هل النقد الأدبي فنٌّ أم علم؟ ظل هذا السؤال مطروحا ومتنازعا عليه مدة طويلة إلى أن ظهرت البنيوية، التي مثلت التوجه العلمي في دراسة الأدب.
واستطاعت أن تنشئ علوماً للأدب خاصة في فرنسا، محدثةً نقلة نوعية في الدراسات الأدبية في أوروبا الغربية على وجه الخصوص؛ والأمريكية فيما بعد. لتنتقل عدوى البنيوية إلى العالم العربي عبر الرواد الأوائل من المترجمين والمشتغلين بالنقد الأدبي.
أحدثَ دخولُ البنيوية إلى العالَم العربي هزة قوية في التوجه السائد للدراسات الأدبية؛ الذي ظل معتمدا منذ النهضة على النموذج الكلاسيكي في التحليل. ومنحت البنيوية إمكانيات أوسع وأعمق للتحليل والدراسة، فظهرت الخطاطات والرسوم والتشجير..؛
وتم اعتماد المصطلحات والمفاهيم، وبدأت التخصصات تتمايز وتتفرَّع في الدراسات الأدبية، محجِّمة في الآن نفسِه ثقافة الموسوعية والتعميم اللذين ظلا سائدين إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي.
لم تلقَ البنيوية قبولا لدى النقاد في العالم العربي، خصوصا أولئك المحسوبين على التيار الكلاسيكي المحافظ. خريجي المدرسة الأدبية العتيقة؛ حيث رفضوا هذا الوافد الجديد رفضا باثا، واتهموهُ بإفراغ الأدب من روحِه وقيمتِه الفنية. وتحويلِه إلى مجرد خطاطات وعرائض وأشكال تقنية جوفاء لا حس فيها ولا ذوق.
فيما انتصر للبنيوية إلى حد التعصب ثلة من النقاد والمهتمين بالدراسات الأدبية المنفتحين على التطور المطَّرد الذي عرفتُه المدرسة الفرنسية والأنجلو سكسونية في ميدان الأدب والدراسات الأدبية. خصوصا أولئك الذين نالوا حظا من الدراسة في الخارج وتأثروا بموجة المناهج التي اكتسحت أوروبا آنذاك.
لقد كانت الفترة البنيوية وبحق؛ فرصة عظيمة لبلورة التفكير العلمي، ليس في الأدب فقط، وإنما في كل التخصصات المنضوية تحت قبة العلوم الإنسانية.
لكن الانبهار بالشكل وإغفال المضمون، واعتبار البنيوية موضة أكثر مما هي أسلوبٌ علمي. أضاع على العرب تطوير دراساتِهم الأدبية، فكانت غالبية الجهود التي بُذلتْ في هذا الاتجاه، بنيوية الظاهر؛ كلاسيكية الجوهر.
لقد حددت وبدقة؛ البنيوية في أوربا وأمريكا حدودَ كلٍّ من الناقد والسارد، واستوى السرد فيهما عِلماً قائما بأدوات العلوم الأخرى. وأعلنَ عن الانتقال إلى مرحلة أخرى أكثر رحابة، كانت نتاجا لما راكمته البنيوية.
سُميتْ (هذه المرحلة) بــ “ما بعد البنيوية“، وكذلك فعل العرب مباشرةً، دون أن يتم تحديدُ حدودِ كلٍّ من الناقد والسارد، بل ودون أن يعلم المشتغلون بالسرد هل هُم إزاءَ عِلم سرديٍّ أم نقدٍ سردي.
في الدراسات الأدبية الغربية، تم الحسم في هذه المسألة، فالسرديات عندهم عِلم قائم بذاتِه، والمشتغل بالسرد عندهم عالمٌ وليس ناقداً. أما في عالمِنا العربي فقد تعذر علينا الوصول إلى النتيجة نفسِها التي وصلت إليها البنيوية في أوروبا، اعتبر المشتغلون بالدراسات الـأدبية أن النقد الأدبي عِلمٌ وفن في الآن نفسِه،
وذلك عندما عجزوا عن إفراغ المادة الأدبية في القالب البنيوي بالطريقة التي اشتغل بها الأوربيون، إذ إن المنهج البنيوي ليس قالبا جاهزاً وصالحا لكل شيء، فأصبحت بنيويتُنا بنيويةً ناقصة تسير بساق العِلم تارة؛ وبساق الفن تاراتٍ كثيرة.
وهذا يتجلى أكثرَ ما يتجلى؛ في الدراسات التي تتم على نصوص أدبية بمنظور بنيويٍّ، فهي في معظمِها عبارة عن أساليب وتقنيات جديدة في تجميع المعلومات وإقحام المفاهيم والمصطلحات واعتماد الرسومات والخطاطات، في غياب واضح لملامِح المنهج أو النظرية،
إذ أقسى ما استطاع المشتغلون بالدراسات الأدبية العربية في تلك الفترة القيامَ به؛ هو بلورة نواة غير مكتملة للتخصص السردي، أو كما يسميه الدكتور سعيد يقطين بــ”النقد السردي”.
وبالتالي والكلام دائما للدكتور سعيد يقطين؛ فإن الناقد العربيّ ظل هو هو، ولم يستطع تطوير أدواتِه المنهجية والنظرية والإجرائية والمفاهيمية للانتقال من الناقد إلى السرديّ أو المشتغل بالسرديات أو عالِم السرديات.
لم يتغير كثيراً فهمُنا للأدب عن الفهم السائد زمن النهضة إلى اليوم، كما أن طرائق التحليل؛ وإن كانت بنيوية في ظاهرِها،
إلا أنها في جوهرِها لا تحمل أيَّ روح علمية أو نظرية صريحة. وبالتالي؛ وجب على المشتغلين بالدراسات الأدبية أن يعوا جيدا موقعهم من كل هذه التخصصات، حيث يتسنى لهم معرفة ما المطلوب منهم وما هي حدود إمكاناتِهم ومؤهلاتِهم المنهجية والأكاديمية.
وأوَّل معلومة يجب أن تُوقَرَ في نفوسِهم ووعيهِم هي؛ أن الناقد الأدبي شيء مختلف تماما عن السرديِّ، وأن البنيوية هي نقيض النقد الأدبي. لأن النقد الأدبي انطباع وتصور، في حين أن البنيوية عِلم؛ أو لنقل تفكيرٌ علميٌّ في حدودِها الدنيا.
وما دمنا عاجزين عن مجرد تحديد هذه الفروق البسيطة، فإن النقد عندنا سيظل طفلا، مهما تقمص رداء النظريات الحديثة، وتوشَّح بالمصطلحات والمفاهيم الوافدة. وتحديدُ هذه الفروق تستلزم أولا وعي كلٍّ من الناقد والسارد بمهامِهما وحدودِ اشتغالِ كلٍّ منهما.