغَواية التي أتته من خارج نفسه، من خارج ذاته، لذلك أمر بأن يتحصَّن أمامها بالإيمان أو بالتقوى والعمل الصالح ليَعصماه من التردِّي فيها. (العمري،2015)
- المراجع:
1. جمعية المعارف الإسلامية الثقافية (2019): المنهج الجديد في تربية الطفل، مقال منشور بموقع رواق الحجاج
2. السرجاني، راغب (2011): نظرة الإسلام إلى النفس الإنسانية، مقال منشور بموقع قصة الإسلام،
3. العمري، أحمد جمال (2015): نظرة الإسلام إلى الخير والشر، مقال منشور بموقع الألوكة
4. الكشي، عبد الرحمن سعد (2013): طبيعة النفس البشرية بين الخير والشر من وجهة نظر الفكر الإسلامي، مقال منشور بصحيفة المدينة السعودية يوم الجمعة 30 / 08 / 2013.
نورة سعد اليمني: باحثة دكتوراه بجامعة الملك خالد – أبها