الدراسات الثقافيةنقد

في الحاجة إلى الكتاب

لا تثار مشكلة الكتاب عندنا إلا مع إقامة المعارض الدولية للكتاب، حيث تتزايد أعداد الندوات، وتكثر الأسئلة حول القارئ والقراءة، وبعد انتهاء الأسئلة والأجوبة، يعود الكتاب إلى وضعه السابق في انتظار العام المقبل. قلما تطرح بعد المعارض الخاصة بالكتاب أسئلة تقييمة وتقويمية بهدف التطوير والتجاوز، ولهذا السبب نجد نسخ المعارض تتشابه، وقد يكون اللاحق منها أسوأ من السابق. 


في الدول المتقدمة نجد الاحتفاء بالكتاب على طول السنة. فالمكتبات والإعلام، يلعبان دورا كبيرا في تقديم الكتاب وترويجه والتعريف به، عبر تنظيم لقاءات وندوات وطاولات مستديرة يحضرها الكتاب والنقاد والقراء، وكل يدلي بدلوه من خلال قراءات متعددة، فيكون لذلك تأثيره على القراء ويعمل على تطوير التلقي وعلى تحصيل الفائدة.


ويبدو لنا ذلك بجلاء في الدخول الثقافي الذي يستمر مدة طويلة، يقدم فيه ما أنتجته المطابع من أعمال في مختلف الاختصاصات. ومن يزر المكتبات العامة والخاصة في البلدان المتقدمة، لا يمكنه إلا أن يفاجأ بالإقبال على اقتناء الكتاب، أو الاطلاع عليه في عين المكان.


كنت في زيارتي لأي دولة أجنبية، أقضي وقتا في زيارة مكتباتها الخاصة. فإلى جانب الاطلاع على جديد الإصدارات، كنت أسعى من خلالها إلى التعرف على الصورة الحقيقية للمجتمع، من خلال ما يقدم إليه من كتب. فالمجتمعات لا يمكن معرفة ما وصلت إليه من خلال معاينة طريقة عيشها، وتبضعها، والسيارات التي تمتلكها والفيلات التي تقطنها.


قد تكون بعض هذه المظاهر مضللة وزائفة. لكن المكتبات، والمتاحف والمسارح، والحدائق ودور السينما، ومعارض الفنون التشكيلية والموسيقى، ودور الثقافة هي التي يمكن من خلالها معرفة اهتمامات الناس ومستواهم الثقافي والفني. ومتى كانت هذه المظاهر سائدة كان ذلك دالا على تقدم المجتمعات، وتكون المظاهر السابقة متوائمة مع هذا المستوى. والعكس صحيح لأنه يدل على أن هذه المظاهر لا تعني الرفاه والتقدم، ولكن الفقر الثقافي والتخلف العقلي.


انتهى المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء، وقدمت بيانات يراها المسؤولون عن قطاع الثقافة إيجابية، عن طريق إبراز كون هذه الدورة تميزت بإقبال يصل إلى حد خمسين في المئة مقارنة بالدورة السابقة. كما أن نسبة ما صدر من الكتب خلال السنوات الثلاث الأخيرة وصل إلى أكثر من النصف في المئة من مجموع الإصدارات المعروضة، التي غطت عناوينها مختلف الحقول المعرفية،


بنسب يحتل فيها الأدب الصدارة بنسبة 21 في المئة وبعده كتاب الطفل بنسبة 16 في المئة، وبعدها العلوم الاجتماعية بنسبة 15 في المئة. بينما لا تتجاوز كتب التاريخ والجغرافيا والكتب الدينية نسبة 9 في المئة. وتقف الكتب العلمية عند حد 8 في المئة، أما كتب الفلسفة واللغات والاقتصاد والقانون فستة في المئة.


أن يحتل الكتاب الأدبي متبوعا بكتب الأطفال، وهي أيضا تندرج في الأدب، بشكل أو بآخر، يبين أن نسبة المعروضات المتصلة بالأدب تصل إلى 37 في المئة. وفي هذا دليل على أن الكتاب الأدبي يهم كل الأفراد والفئات. ومتى كان الأدب متطورا، إنتاجا وتلقيا ودراسة كان هذا دليلا على تقدم المجتمع وعلى اهتمامه بما يقدمه الأدب من ضرورات للفرد والمجتمع.


ولعل بعض المسؤولين الذين ينظرون إلى الأدب نظرة تحقيرية أن يدركوا أن تطور الأمم لا يكون إلا بتقدم قيمها الفنية والجمالية والأخلاقية التي يقدمها الإنتاج الأدبي. وهذا ما يجسده الإبداع الفني والثقافي العام.


على هامش المعرض الدولي قامت «شبكة القراءة في المغرب» بإعداد دراسة ميدانية شملت ألفي قارئ مغربي خلال سنة 2016. وأبانت الدراسة أن اللغة العربية أكثر اللغات مقروئية بنسبة 53 في المئة، متبوعة بالفرنسية بنسبة 37 في المئة. وأشارت الدراسة نفسها إلى أن قراءة الكتب العالمية تحتل المكانة الأولى بالنسبة إلى القارئ المغربي، وتصل إلى 65 في المئة، بينما يحتل الكتاب العربي نسبة 27 في المئة. ولا يتجاوز الكتاب المغربي 7 في المئة.


مهما يكن موقفنا من الاستبيانات، ومن قدرتها على تجسيد الواقع الفعلي، فإنها يمكن أن تقدم لنا مؤشرات دالة تتطابق مع ما يجري في الحقيقة. وأهم ما يمكن استنتاجه من خلال الدراسة أن اللغة العربية هي اللغة الثقافية التي يتعامل بها المغاربة، وليس في هذا أي تقليل للغات الأخرى.


وأن وهم الفرنسية ما يزال يسكن بعض المسؤولين بدون أي مبرر. ويستدعي هذا تطوير العربية، وإحلالها المكانة اللائقة بها في الحياة العامة. كما أن تشجيع الكتاب المغربي وحده الكفيل بإيجاد الجسور بين الكاتب والقارئ. وواضح من تردي التواصل مع الكتاب المغربي غياب الإعلام نهائيا. إن تشجيع تداول الكتاب من الأولويات الضرورية لبناء المجتمعات. فالإنسان يعيش بالخبز، وبالكتاب أيضا. 


ضرورة تجديد التفكير في الأدب/ لسان حال المجتمع. الصحف التي نقرؤها اليوم، سنجدها غدا في النص المكتوب. ولِمَ لا في المسرح والسينما والإبداع التفاعلي. المقاهي الأدبية/ إنتاج الأدباء/ تكوين المدارس الأدبية.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى