سرديات

كيف يَحِيـكُ أنيس هيئاتِـه ؟

قَبْلَ أن أهُمَّ بقراءة ما خاطَهُ أنيس من هيئات؛ وَضعتُ مجموعةً من التوَقُّعات والتخمينات المبدئية، كوَّنتُها من خلال مُراكمتي لبعض الخبرات التحليلية في السرد التجريبي بشكل عام؛ وفي الكتابة التجريبية عند أنيس الرافعي على وجه الخصوص. وكنتُ واثقا تماما أنني سأصل بعد نهاية قراءة هذه المجموعة، أو مباشرةً بعد التقدُّم صفحاتٍ في قراءتِها؛ إلى المُسلمات التي سَطرتُها بادئ الأمر. وكذلك حصل، واستطعتُ أن أجد الخيط الناظم بين “خياط الهيئات” وسابقاتِها من المجاميع التي حاكَها أنيس.

وبخلاف ما قد يذهب إليه البعض ممن يحاولُون اقتحام تعويذات أنيس السردية الملغومة دون سابق حيطة وحذَر وتوجُّس من اعتبار كلِّ عملٍ جديدٍ أيقونةً مستقلة قائمة بذاتِها، فإن الأمر مُختلفٌ تماما مع نصوص أنيس؛ فكل مجموعة من هذه المجاميع التي تخرج من بين الفينة والأخرى من معمل أنيس السردي (العتيق الذي تُعشّش فيه المواظبة ويعلوهُ غبارُ الالتزام؛ ورائحة الخَرْق والابتكار والتورية)؛ ما هي إلا قطعةٌ نفيسة ولبنة صغيرة في صَرحٍ سرديٍّ تجريبي ضخم، تَعْكِفُ معاوِلُ أنيس وماكينَتُه السردية على نحتِه وتشييدِه وإرساءِ أساساتِه وإقامة بُنيانِه. صرحٌ يبدو مُشوَّها من الخارج وغيرَ ذي شكلٍ مُحدد؛ لكنه يُرى للناقد الحاذق أيقونةً سردية بديعة يؤثثُها التجريب ويَكسوها الانزياح من كل حدب وصوب.

 والذي يتأمل كتاباتِ أنيس ويتابعُها باهتمام، سيكتشف بسهولة ويُسر حجم وسلاسة وتسلسل الانتقال والتطور في كتابات أنيس. فأنت لا تستطيع النفاذ إلى خياط الهيئات نفاذاً مُبرَما؛ دون أن تكون قد عبرتَ إلزاماً مِن عنابر وأروقة مصحة الدمى أولا.

مازال أنيس بكتاباته وإصداراته المتتالية يُعمِّق الهوة بين الكتابة التجريبية والقارئ الكلاسيكي، ويكرس مبدأ نخبوية هذه النصوص أكثر فأكثر، والتي تتسع وتضيق مقروئيَّتُها تَبَعا لتكوين ومستوى القارئ. فنصوصٌ مثلُ ما يُحاوِلُه أنيس، يَصعُبُ على أيٍّ كان اقتحامُها إن لم يكن مُتدرِّعا ومُحصَّنا بذخيرة  تأويلية وتحليلية جبارة. فهي لا تعطيك أي شيء قبل أن تسلُبَك وتثير فيك زوبعة من الشك والحيرة والفضول والتساؤل. إنها وبكل بساطة؛ وبِنِيَّة السارد المُبيَّتة، تُجهدُك وتستعملك في تمنُّعٍ مقصودٍ لكي تسبر بك أغوارَ عوالِمها المُخفية خلف حُجُب التجريب ومفازات الانزياح. فمهما بدا شكلُها الخارجي غيرَ ذي نظامٍ، فإن بِنْيَتَها الداخلية أكثرُ اتساقا وأشد انسجاما وترابطا ونظاما.

مازال هاجس أنيس الأكبر هو التشظي. تشظي الذوات وحلولُها في أجسادٍ وقوالبَ مختلفة بحثا عن التكامل والانسجام والقالب المناسب والمطابق والمُريح والمثالي.

خياطُ الهيئات؛ سلطعونٌ يَجوبُ أغوار البحار عارياً يبحث عن كلِّ مُقعّرٍ  لينحشر فيه بحثا عن هيئةٍ من جمادٍ توافقُه. فكل الهيئات بالنسبة لأنيس تحتاج إلى إعادة خياطة، وكل قارئٍ مدعوٌّ لمشاركة أنيس في حياكة الهيئات وتشكيلِها؛ ولما لا الحلول فيها لبعض الوقت!.

تتخطى الهيئات عند أنيس الرافعي بُعدها المادي إلى الكينونة المعنوية المتمثلة في الأفكار والهواجس والمتناقضات والشخصية والأحلام والآمال والقيم والصراع والخوف والحب والموت والحياة والوهم والحقيقة والأمن والسلم..، وهذا السعي الدؤوب؛ لا يقودُه أنيس شخصيا ولا يقودُه عبر شخوصِه التي غالبا ما تتشظى عنه ومنه وفيه. بل يتعداها إلى القارئ نفسِه الذي بِمُجرَّد أن يَهُمَّ بالقراءة حتى يجدَ نفسَه دون وعيٍ؛ مُشاركا في هذا الإثم، حاملا إبرتَه وشارعا في خياطة ما بدى له من هيئاتٍ أو يُرمِّمُ ما انخرم منها. وأحيانا تُغريه أطيافُ الغابرين والمغادرين ممن تركوا بصمة  قبل أن يمضوا، فيحلُّ ذاتا في كيانِهم الهُلاميّ، ويتحدثُ بلسانِهم ويتقمّص ما قد يبدو له حياتَهم العادية الرتيبة. ثم لا يَلبثُ أن يُغادرِهم إلى دَواتٍ أكثرَ رحابةً أو أشدَّ ضيقاً وانغلاقا. يحدُثُ كلُّ هذا تحت تأثير السرد وسطوة التجريب.

لا يَملك خياطُ الهيئات حقيقةً؛ لا إبرةً ولا خيطاً ولا حيلة أيضا. أداتُه الوحيدة هي القلم والكرسي والطاولة ومُخيِّلَتُه الواسعة؛ التي يهرب بها إليها ليَخلُقَ عوالمَه وشخوصَه وذواتِه وهيئاتهِ على مزاجِه، وبالأبعاد والأوصاف والقدرات التي يختارُها. لقد جرَّب أنيس هذا في “عُلبة الباندورة” وفي “اعتقال الغابة في زجاجة” وفي “أريج البستان” وها هو يُعيد الكرة مرة أخرى ويعلنُها صراحة في “خياط الهيئات” إنه أنا “أنيس الرافعي”.

إنَّ الأبدع والأروع في أنيس؛ أنه يستطيع الرسم بالكلمات، وتشكيل صورٍ ولوحاتٍ غايةٍ في التجريد ومغرقة في الانزياح. ويبقى العائق الأكبر أمام ولوج واقتحام نصوص ولوحات السرد التجريبي هو أُفُق التأويل؛ ومدى مقدرة القارئ على تجاوزِ عُقدة النصوص الكلاسيكية ذات الترتيب والتوضيب الأُفقي، إلى نصوصٍ عموديةٍ مُتشظية. فأنيس بنصوصِه هذه؛ يَحملُ المرآة إلى آخر طابق في عمارة السرد ويرميهِ من الشرفة في وضعية استواءٍ؛ ليهويَ كالبساط إلى أن يرتطم بالأرض ويتشظى، فتُصبح تلك المرآة الواحدة ألاف المرايا التي تعكس الهيئة الواحدة إلى آلاف الهيئات المشوّهَة والممسوخة والغريبة والعجيبة والمضحكة والجميلة و..،

أما ما يُعاب على كتابات أنيس؛ أنها رغم استدراجها للقارئ للمشاركة والتساؤل والاكتشاف؛ إلا أنها تظلُّ خاضعةً لسلطة الراوي وسطوتِه؛ والذي يقودُها إلى حيثُ يريدُ هو؛ لا إلى حيث تهفو وترغب هي. لذلك إذا اسْبَدَّتْ بك الأسئلة وأحاطت بك من كل حذبِ هذه النصوص وصوبِها، لا تسأل كاتِبها وأحْجِم عن ذلك، فإن المبدعَ دورُهُ أن يَطرَح الأسئلة أو يجعلَك تتساءل، لا أن يُجيبَ عن أسئلتِك.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى