السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة
- تقديم:
يُقدِّم رافاييل باروني (Raphaël Baroni)، في هذا المقال، نبذةً وجِيزةً عن مصطلح السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة، بوصفه مفهومًا يشير إلى نزوع المقارَبات السّردانية المعاصِرة إلى دراسة الخطابات غير التّخييلية، وتحليل الأبعاد السّياقية والمعرفيَّة التي ضربت عنها السّرديات الكلاسيكيَّة ذات الاتّجاه البنيويّ صفحًا.
وهو ما يجعل السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة ميدانًا علميًّا مُتعدِّدَ التّيارات والمسارات؛ فقد أفْضى إقْبالُها على توسيع المدوَّنة وانفتاحها على العلوم الأخرى إلى بروز ميادين فرعيَّة، من قبيل السّرديات السّياقية والسّرديات المعرفيَّة والسّرديات المتعاليَّة على الأجناس ووسائط التّواصل أو الميديا.
وعلى الرّغم من تكثيف هذا المقال لتاريخ السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة واتّجاهاتها ورهاناتها، فسيُلْفي فيه القارئ العربيّ مدخلًا جميلًا للتّعرُّف إلى طبيعة هذا الميدان الذي يُمثِّل توسيعًا للسّرديات الكلاسيكيَّة أو البنيويَّة وتكمِلةً لها، كما سيُلْفي في المراجع التي ركَن إليها الكاتب في سبيل تأليفه (والتي لم نُثبتْها لا في متْن التّرجمة ولا في هامشها، إيمانًا منّا بأنّ القارئ سيعود إلى النّص الأصليّ) حافِزًا له إلى الاستزادة ومُحاوَلة الإلْمام بكلّ ما يتعلّق بهذا العلم.
- نصّ المقال:
تحيل السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة إلى تيّارات مختلفة من السّرديات المعاصِرة المتميِّزة، قليلًا أو كثيرًا، عن المقارَبات البنيويَّة أو الشّكلانية، تلك التي تمّ إدراكُها بوصفها خصائص الحقبة “الكلاسيكيَّة” لنظريَّة المحكيّ، القائمة في سنوات السّتينيات والسّبعينيات. لقد ظهر هذا المصطلح، لأوّل مرّة، في مقالٍ لديفيد هرمان (David Herman)، عندما أكّد على أنّ استعمال المنظورات المتأثِّرة بالعلوم المعرفيَّة يسمح بإعادة التّفكير في مُشكِل المقطوعات السّردية، الذي يُعَدُّ من صميم التّأمُّل السّرداني:
“إنّ إعادة التّفكير في مُشكِل المقطوعات السّردية يسمح بتعزيز تطوُّر السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة التي ليست، بالضّرورة، ما بعد بنيويَّة؛ فهي نظريَّة غنيَّة ترتسِم انطلاقًا من تصوُّرات ومناهج لم تُتَيَسَّرْ لعلماء السّرد الكلاسيكيِّين”.
وقد استُخدِم هذا المصطلح، بعد ذلك، لتعيين تعدُّد المقارَبات التي تهدف إلى تنظير المحكيّ، بتبنّي منظورٍ عمَليٍّ أكثر، أو مُؤسَّسٍ على مُدوَّناتٍ لا تقتصِر على التّمثيلات الأدبيَّة أو الشّفهية. وكما يُوجِزه جيرالد برنس (Gerald Prince)، فإنّ السّرديات المعاصِرة هي امتداد للمقارَبات “الكلاسيكيَّة”، ولكنّها تفتح، أيضًا، آفاقًا جديدةً للدّراسات السّردية:
“إنّ السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة تطرح الأسئلة التي طرحتها السّرديات الكلاسيكيَّة: ما هو المحكيّ (في مقابل غير المحكيّ)؟ فيمَ تتمثّل السّردية؟ وكذلك، ما الذي يُمطّطها أو يُقلّصها، ويؤثّر في طبيعتها ومرتبتها، بل ما الذي يجعل المحكيّ قابلًا للسّرد؟ ولكنّها تطرح، أيضًا، أسئلة أخرى: حول العلاقة بين البنية السّردية والشّكل السّيميائي، وتفاعُلهما مع الموسوعة (معرفة العالَم).
ووظيفة المحكيّ وليس اشتغاله فحسب، وعلامَ يدلّ محكيٌّ أو آخر وليس الطّريقة التي يدلّ بها كلّ محكيّ فقط، وحركيَّة السّرد، والمحكيّ بوصفه سيرورةً أو إنتاجًا وليس مجرّد مُنتَج، وأثر السّياق وطرائق التّعبير، ودور المتلقّي، وتاريخ المحكيّ بقدر نسقه، والمحكيّات في تطوُّرها مثل آنيتها تمامًا، وهكذا دواليك”.
وتُشدِّد ماري – لور رايان (Marie-Laure Ryan)، بدورها، على ظهور سرديّات ما وراء ميديائية، تستجيب لـ “تحوُّل ثقافيّ” ملحوظ في الدّراسات السّردية:
“بينما كانت المرحلة الكلاسيكيَّة من السّرديات مُنْشغِلةً، على وجه الخصوص، بالتّخييل الأدبيّ، ولم تختلف عن النّقد الأدبيّ سوى من خلال اهتمامها بالعامّ بدلًا من الخاصّ، أصبحت في المرحلة ما بعد الكلاسيكيَّة تفهم الحكاية بوصفها نمطَ دلالةٍ يُمكِن أن يظهر عبر تعدُّد وسائط التّواصُل وأجناس الخطاب”.
ينبغي الإشارة إلى أنّ تمديد المدوَّنة هذا يفضي، من جهةٍ، إلى ضرورة التّفكير في الوظائف المعرفيَّة المتداخِلة والتي تستدعيها الآثار السّردية جميعها، ومن جهةٍ أخرى، إلى مراعاة خصائص التّجسيدات الميديائية للمحكيّات، ممّا يؤدّي إلى تطوير ما أسْماه رايان وطون (Thon) “سرديّات واعية بالميديا”؛ أيْ سرديّات تُدرِك القضايا المرتبِطة بالخصائص السّيميائية والثّقافية لوسائط التّواصُل.
وقد حدَّد مايستر (Meister)، بعد نونينغ (Nünning)، ثلاثة اتّجاهات أساسيَّة تُميِّز المقارَبات المعاصِرة:
(أ) السّرديات السّياقية، التي تربِط المحكيّات بسياقها الثّقافي، والتّاريخي، والموضوعاتي، والأيديولوجي (خاصّةً في المقارَبات النّسوية أو ما بعد الكولونيالية).
(ب) السّرديات المعرفيَّة، التي تنزع إلى المعالَجة الفكريَّة والعاطفيَّة للمحكيّات.
(ج) السّرديات ما وراء الأجناسيَّة وما وراء الميديائية، التي ترفَع تحدّي توسيع التّصوُّرات السّردانية لدراسة الأجناس أو وسائط التّواصُل التي تقع خارج المحيط “الكلاسيكي” للنّصوص الأدبيَّة.
أمّا يان ألبر (Jan Alber) ومونيكا فلودرنيك (Monika Fludernik) فيُشدِّدان على أنّ المقارَبات ما بعد الكلاسيكيَّة تعالج الثّغرات المحتمَلة للنّموذج الأصلي، وتقترح أنماطًا مختلفةً من الإضافات لتدارُكها:
(أ) إضافات منهجيَّة (لسانيَّة، وتحليليَّة نفسيَّة،…).
(ب) إضافات موضوعاتيَّة (نسويَّة، وما بعد كولونياليَّة،…).
(ج) أو إضافات ميديائية (السّينما، والرّواية المصوَّرة،…).
وقد انتقد ماير شترنبرغ (Meir Sternberg)، بشِدّةٍ، التّعارُض كلاسيكي/ما بعد كلاسيكي، مُستدِلًّا بأنّ المقارَبات البديلة للشّكلانية كانت موجودة قبل الحقبة المسمّاة “كلاسيكيَّة” وأثناءها وبعدها. كما شدَّد آخرون على أنّ هذا التّمييز يفتقر إلى التّماسُك النّظري، وأنّه من الأفضَل الاستعاضَة عنه بالتّعارُض بين الإبستومولوجيا الموضوعيَّة والمؤسِّسة للمقارَبات الشّكلانية والمقارَبات البنائيَّة التي تراعي حقيقةَ أنّ المحكيَّ هو نتاج تفاعُل بين الأثر السّردي والوعي الذي يُحيِّنه. وعلى الرّغم من تنوُّع التّيارات التي يُمكِن ربْطُها بالمقارَبات ما بعد الكلاسيكيَّة، يُؤكِّد أرنو شميت (Arnaud Schmitt):
“إنّ تعريف هذا الانقسام ليس بهذا القدر من عدم التّماسُك؛ فهو يضطرب، قبل كلّ شيءٍ، بين اتّجاهيْن اثنيْن: تعريف زمنيّ (السّرديات البنيويَّة الكلاسيكيَّة والسّرديات بدايةً من سنوات الثّمانينيات، بأشكالها جميعها)، أو منهجيّ (السّرديات البنيويَّة والسّرديات التي تقترِن بالتّلقي، عمومًا).
يُمكِننا، أيضًا، التّشديد على جدوى هذه العلامة لإبراز، خلافًا للفكرة السّائدة (المتجذِّرة في البلدان الفرانكفونيَّة خصوصًا)، أنّ السّرديات لا تتداخَل مع النّموذج البنيويّ لآبائها المؤسِّسين. إنّ هذه العلامة تُسْعِف في التّذكير بأنّ نظريَّة المحكيّ قد تنوَّعت، وبأنّ أفول البنيويَّة لا يفضي إلى زوالها بوصفها تخصُّصًا علميًّا. ويُشدِّد برنس، بدوره، على أنّ السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة “لا تشكّل نفيًا، ورفضًا، واستبعادًا للسّرديات الكلاسيكية، ولكن، بالأحرى، تتمّةً، وتمديدًا، وتهذيبًا، وتوسيعًا”.
المصدر:
Raphaël Baroni: «Narratologie postclassique / Postclassical Narratology», Glossaire du RéNaF, mis en ligne le 10 septembre 2018.
URL: https://wp.unil.ch/narratologie/2018/09/narratologie-postclassique-postclassical-narratology/
مجلة فكر الثقافية