نحن والتاريخ
تقوم علاقة العرب بالتاريخ على مفارقة موجعة. فبقدر ما نُفاخر بماضينا التليد نبدي تبرُّماً من قراءة هذا التاريخ في مضانِّه والاشتباك مع أحداثه ووقائعه بروح معرفية، مع العلم أن تدوين التاريخ جزء من صناعته.
ولأن التاريخ ممتد بشكل طبيعي في المستقبل، فإننا نحتاج تدوينه وقراءته وتحليله من أجل ذهاب أكثر وثوقاً باتجاه هذا المستقبل بالذات. وحتى حينما نعود إلى التاريخ، نكتفي بالتاريخ الرسمي ونتجاهل تاريخنا المحلي الذي كتبه مؤرخون غير معتمدين عاشوا خارج البلاطات والمجالس السلطانية.
كما نتبرّم من المعرفة التاريخية، ولذلك لا نُثمِّن المجهود الأكاديمي للباحثين في مجال التاريخ بجامعاتنا العربية. مع العلم أن التاريخ الرسمي مارس مراراً ليّ عنق التاريخ الحقيقي لاعتبارات سياسية في الغالب، كما ورَّط الشعوب في الإيمان الأبله بالعديد من التُّرّهات.
في حالتنا المغربية، مثلاً، كنا نفاخر دوما ـ وما نزال ـ بأننا البلد العربي الوحيد الذي لم يخضع للسيطرة العثمانية، ونفسّر ذلك بالقوة العسكرية التي كانت للدولة السعدية في ذلك الزمن. لكن بالعودة إلى كتب الدكتور عبد الرحيم بنحادة، المؤرخ المغربي المتخصص في تاريخ القرن السادس عشر وبالضبط تاريخ السعديين في المغرب وتاريخ الدولة العثمانية، تواجهنا الحقيقة مُرّة بشكل ينال من فخرنا الوطني.
فالموقع الاستراتيجي للمغرب بين الإمبراطورية العثمانية التي تنتهي عند حدود المغرب الشرقية مع الجزائر والإمبراطورية الإسبانية التي يفصلها عنه مضيق جبل طارق فقط دفع الإمبراطوريتين اللتين كانتا تتنازعان حكم العالم في ذلك الزمن لاعتباره “نومان لاند”. والاتفاقية الموقعة بينهما سنة 1580 كانت واضحة وهي تقضي بترك المغرب أرضاً مهملة وحدّاً فاصلاً لتفادي أيّ احتكاك بينهما.
انخرط المغرب أخيراً في “ورش” إصلاحي كبير يتعلق بإصلاح القضاء. والنقاش محتدم هذه الأيام بين الفرقاء السياسيين والحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني حول هذا المشروع. لكن أحداً لم يفكّر في استدعاء المؤرخين لهذا النقاش، مع العلم أن إصلاح القضاء المغربي يجب أن يخضع لمقاربة تاريخية تستخلص الدروس من قضاء الماضي حتى لا نعيد إنتاج قضاء الاستبداد.
وفي هذا الإطار وقعت بين يدي أطروحة تاريخية مهمة للدكتور يوسف أخليص، صدرت حديثا بالرباط، حول القضاء المغربي في مغرب ما قبل الاستعمار الفرنسي. وفيها توقف المؤلف بشكل خاص عند امتياز القضاء القنصلي كآلية جعلت ظاهرة المحميين في المغرب ـ وفي العالم العربي ـ تصيب العدالة في مقتل وتستبيح سيادة هذه البلدان حتى قبل احتلالها.
ولأن الدراسة حاولت أن تجيب على سؤال: “لماذا فشل المغرب في صياغة قضاء عادل وفاعل ونزيه في الماضي؟”، تصوّرتُ أن الاطّلاع عليها وعلى غيرها من الأطروحات الجامعية التي اشتغلت على تاريخ القضاء في المغرب ضرورياً للنخبة المنخرطة في مشروع الإصلاح.
في كتابه “المهمّشون في تاريخ الغرب الإسلامي: إشكاليات نظرية وتطبيقية في التاريخ المنظور إليه من أسفل”، الصادر العام الماضي عن دار رؤية المصرية، يؤكّد المؤرخ المغربي الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش أن اختزال حركة التاريخ في تاريخ سلطاني أو نخبوي لا يعدو كونه تاريخاً مبتوراً.
لذلك يدعو للنظر إلى التاريخ من أسفل لتصحيح مسار الكتابة التاريخية، وإعادة الاعتبار لمن كان لهم دور في تحريك مجرى التاريخ من صنّاع وحرفيين ومزارعين وعامة العامة بالبوادي قبل المدن. وهكذا اشتغل الأستاذ بوتشيش انطلاقاً من وثائق تاريخية بعضُها مهمل على تاريخ المستضعفين في حواضر الغرب الإسلامي وعلى العوام في مراكش خلال القرن السادس الهجري، في محاولة لتجاوز التاريخ الرسمي الذي لا يحتسب إلا الأدوار التي قامت بها نخب السلطة والجاه وعلماء البلاط.