العائـد
يروي ابن الزيات في كتاب “التشوف” قصة ولي من سلا اسمه أبو العباس أحمد، “كان ذا مال فتصدق بجميعه وعزفت نفسه عن الدنيا وأهلهـا وأقبـل على الله تعـالى”. غني عن القول أن مثل هذا التصرف ليس بالنادر في التشوف، فما أكثر الأولياء الذين يختارون الآخرة ويتخلون عن التعلق بأسباب الدنيا، إلا أن ما يلفت الانتباه أن أبا العباس أحمد لم يكتف بقطع صلاته بالناس بل تخلى أيضا عن “ابنة صغيرة اسمهـا مريم”… طلب من صديق له أن يكفلها ثم غادر سلا وغاب نحوا من ثمانية عشر عاما.
ماذا فعل خلال هذه المدة الطويلة ؟ أغلب الظن أنه ساح في الأرض ورافق الفقراء وزار الأولياء. لكن يظهر أنه لم ينس ابنته تماما وأن ذكراها ألحت عليه يوما فلم يستطع الصبر وعاد إلى مسقط رأسه. ترى مـاذا كان ينتظر منها ؟ أن تفرح بمقدمه وترحب به ؟ إلا أن الذي حـدث أن مريم “أبت أن تجيء إليه”. ثم إنه غاب ثانية وعند عودته وجدها قد تزوجت “فسلم عليها” ( ليس في النص إشارة إلى أنـها بادلته السـلام ). بعد ذلك غاب ثالثة ثم عاد إليها وقد رأى في المنام أن أجله قـد دنا وأنه لاحق بربه، فأعد قبرا، ثم “جاء إليها وقال لـها : أردت أن أبيـت عندك في بيت خـال وأن لا تأتيني إلا وقت طلوع الفجر. فدخل البيت. فلما طلع الفجر دخلت عليه ابنته فوجدته ميتا مستقبل القبلة. فحملته ودفنته في القبر الذي حفر لنفسه”.
لن نعرف أبدا مشاعر البنت مريم بالنسبة لأبيها وبالنسبة لنفسها. وابن الزيات لا يساعدنا قطعا على استكناه صمتها المطلق، فهو يورد الأحداث بدون تعليق أو تقييم. ورغم كونه يعتبر أبا العباس أحمد من الأولياء بمجرد إدراجه في التشوف، إلا أنه ـ وهـذا شيء غريب ـ لا يشيد به ولا يثني عليه كما يفعل غالبا في بداية فصول كتابـه، فيقول مثلا عن هـذا الولي أو ذاك إنه كان “كبير الشأن”، أو “عبدا صالحا”، أو “جليل القدر”، وفي الحالات القصوى يقول عنه إنه “كان قطب عصره وأعجوبة دهره”، وهو النعت الذي خص به أبا يعزى.
وعلى ذكر أبي يعزى فإن هذا الولي الصالح قد عاش تجربة قريبة من تجربة أبي العباس أحمد . وقبل إيرادها لابد من التذكير بأنه كان يحظى بنفوذ كبير ويتمتع بسلطة معنوية تكاد تكون بلا مثيل. وهكذا كان النـاس يقصدونه للاستشفاء بلمسه والتبرك بدعائه، ولا يقتربون منه إلا وفرائصهم ترتعد خشية أن يفشـي أسرارهم لأنه كان يعلـم ما تكنه الصدور وما يجول في الضمائر.
والحيوانات بما فيها الوحوش الضارية والأسود الكاشرة كانت تأتمر بأمره وتحوم حوله خاضعة طيعة. أما الجن فكانت تدين له بالسمع والطاعة وتبادر عند أمره بالخروج من جسم الشخص المصاب بالجنون فيبرأ لحينه. وليس هذا كل شيء فالسماء تجود بالمطر وقت الجفاف عندما يستسقي للناس. وبالجمـلة فلقد كـان “أعجوبـة في الزمان” و”آية وقته”، ومع ذلك كان يعاني من نقطة ضعف خفية لا يذكرها من كتبوا عنه أو لا يشيرون إليها إلا من طرف خفي وعـن طريق التورية. نقطة الضعف التي كانت تؤرق أبا يعزى وتقض مضجعه هي ابنه وفلذة كبده يعزى.
في كتابه دعامة اليقين في زعامة المتقين، يتحدث أبو العباس العزفي عن زوجتي أبي يعزى أم العز وميمونة، كما يذكر مرارا ابنه أبا محمـد عبدالله الذي يسند إليه العديـد من أخبار أبيه، ولكنه لا يذكر يعزى إطلاقـا. أما ابن الزيات فإنه في الفصل الذي عقـده لأبي يعزى في التشوف، لم يذكر لا الزوجتين ولا الابنين، إلا أنه خصص فصلا مستقلا ليعزى الـذي يقول عنه إنه لحق بالأولياء بعد موت أبيه.
على ما يبدو لم يكن يعزى مؤهلا لوراثة الولاية، فلقد كان نافرا من أبيه ويعيش بعيدا عنه في مكناسة، على الأقل خلال مرضـه الأخير. وفي هذا السياق يورد ابن الزيات، نقلا عن أبي عبدالله التاودي، أحد أصحاب أبي يعزى، ما يلي : “زرت أبا يعزى [بإيروجان] فوجدته مريضـا، فقلت له : ألازمك. فقال لي الترجمان عنه : اذهب إلى أهلك، فإذا رأيتهم فارجع إلي. فلما وصلت إلى فاس أتاني رسوله يستدعيني. فأتيـته فوجدته قد أفاق من مرضه وعنده ثور اسود يدنو من أبي يعزى وهو يلحس جسده بلسانه ويمسح عليه أبو يعزى بيده وهو يقول : أي ثـور هـذا ! وأي الطعام يصنع منه ! وهـو يعيد الكلام وأنا أفهم معناه. فأقمت عنـده أياما ثم مرض وكان ابنه يعزى غائبـا في مكناسة وأبو يعزى يقول : ادعوا لي يعزى. ويشد حرصه على رؤيته والناس يختلفون إلى يعزى ويأبى من الوصول إليه”.
صحة أبي يعزى مختلة، وكذلك علاقته بولده. هناك سوء تفاهم خطير بينهما ويأبى الولد أن ينهيه رغم تردد الرسل إليه. سوء التفاهم حاصل أيضا بين أبي يعزى وأبي عبدالله التاودي الذي يروي هذه الواقعة ؛ فهو مـن جهة بحاجة إلى ترجمان لفهم كلام أبي يعزى البربري، ومن جهة ثانيـة لا يفهم ما يقصده بقوله وهو يمسح على الثور : “أي ثور هذا ! وأي الطعام يصنع منه !”… لا يفهم ما يقصده، وإن كان يلاحظ التفاهم الكامل الحاصل بين أبي يعزى والثور الذي يدنو منه ويلحس جسده بلسانه، فهذا ليس بغريب بالنسبة لمن يترددون على أبي يعزى ويشاهدون الألفـة التي تجمعه بالحيوانات الداجنة والمتوحشة.
في نـهاية الأمر سينجح عبدالله التاودي حيث فشل الآخرون، سيكون ترجمانا ابلغ من سابقيه وسيفلح في إقناع يعزى بالعودة إلى أبيه. “فقمت إليه، فقلت له : يا بني إن الشيخ شائق إلى رؤيتك فودعه قبل الموت. فقال : أخاف منه. فلم أزل به إلى أن تجرد من أثواب سنية كانت عليه ولبس دونـها وجاء إليه باكيا فقبل رأسه وقـال له : تب إلى الله تعـالى يا يعزى ! فقال له : تبت إلى الله يا أبت. فقال له : افتح فاك. ففتحه فبصق فيه أبو يعزى بصقة ثم مات رحمه الله”.
سلوك يعزى يختلف عن سلوك أبيه ؛ فهو يرتدي أثوابا سنية بينما أبو يعزى ” كان لباسه برنوسا أسود مرقعا إلى أسفل ركبتيه وجبة من تليس مطرق وشاشية من عـزف”. لم يقبل يعزى تغيير لباسه إلا بعد إلحاح أبي عبدالله التاودي الذي لم يفتـه أيضا أن يذكر له أن أبا يعزى مشرف على الموت. إن تغيير اللباس له دلالة في هذا المضمار، فكأن يعزى يغير جلده ويتقمص شخصية جديدة تختلف جذريا عن السابقة ؛ فبمجرد ارتداء لبـاس حقير اقترب من أبيه وتشبه به. على أي حال لم يكـن من اللائـق أن يمثل أمامه بزي ينم عن الترف والإقبال على الدنيا.
في التشوف نجد عدة أمثلة لأشخاص صاروا أولياء بعد ارتكاب الذنوب. وهكذا نقرأ في فصل قريب من الفصل المتعلق بيعزى أن عبدالحـق ابن الخير الرجراجي “كان من أهل الدعارة ثم تاب إلى الله”… إن خوف يعزى من أبيه ينبئ، وإن كان النـص غامضا فيما يخص هذه النقطة، أنه ارتكب معصيـة من المعاصي أو أنه كان مسرفا على نفسه (هذا التعبير الأخير كثيرا ما يستعمله ابن الزيات للإشارة إلى سلوك سلبي). وإلا فلم طلب منـه أبو يعزى أن يتوب ؟ ولم يبادر هو بالإعلان عن توبتـه وهو يحكي ؟ التوبـة متزامنة مع الأوبة، إنـها رجوع إلى الأب وإلى ما تمثله الأبـوة من قيم.
بعد موت أبي يعزى (ودائما حسب رواية عبدالله التاودي كما ينقلها ابن الزيات)، “ذبح ذلك الثور الأسود وصنع منه طعام للناس وخلفـه ابنه في مكانه، وقد لاحت عليه شواهد الولاية ولقد حضرته إلى أن جاءه رجل مقعد فما زال يتفل عليه إلى أن برئ وقام سويا. ولحق يعزى بالأولياء من ساعته”. الثور الأسود ذبح بعد موت أبي يعزى وأكل منه الناس كما تنبأ بذلك، وهكذا يتضح معنى الكلام الذي لم يفهمه راوي القصـة في حينه (“أي ثور هذا ! وأي الطعام يصنع منه !”). ذبح الثور بمناسبة وفـاة أبي يعزى. لقد صار يعزى خليفة لأبيه مباشرة بعد موته ؛ فكأن أبـا يعزى كان ينتظره ليلفظ نفسه الأخير ويسلمه سره المتمثل في ريقه، هذا الريق الذي سيمكن يعزى فيما بعد من إبراء مريض مقعد، منجزا بذلك كرامة جديرة بابيه الذي كان معروفا بعلاجه للمرضى.
لا ذكر لعبدالله، الإبن الآخر، في هذه اللحظة الحاسمة، اللحظة التي جاد فيها أبو يعزى بروحه. لم يلتفت إلا إلى الإبن الغائب الذي طال انتظاره (الابن الذي تكنى به). يعزى المسرف على نفسه أحب إلى أبي يعزى من عبدالله الذي كان يلازمه والذي تكفـل فيما بعد براوية أخباره. وهذا يذكرنا بقصة معروفة، قصة الإبن المبذر الذي فـرح أبوه بعودته غاية الفـرح وذبـح له عجلا سمينا ، مما أثار سخط وحفيظة الإبن الذي كان مثالا للسيرة المستقيمة.
في هذه القصة، كما في قصة أبي العباس أحمد، نلاحظ الغياب التام للأم (أو الزوجة). فأم مريم لا يرد ذكرها، والأرجح أنـها كانت ميتة عندما قطع أبو العباس صلته بالدنيا. وكذلك لا يرد ذكر أم يعزى في قضيـة الصلح بين ابنها وأبيه. أما في القصة الثالثة التي سأتطرق إليهـا الآن، فإن المرأة تظهر وتلعب دورا بصفتها زوجة وأما. ويتعلق الأمر بولي اسمه أبو علي الحباك يصفه ابن الزيات بأنه “صاحب مجاهدة وتجرد من الدنيـا”. في بداية أمره كان يعيش كسائر الناس، ثم إنه حضر جنازة أبي مدين فتغيرت نظرته للأشياء، أو كما يروي هو : “ما رأيت أعز من الفقراء في ذلك اليـوم ولا أذل من الأغنياء فقلت في نفسي : إذا كان هذا في الدنيا فكيـف بـهم في الآخرة. فدفعت أثوابي لفقير وأخذت منه مرقعته وحلقت رأسي ودخلت علـى امرأتي، فصاحـت يا ويلها ! فقلت لـهـا: إن لم توافقيني على هذه الحالة، فعديني ميتا.
فخرجت عنها وتركت جميع مـالي وغبت عن تلمسان أربعة أعوام وقد تركت ابنا لي صغيرا. فقلت لنفسي: إن كنت صادقة فادخـلي تلمسان على هذه الحالـة ! فأتيت تلمسـان ودخلت إلى سويقـة أجادير فلقيت بـها امرأتي مع خادمهـا وابني على عنق الخادم. فقالت لي نفسـي: تنح لـهما عن الطريق لئـلا تغير قلبهـا بمشاهدتك على هذه الحالة! فقلت لـها: والله لا رأتك إلا في أسوأ حالة من هذه الحالة فتقدمـت إلى خبـاز في السويقة، فأخذت منه خبـزة وقلت : من يشتري لي هذه الخبزة لله تعالى ؟ وأنا أسارقها النظـر؛ فرأيتها تنظرني والدموع تنحدر على خديهـا إلى أن جاوزتني. فرددت الخبزة للخباز ومررت”.
لماذا عاد أبو علي الحباك إلى تلمسان؟ حسب ما يبدو من كلامه، عاد ليذل نفسه ببروزه في هيئة رثة شنيعة أمام الناس. وبفعله هذا ينتسب إلى مذهب الملامتية المبني على الظهور “في أسوأ حالة” كما عبر هو عن ذلك، أي بصورة قذرة مستفزة ومثيرة للإستنكار (لعل جذور الملامتية ترجع إلى المذهب الكلبي). أن يجلس أبو علي الحباك في السوق متسولا في الوقت الذي تمر فيه زوجته، أعز الناس إليه، لأكبر دليل على إهانة النفس والحط من شأنـها. إلا أن الأمر أكثر تعقيدا لأن نزعتين تتجاذبانه، نـزعة الاختفاء ونـزعة الظهور، وهذا بين في الحوار الذي عقده مع نفسه، أو بالأحرى في صراعه مع نفسه: “قالت لي نفسي … فقلت لـها”.
لا مراء في كونه انتصر على نفسه، إلا أن الانتصار في هذه الحالة هزيمة نكراء إذ لا يتم إلا بالقضاء على جانب من الذات، فهو إذا لذة قصوى مصحوبة بأسى عميـق. وعلاوة على ذلك فإن أبا علي الحباك بتصرفه هذا يؤكد قاعدة مفادها أن المحب لا يقنع مشاهدة المحبوب، بل يريد أيضا أن يشاهده المحبوب، أن يتم بينهما لقاء وتبادل على مستوى النظر: “… وأنا أسارقهـا النظر، فرأيتها تنظرني”. لهذا عاد إلى تلمسان، للحظة العابرة التي رأى خلالـها امرأته تبصره “والدموع تنحدر على خديها”، أو إذا فضلنا عاد للحظة العابرة التي رأى خلالـها امرأته تبصره “والدموع تنحـدر على خديها”، أو إذا فضلنا عاد ليغرق في دموعها.
ثم ماذا حدث له بعد ذلك؟ يجيب ابن الزيات بنبرته اللامبالية ظاهريا: “توجه إلى مكة فغرق في بحر المشرق”.