نقد

الجدل الفلسفي حول المتخيل الأدبي

يذهب بنا المتخيل الأدبي إلى جعل الصورة والرمز معقل الإبداع الأدبي. وبهذا فالكلمة، عندما يتهافت عليها النقاد والباحثون، ترسو على ضفاف الفلسفة قبل أن تنتقل إلى الأدب، ويجري التأصيل حينئذ لاحتوائها، وتبني كل ما يدور في فلكها. إننا، بهذا الصدد، إزاء عملية إبدال جديدة تفتح نوافذ المعرفة، وتسقي أزهار الفكر، وتغذي المخيال الإنساني محافظة بذلك على إنسانية الإنسان وجوهره.


إن البحث في أهم التطورات السياقية والمعرفية لكلمة «المتخيل» في الأدب، يطرح إشكالات متعددة، وفي مقدمتها المجالات المعرفية التي تستعملها. ففي الأدب الفرنسي، بالخصوص، يرى الناقد الأدبي كلود بيار بيريز أن كلمة «متخيل» تنتمي إلى اللغات المشتركة، لغة العلوم الإنسانية. وبهذا فالاهتمام بالمتخيل الأدبي، في الثقافة الفرنسية، لم يتأت إلا بعد مجيء الوجودي جون بول سارتر إلى ساحة الأدب، فضلا عن أن قاموس «لوليتري» لم يدرج هذه الكلمة في قاعدة بياناته، وإنما تناول الصفة، التي تشتق من كلمة «التخييل».


وفي المقام ذاته، لم يتم العثور، قبل منتصف القرن الماضي، على مفردة «المتخيل» في الرسائل، التي سجلت في الجامعات الفرنسية، إلا بعد أطروحة جيلبير ديران، التي عنونها بـ»البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل» علاوة على رسالة الفيلسوف فرنسو دغونيي، التي تحمل العنوان التالي: «السبب والعلاج، دراسة المتخيل والواقع في المعالجة المعاصرة» وبهذه المناسبة، كان الإهداء إلى ذاكرة غاستون باشلار.


وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي، تجرأت الناقدة الأدبية بيتريس ديديي على اقتحام، في الأدب الفرنسي مجهول الرومانسية الأولى، بدراسة المتخيل عند إتيان سونانكور، وهو بحث في مفاهيم عامة للخيال والحلم الرومانسيين.

وكما كان متوقعا، وأمام هذا السيل العارم من الرسائل حول المتخيل، كان لستيفان ملارمي نصيبٌ أوفرُ من هذه الإبدالات الثقافية المتسارعة في الجامعات الأوروبية. ومن هذه الناحية، فالكل شرع في الحديث عن المتخيل، لأنه ملأ الدنيا وشغل الناس.


فعند جاك لاكان، يختلف في جوهره ومعناه ووظيفته عند جون بول سارتر، علاوة على أن مفهوم المتخيل، عند هذا الأخير، بدوره يتمايز عما جاء به كل من مالرو وكايوا و كاستوريادس. فالمتخيل كمفهوم اعتبره رائد السيريالية تريستن تازار، كل الصور التي تميل نحو الواقع، إلا أنها لا تتحقق، فتبقى عالقة في الذهن. وبهذا فمقاربة هذا المتخيل لا تتم إلا عبر الثنائيات المتراوحة بين الشيء وضده على سبيل، المتخيل الواقع، الليل النهار، الخير والشر.


إن سارتر كان السباق، في أوج الحرب الكونية الثانية، وبالضبط في فبراير/شباط سنة 1940، إلى وضع المتخيل على السكة الأدبية والفلسفية، عندما عنون به أطروحته الجامعية، ومن ثم نـُقل المصطلحُ إلى النقد الجديد من طرف كل من باشلار وبلانشو ومارلو بونتيي.

فما بين السبعينيات والثمانينيات بدأ المتخيل يزحف على المكان الثقافي والأدبي الذي احتله، في خريطة النقد الكلاسيكي الفرنسي، الخيال سابقا. إذ إن المتخيل وجد ضالته في الكتب الديداكتيكية والمعاجم المتخصصة، بفعل الوظيفة النقدية، التي يقوم بها داخل المشهد الثقافي العام في فرنسا.


في هذا الصدد يـُطرح سؤال كبير، لماذا تم اختيار «عالم المتخيل « كعنوان رئيس عند جون بول سارتر؟ فحسب ميشال كونتا وميشال ريبالكا، فالمتخيل لا يمكن مقاربته على أساس أنه عالم متفرد، يحدثه تفاعل الإنسان مع محيطه. وبهذا يرى معظم النقاد أن سارتر قد استنفد، في دبلومه الخاص بالدراسات المعمقة، ما فيه الكفاية من توظيف المتخيل برفقة هينري دولاكروا.


بعد سارتر، بدأ مفهوم المتخيل يحلق بعيدا عن كل ما هو فلسفي، ليجد ضالته في مجال العلوم الإنسانية. فضلا عن ذلك، فمع باشلار وبلانشو ولاكان، وإن كانوا كلهم فلاسفة مثل سارتر، إلا أنهم يختلفون على مستوى توظيف المتخيل في الفكر الإنساني، باعتبار أن فينومينولوجية الظواهر المجتمعية وغير المجتمعية، عنصر محفز، لانطلاقة حية وفعلية نحو العلوم الإنسانية.

فكلمة «متخيل» عند باشلار، لم يتم الإشارة إليها قطعا، سنة 1938، في كتابه « التحليل النفسي للنار». فكما كان منتظرا، فإلى حدود سنة 1940، ومن خلال كتابه «فلسفة الأسماء» قد تمت الإشارة إلى مفردة «متخيل» مرة واحدة، علاوة على أنها جاءت لتفيد معنى الجمال الأدبي.

بما هو المجال الأرحب، الذي يـُستقدم فيه التخييلُ بهدف التعبير عما يمور بالذهن. وفي السنوات ذاتها، سيشتد الجدل، ذو الطبيعة الفلسفية، بين سارتر وباشلار حول جذور المتخيل، حيث أقرت الجمعية الوطنية، التي تهتم بالشأن الفلسفي، أن ليس للمتخيل أصول، بل يتغذى فقط من داخل الصور الذهنية، فهذا الجدل الفلسفي امتد إلى مجموعة من كتب غاستون الفلسفية، وفي مقدمتها «لهب الشمعة» فضلا عن «الهواء والأحلام». ففي هذا الأخير حاول باشلار أن يوحد الفلاسفة حول تعريف واحد ووحيد للمتخيل، حيث بادر انطلاقا من الصفحات الأولى من الكتاب، إلى تعريف المتخيل.


ففي نهاية الأربعينيات، سيكون بلانشو مضطرا إلى اقتحام مجهول المتخيل، بوضع معان جديدة تعمل في شرح وتفسير الظواهر القريبة من الخيال. ومن بين المعاني التي رآها بلانشو تفي بالغرض المعرفي والثقافي نجد، غريبا، غير مرئي، أسطورة… وفي هذا المنعطف صارت المكتبة الجمالية واحة ساهمت، بشكل كبير، في انقشاع الرؤية تماما أمام الدارسين الجدد للمتخيل.

فالاختلاف في جوهره كامن في توظيفات خيالية ما هو مرتبط بالتصوير التعبيري المتخفي وراء المجازات اللغوية، التي تنقل القارئ من الواقع إلى المتخيل، ويتم فيه ربط السبب بالمسبب. ولهذا الغرض جاء تعريف بلانشو للمتخيل على أنه نفي مطلق وقطعي للواقع، وبذلك استقر بلانشو على نقيض جون بول سارتر.


القدس العربي

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى