حين كنت تلميذا في الثانوي كان أستاذ التاريخ يكتب في مذكرة كشف الاعداد التي يرسلها المعهد إلى ولي أمري ملاحظة وحيدة في خانة مادته هي: «ينقصه التركيز». أنا لا أعرف لماذا كان يكتب لي ذلك، لكني كنت أصدقه؛ ربما كتب الملاحظة لأني كنت برما بالوقت المدرسي المتطاول، الذي كنا نقضيه بين سجن الطاولات والصمت الذي يراد له أن يكون مطبقا في حصة الدرس.
من الدروس التي أذكرها ساعة كان يحضر عندي التركيز درس حول الثورة الفرنسية ومفكريها من أمثال مونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهما؛ وما زلت أذكر من ذلك الدرس تفاصيل لم تغب عني، مثل اقتحام الثوار حصن لا باستيل وما ترجمه الأستاذ لنا من وثيقة كتبت بالفرنسية ذهب عدم التركيز بمصدرها يقول فيها بعض الثوار لبعض جنود الملك لويس السادس عشر: «اذهب إلى سيدك وابلغه أننا هنا باسم الشعب، ولن نغادر هذا المكان إلا على طلقات البنادق».
قد يكون التركيز القليل مفيدا في حفر الكثير من المعطيات في الذاكرة، وقد يكون استحضاري لهذه المعطيات نابعا من تعطشنا وقتها إلى هذه المعاني الثورية والأفكار التحررية، التي لم نُرَب في الغالب عليها إلا لماما في دروس عابرة كدروس التاريخ. ما دعاني إلى ذكر هذا هو أني أصبحت أومن بعد أن اشتغلت باللغة واللسانيات بحثا وتدريسا، أن هناك مثلثا لغويا مقدسا شبيها بكثير من المثلثات الدينية المقدسة في التاريخ.
من الناحية اللسانية لا وجود لشيء اسمه القداسة في اللغة، لكنه لا مانع يمنع من أن تكون اللغة واقعة في أسر القداسة ومن الصعب أن تنشأ في التاريخ قداسة معينة خارج نطاق اللغة. ملاحظات أستاذ التاريخ لي في بطاقة الأعداد هي لغة تريد أن تصف وصفا لا ينقضه أي ناقض، تريد أن تكون تقييما لا يناقش وحكما باتا لا يرده راد، فمن ذا الذي يمكن أن يقول له وهو يصدر هذا الحكم إنك أسأت التحكيم؟ سيكون ذلك مسا بـ»قداسة الأستاذ».
ولا شك في أن الأستاذ حين أصدر في شأني هذا الحكم الذي ظل يتابعني إلى اليوم، أصدره بناء على أن هناك قداسة ما للفصل لم أكن أحترمها، أو أن هناك سلوكا ما كنت أبديه أكسر به جو الانضباط الذي كان على التلميذ «المتزن» أن يحترمه. يجري بعضنا إلى اليوم استعارة تنقل فيها تجربتنا مع الأماكن المقدسة مثل المساجد ودور العبادة إلى فصول الدراسة، فبعض المدرسين يقول في أشد لحظات الوعظ، إنه لا فرق بين المسجد والفصل إلا في خلع النعال.
قداسة المكان ولا تعنينا إن كانت مفتعلة أم غير مفتعلة هي التي تجعل اللغة في سياقها مقدسة. يعطي الإطار للأشخاص مهابتهم وتعطي وظائفهم لهذا الإطار رفعة مميزة ويكون الكلام فيها مقدسا لا بالمعنى الماورائي للتقديس، بل بالمعنى العملي له.
سنسمي أحكاما مقدسة عبارة «ينقصه التركيز» بما هي ملاحظة لا يرد عليها وتقييم يسلم به مثلما يسلم بكل ما لا يناقش. حين نبني باللغة أحكاما فإن كثيرا منها يمكن أن يكون قابلا للنقاش، لكن حين تصدر في شأننا سلطة مقدسة حكما فإننا لا نملك أن نغيره وتزيده المواضعة تثبيتا وقداسة.
فعلى سبيل المثال يمكن أن نصدر أحكاما كثيرة معيارية، فيها مقارنة بأمر مثالي أو تصدر فينا أحكام أخرى مشابهة كأن يقال لنا، إن فلانا رفيع أو وضيع فذلك حكم بالنسبة إلى مستوى مثالي من علو الأخلاق يكون المرء الذي صدرت في شأنه قيمة قريبا منه أو بعيد.
إن قداسة لغة الأحكام السلطانية نابعة من كونها لغة أمر واقع صار بفعل التعارف والتكريس، سواء بسلطة السلاح أو القانون مقدسا وتكمن قداسته في أنه يحمي النظام وبه يعيش الناس في سلام أو ما شابه من الخطابات المحايثة لخطاب الأحكام السلطانية.
ميز إيميل دوركهايم عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بين الحكم المعياري والحكم الواقعي، تمييزا مفيدا تشتغل اللغة فيه في شكل مختلف من جهة فرض القداسة. الحكم الواقعي هو من نوع أن نقول عن الأجسام، إنها ثقيلة فنعبر باللغة عن حقائق معينة هي بمثابة أحكام وجود أو أحكام واقع، وهي قابلة للصدق أو الكذب ويدخل في هذا السياق الحديث عن فلان بأنه يحب اللحم مشويا، أو يحب سماع القرآن.
لكن الأحكام المعيارية لا تحدثنا عن قيمة الأشياء مثلما تحدثنا عن الأجسام، بل تحدثنا حسب دوركهايم عما تساويه بالنسبة إلى ذات واعية، فهي تصف سلوكات البشر ومواقفهم التي لا تقبل لا التصديق ولا التكذيب، ويمكن أن تصبح عنصرا مؤسسا لمعرفتنا الموضوعية بالشخص الصادر فيه الحكم، أو بالمجموعة الصادرة فيها الأحكام؛ من هذا المنطلق فإن الحكم الذي أصدره أستاذ التاريخ بنقص التركيز لديّ كان حكما معياريا، لأنه ينبني على تقييم جهة ذات سلطة نافذة لموضوع تقييم هو أنا التلميذ من وجهة نظر إدراكية أو ذهنية.
فبما أنه مدرس يتعامل مع ذهني تعليميا، يخول له أن يَسِمَني بما وسمني به من نقص في التركيز. وتتبنى المؤسسة التعليمية هذا الرأي، ولذلك ترسله في كشف الأعداد مع عائلتي كي تتعامل معي على أني كما قررت هي، لكن من سيعالج فيّ نقص التركيز وقتها؟
في حكايتنا مع أستاذ التاريخ مقدس آخر هو ما أوردناه أعلاه من قول على لسان بعض الثائرين الرافضين لفك الحصار حول الباستيل لتحريره. سنسمي هذا الكلام مقدسا سياسيا أو مبدئيا، وهو ليس من الأحكام المعيارية، بل هو ضرب من بناء اللغة لقداسة جديدة على النقيض من القداسة السائدة التي تبنيها السلطة القائمة بواسطة أقوال نافذة هي أقرب إلى ما يسميه أوستين بالحُكميات والممارسات.
قداسة اللغة في الحكميات أنها تبني باللغة أحكاما قضائية وما شابهها، وقداستها في الممارسات أنها تمارس تنفيذ تلك الحكميات والقرارات فتسمي مسؤوليها وتعزلهم باللغة، وبها تبني نظامها السيادي وتسهر على حماية نافذيته ومفعوله، ولهذا فإننا يمكن أن نسمي هذا المستوى الشرعي من اللغة المقدسة بلغة الأحكام السلطانية (وليغفر لنا الماوردي استعارتنا لعنوان كتابه الشهير في غير ما أراد).
إن قداسة لغة الأحكام السلطانية نابعة من كونها لغة أمر واقع صار بفعل التعارف والتكريس، سواء بسلطة السلاح أو القانون مقدسا وتكمن قداسته في أنه يحمي النظام وبه يعيش الناس في سلام أو ما شابه من الخطابات المحايثة لخطاب الأحكام السلطانية.
غير أنه وحين تصدر من الجماعة الثائرة خطابات تسعى في اتجاه كسر الحكميات والممارسات القديمة، كالذي يفهم في قول الثائر للجندي (اذهب إلى سيدك..) فإننا عندئذ نكون إزاء لغة جديدة ستصبح لها قداستها المقابلة لقداسة لغة الأحكام السلطانية، وسنسميها بقداسة الثورة أو الرفض.
للرفض قداسته في ذهن الرافضين وقداسته مبنية من الإيمان بأن ما كان من حكميات وتشريعات وممارسات سائدة قابلة للمراجعة، وفق منطق جديد ليس منطق المجتمع، بل منطق الجماهير أو الحشود التي عادة ما تكون فلولا بمنظار السلطان أو شرذمة، ثم ما تفتأ أن تصنع بالتجييش حشدها وجماهريتها وعندئذ تصنع لغتها الراديكالية التي تستعمل أساليب الرفض والعصيان.
عبارة (اذهب إلى سيدك) هي عبارة طرازية في هذا السياق المقدس الجديد، ففيها رد على (اذهب من هنا) الشرعية أو السلطانية لا بالرفض (لن نذهب) بل بافتكاك صيغة الأمر من صاحب السلطان القديم وتسليطها عليه وعلى أعوانه (اذهب أنت فنحن ههنا ماكثون) وفي ذلك ضرب من امتلاك الأرض والأمر.
وفي العبارة أيضا قلب النسبة من (سيدي) الخانعة المنسجمة مع الخطاب السلطاني إلى (سيدك) التي فيها نقص من الاعتراف بالسيادة القديمة.. المثلث المقدس للغة هو مثلت بشري لا علاقة للرباني فيه؛ تتصارع فيه الجماعات باستعمال السلطة والسلطة النقيضة لكن وهذا هو المهم أن كلا منها يريد أن يصبح استعماله للغة هو المهيمن والمتسلط وبذلك ينتزع لنفسه قداسة يبحث عنها الإنسان في السماء بالتدين ويبحث عنها في الأرض باللغة.
توفيق قريرة: أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية.