ترجمة: د. أسماء كريم
حوار مع: إيمري كرتيش Imre Kertész
أجرى الحوار: إلين فريزنل Hélène Fresnel
نُفِي إيمري كيرتيش Imre Kertész، الحائز على جائزة نوبل للآداب، الصحفي السَّابق والمترجم والروائي وكاتب المقالات، الـمُتوفَّى سنة 2016، إلى أوشفيتز Auschwitz، ثم خضع للنظام الديكتاتوري الشيوعي الهنغاري؛ التَّجارب المأساويَّة التي تمكَّن من تأليفها في الإبداع الأدبي.
المجلَّة: تَمَّ نفيُكَ في سن الرَّابعة عشرة. وأعلنتَ لاحقًا: “لقد تمكَّنتُ من النظر إلى أوشفيتز كَمكسَب”. كيف يمكن أنْ يصبح هذا ممكنًا؟
إيمري كيرتيش: من الواضح أنَّ ترحيلي ثروة، فَبِفَضله أصبحتُ كاتبًا. لقد فتح عيناي: ما عاينتُه حطَّم تصوُّري للحضارة الأوربيَّة.
في أوشفيتز وبوتشينالد Buchenwald، رأيتُ ما يمكن للإنسان أنْ يراه: ماهي الحياة في تفاصيلها الأكثر تفاهة، وكيف يتعلَّم المرء تذوُّق أبسط شعاع من أشعَّة الشمس بين لحظات المعاناة.
أولاً وقبل كلّ شيء، لم أكن أعرف ما كنتُ في الماضي. ثم بعد ذلك، ومن خلال مُعايشتي لتعاقب الأنظمة الديكتاتوريَّة في بلدي _هتلر Hitler وسيلاسي Szalasi والصليب الآري Le croix fléchées، وراكوسي Rákosi، وقادير Kadar (تعاقب الديكتاتوريَّات النازيَّة والفاشيَّة والستالينيَّة) _ فهمتُ كيف تعمل الديكتاتوريَّة، وما الذي يصبحه الإنسان في ظلِّ هذه الأنظمة: شخصٌ ثانوي.َّ
المجلَّة: بين عامي 1945 و1948 عشتَ في هنغاريا فترة ديمقراطيَّة قبل الديكتاتوريَّة الشيوعيَّة. ماهي الذكريات التي تحتفظ بها؟
إ.ك: خلال تلك السَّنوات الثلاثة كنتُ فقيرًا. لم يكن لديَّ أي شيء. مات أبي، لم يعد من المعسكرات. كنتُ أعيش مع والدتي التي سرعان ما تزوَّجت مرَّة أخرى.
عشتُ معها لمدَّة سنتين أو ثلاث، ثم جاء دوري للزَّواج والمغادرة. كانت لديَّ أنا وأمي حياة مختلفة جدًّا: بين سنتي 1956 و1962، في ظل الديكتاتوريَّة، كانت دبلوماسِيَّة في يوغوسلافيا.
لقد كرهتُ ما تُـمثِّله. لكن خلال السنوات الثلاث التي سبقت تأسيس الديكتاتوريَّة، كانت لديَّ حياة فكريَّة غنيَّة جدًّا. وكنتُ أومن بفكرة الاشتراكيَّة. لقد قرأتُ، وتحدَّثتُ إلى مؤلّفين وفنَّانين.
المجلَّة: هل اكتشفت فرويد Freud والتحليل النفسي في هذا الوقت؟
إ.ك: لا. حدث ذلك في وقت لاحق؛ في ظل الديكتاتوريَّة، في وقت كان فيه هذا النَّوع من القراءة ممنوعًا. كنتُ في الخامسة والعشرين من عمري عندما قرأتُ في الخفاء Psychopathologie de la vie quotidienne/ علم النَّفس المرضي في الحياة اليومية [بايوتPayot/].
بعد سنوات، ترجمتُ من الألمانيَّة إلى الهنغاريَّة Le Moise de Michel-Ange (Points)، النص الذي يهتم فيه فرويد بهذا التمثال الذي أذهلَهُ. ومع ذلك، لم تُبهرني استنتاجاته وتفسيراته لعمل النَّحات.
المجلَّة: هل قادتك هذه القراءات، وترجماتُك وتاريخك إلى التَّحليل؟
إ.ك: لا. لكنني تعلَّمت الكثير عن الآثار النفسيَّة لما يحدث لي في فترة 1985-1986، بالتواصل مع طبيبة نفسيَّة للأطفال تريز فيراج Teréz Vérag.
لقد اكتشفت أنَّ العنف النفسي الذي يعاني منه النَّاجون من الـهولوكست كان نقطة البداية لمشاكل الهويَّة لأحفادهم. كانت أول من تعرَّف على “متلازمة الهولوكوست” عند أحفاد العائدين من المعسكرات.
كانت عندهم أعراض مشتركة: اضطرابات في العلاقة مع الآخرين، واضطرابات في تصوّر الجسد الذي أساء إليه الكثيرون، أو الذي اسْتُكْشِفَت حدوده إلى درجة الإرهاق.
والنتيجة هي اضطرابات خطيرة في “الذَّات” [صورة الذات]: المجروحة والـمُتضرِّرة والـمُفجَّرة والعائمة، والمحرومة من الأساسيَّات. الـمُحمَّلة بالقلق أو الخوف أو الشعور بالذَّنب أو العدوانيَّة.
المجلَّة: في “قادش من أجل الطِّفل الذي لم يُولد بعد”/ Kaddish pour l’enfant qui ne naîtra pas، يرفض البطلُ “بي” Bè، النَّاجي من المعسكرات إنجاب أطفال.
أنتَ لم يكن لديك أطفال. هل هذا بسبب أوشفيتز؟
إ.ك: إنه نصٌّ تعمل فيه لبقوى الهدَّامة بشكل كبير. يرفض “بي” Bè، الذي دمَّرته تجربة معسكرات الاعتقال، الانجاب من جوديث Judith، المرأة التي يحبها، ثم يُكفِّر عن ذلك بإعفائها خاصة من مسؤوليَّة انفصالهما؛ سيموت حتى تتمكَّن من العيش.
لكنها رواية! وبطبيعة الحال، ستستمر البشريَّة. صحيح، لم يكن لديَّ أطفال، لكن زوجتي لديها أربعة، وأنا كتبتُ كتبي. هكذا أحاول المشاركة في المستقبل!
المجلَّة: هل بنيتَ نفسك من خلال الكتابة، وقاومتَ بها عوالم الاعتقال والديكتاتوريَّة؟
إ.ك: نعم، بالتأكيد. انتقلت من رعب إلى آخر، من النازيَّة إلى الشيوعيَّة. قرَّرتُ أن أصبح كاتبًا في سنِّ الخامسة والعشرين، عام 1954، في ظلّ نظام راكوسي الشيوعي. تعمل المعسكرات والديكتاتوريَّة ضد البناء الشَّخصي للفرد. إنَّها تحاول معارضتَه وتخريبه.
لقد جاهدت محاولاً عدم الاندماج في المجتمع الذي كنت محسوبًا فيه؛ خلال النهار، كنتُ أتنكَّر في صوت كاتب مشهورٍ ومُسلٍّ، أكتب الأوبِيرِيتات. هذا ما جعلني أعيش مادّيًا.
ثم في اللَّيل، في المنزل، كنت أختبئ وأكتبُ “لا مصير”/ Être sans destin. بدأتُ العيش حقًّا منذ اليوم الذي عرفتُ فيه ما الذي أريدُ كتابَته.
المجلَّة: هل تتذكَّر اللحظة التي قرَّرت فيها تأليف رواية؟
إ.ك: أعتقد أنني ولدت كاتبًا. لكنني أتذكر اللحظة التي جاءني فيها الالهام، ذلك الصباح من سنة 1954. كنت أنتظر في ممرٍّ طويل وضيق. سمعت وقع خطوات قويَّة جدًّا.
في تلك اللَّحظة، أدركت جاذبيَّة الخطوات على الحَشْد. جاذبيَّة تدفع الإنسان إلى التَّخلي عن فردانيَّتِه. أردتُ مقاومة ذلك وقلت في نفسي: “أريد أنْ أبقى في هذا الـمَمرّ، لكنني أريد أن أعيش حياتي الخاصَّة”.
وجودي كلّه هو نتيجة هذه اللحظة. ثم سمحتْ لي الكتابة أن أبقى على قيد الحياة. استغرق الأمر منّي ثلاثة عشر عامًا، من 1954 إلى 1967، لأكتب هذه الرّواية الأولى.
عندما قرَّرت في سنة 1960 أن أركّز على قصَّتي الخاصَّة، لم أرغب في كتابة سيرة ذاتيَّة، فأنا لا أصدِّق ذلك: فمنذ اللَّحظة التي تقرّر فيها الكتابة، فأنتَ تدخل في الخيال.
خلال هذه السنوات الثلاث عشرة من النُّضج، صنعتُ فلسفتي الخاصَّة. كان عليَّ أنْ أرى بوضوح ما أريده، وأنْ أتعرَّف على حالة الفنِّ وعلى طبيعته وعلى طبيعة الديكتاتوريَّات، وعلى طبيعتي الخاصَّة…هذا الأمر الذي لم ينجح أبداً! [يضحكُ].
المجلَّة: تنتهي قصص الحُبّ في نصوصك بشكل سيّء. لكن أنتَ، هل سمح لك الشعور بالحب -أنْ تُحبّ وأن تكون محبوبًا- بأنْ تعيش وتبدع وتشعر بالوجود؟
إ.ك: ربَّما، نعم…وبالنسبة للحُبّ في رواياتي، فالوَضْعُ ليس ميؤوسًا منه إلى هذا الحدِّ. خُذ حالة جوديث، بطلة “التَّصفيَّة”/ Liquidation. إنَّها تُحب زوجها الثاني ويحبُّها.
ولقد انهار كلّ شيء لأنَّه يطرح الكثير من الأسئلة الحميمة. بالمناسبة، كلُّ شخص لديه حياة سرّيَّة، والتي تكون أحيانًا الحياة الحقيقيَّة. والذي لا يحترم هذه السّريَّة يدخل بالضرورة في صراع مع الآخر. ومع ذلك، أرفضُ تقديم قواعد عامَّة.
المجلَّة: ماذا يعني أن تكون يهوديًّا، بالنسبة لك؟ عندما نقرأ مؤلَّفاتِك، فهذا أمرٌ غير واضح حقًّا…
إ.ك: اليهوديَّة صعبة. وقد تغيَّر كل شيء منذ الهولوكوست ووجود إسرائيل. ليست لديَّ ثقافة يهوديَّة، ولستُ مرتبطًا بشكل خاص بالدِّين أو الدَّولة. في الواقع، عندما ذهبتُ إلى هناك، أدركتُ أنَّني لستُ جزءًا من هذا المجتمع.
لكن هذه اليهوديَّة موجودة، حتى لو كنَّا لا نعرف ما إذا كان يجب أنْ نفتخر بها أو نخجل منها. على أيّ حال، لا يمكنني تحرير نفسي منها. يجب تحمّل المسؤوليَّة دون الاختباء ودون إنكار الذَّات.
لم أكُنْ على علم بكوني يهوديًّا قبل نَفْيِي، لكن كان عليَّ أن أفهم أنَّني أتيتُ من اليهوديَّة.
وبِوصْفي كاتِبًا، فأنا أتعامل معها كموضوع. قصَّتي هي قصَّة النُّزول إلى الذَّات، نحو الحقيقة، في عالَم حيث كلّ شيء مجرَّد مظاهر.
المجلَّة: ما الذي توَدُّ نقله؟
إ.ك: آمُلُ أن يصبح الإنسان على طبيعته تجاه كلّ شيء، وضد كلّ شيء. نحن محاطون اليوم بأفراد “وَظيفيِّين” لا يعيشون حياتهم. إنهم يعيشون “وظيفتهم”.
وعندما تتغيَّر هذه الأخيرة فإنَّهم يتغيَّرون. هذا كلّ شيء، ليس هناك -أو قليلون- أناس مأساوِيُّون؛ أي كائنات لها مصيرها الخاص، وتقوم بتأسيسه لنفسها.
أتمنَّى أن يرفض الإنسان أن يصبح قطعة من آلة عظيمة بدون روح. وأعتقد أن علينا أن نحاول بناء أنفسنا، بغض النَّظر عن النّظام من حولنا، من خلال النَّظر إلى ذواتنا، بأكبر قدر ممكن من الوضوح. أدركت نفسي في عالم زائف أحاول أنْ أكون مستبصرًا عن نفسي.
أشعر أنَّني نجحت في ذلك، على الرّغم من أنَّني لستُ متأكّدًا من أنَّ هذا هو الحال، ومن أنَّ كلّ شيء قد تَمَّ حتى لا أستطيع فعل ذلك.
في الأساس، المهمَّة هي نفسها بالنسبة لكل واحد منَّا. من الواجب أن نكون منصفين وصادقين مع الذَّات في مواجهة النِّفاق الجماعي.
إنَّه أمرٌ صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، لكن هذا ما يهدف إليه عملي. علاوة على ذلك، إذا رفضت استخدام مصطلح السيرة الذَّاتيَّة، وأكدت الكتابة باعتماد الخيال، فذلك أيضًا لأنني أعرف أنَّه من الصَّعب أن يرى المرء نفسه كما هو. الاهتمام بالحقيقة هو مفتاحي.
المصدر:
مجلة Psychologies الفرنسية، عدد خاص (Hors-Série (59، نوفمبر-ديسمبر 2020، ص:84-85-86-87
إعداد: د. أسماء كريم – باحثة في الترجمة ونظرية النص وتحليل الخطاب – المغرب.