نقد

في رثاء الطيب صالح عبقري الرواية العربية

يعتبر الطيب صالح الذي توفي عن عمر يناهز الثمانين عامًا، الأديب الأبرز في السودان. كما يُعد كاتبًا معروفًا ومرموقًا في الصحف والمجلات ومختلف الأروقة الأدبية في البلدان العربية. ويلقي قبولًا واسعًا من النقاد والقراء. وبلغت روايته الذائعة الصيت “موسم الهجرة إلى الشمال”، من الشهرة والرواج لدرجة أنها قد حجبت الضوء عن رواياته وأعماله الأدبية اللاحقة. وهي رواية صغيرة الحجم إلا إنها تضج بعالمٍ ساحر ومثير. وقد وجدت قبولًا ورواجًا فور صدورها في ستينيات القرن الماضي. ومن ثم ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وصارت منذ ذلك الحين موضوعًا للدراسة والجدل النقدي والأكاديمي الذي لم ينضب معينه حتى اليوم.

وتحكي رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، قصة رجل عاد إلى قريته، بعد أن قضى سنوات في بريطانيا للدارسة، ليكتشف أن رجلًا آخر، اسمه مصطفى سعيد، قد حل مكانه في أفئدة وقلوب أهل القرية. وكُتبت الرواية بأسلوب مشوق وجذاب، فبدت وكأنها سلسلة من المشاهد المسرحية، الطويلة المتداخلة، يتحدث فيها الراوي عن البون الشاسع بين المجتمع القروي في شمال السودان وحياة لندن الصاخبة، والتي كانت تعج بالمهاجرين في العشرينيات من القرن الماضي. وتعد “موسم الهجرة إلى الشمال”، واحدة من أجمل الروايات التي تناولت موضوع الاستعمار والجنس في إطار الصراع بين الشرق والغرب. فقد نصب مصطفي سعيد، بطل الرواية، نفسه غازيًا في ديار الانجليز، ردًا على غزوهم الاستعماري لبلاده. وانتقامًا منهم، فقد كرس حياته في لندن لإغواء الفتيات البريطانيات التواقات لذلك الشرق البعيد والمثير، وحول شقته الي خيمة شرقيه تلبي رغباتهم وخيالاتهم.

وخلافًا لكل معاصريه، رفض الطيب صالح الجنوح نحو التبسيط وإدانة الاستعمار وتحميله وزر الإخفاقات في البلدان المستعمرة. فقد ذكر، ذات مرة، أن الصراع بين الشرق والغرب، يظل غامضًا بطريقه مريبة وغير مريحه. ويبدو أن تلك القدرة الإبداعية على تجاوز كل التصورات المسبقة عن الاستعمار والشرق هي التي ساهمت في خلود رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”. فقد استطاع الطيب صالح في تلك الرواية تسليط الضوء على القدر والمصير المشترك الذي لا فكاك منه بين الشرق والغرب. وبالإضافة إلى ذلك، فقد وجهت الرواية نقدًا لضيق الأفق في التفكير، واستغلال المرأة ومعاناتها التي تعيشها في المجتمعات الريفية والتقليدية. وكل ذلك، أهل الرواية لتنال استحسانًا منقطع النظير لدرجة أن وصفها الناقد الأمريكي، الفلسطيني الأصل، ادوارد سعيد، بأنها من أفضل ست روايات في الأدب العربي المعاصر. واعتبرتها أكاديمية الأدب العربي في سوريا، الرواية الأفضل في القرن العشرين في عام 2001م.

وتجلت عبقرية الطيب الصالح، في تصوير ما يدور في ثنايا النفس الإنسانية بتناقضاتها وتعقيداتها. ففي   قصة “حفنة تمر” التي تعد واحدة من أفضل ما كتبه الطيب صالح، يدرك بطل الرواية الصغير والصبي اليافع أن عالمه المثالي ملئ بالتوتر والحذر، الأمر الذي لم يكن يدرك كنهه من قبل. فللمرة الأولى يدرك الصبي أن الحياة مليئة بالمفاجآت والخيارات، وأن عليه أن يواجه حقيقة أن جده الطيب ليس بذلك النقاء الذي كان يظنه. وهذا التصوير الدقيق والحبكة الفائقة التي تبين اختلاط المشاعر، وتبرز الصراع بين التورط في جريمة والشعور بالامتعاض من الواقع قد يؤدي إلى بروز ضمير الانسان. وهذه الثيمة هي التي نقلت الطيب صالح إلى مصاف الكتاب العالميين، وجعلته واحدًا من أولئك الذين سيتردد صدي اسمهم لزمن طويل وسط الأجيال القادمة.

ومن المعالم البارزة في مسيرة الأديب الراحل الطيب صالح، مقاله بعنوان “من أين أتي هؤلاء”، والذي نشره في عام 1990م، ووجه فيه انتقادًا لاذعًا للنظام الإسلاموي الحاكم في السودان. فقد استهجن فيه عملية التجريف الممنهجة للثقافة السودانية والقيم المحلية الموروثة، وإضعافها وإحلالها بأخرى، بدعوي إسلاميتها أو توافقها مع يصبو إليه ذلك النظام الإسلاموي المتشدد. وفي المقابل، حظر ذاك النظام الإسلاموي روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” لفترة من الزمن، بدعوي أنها رواية فاضحة، وتحتوي على عبارات ولغة خادشه للحياء والذوق العام. وبالتأكيد لم يلحق ذلك الحظر ضررًا كبيرًا بالرواية التي كانت قد أخذت مكانها بالفعل من قبل ذلك، كرواية لها سمعتها وقيمتها في عالم الأدب.

وفيما يتعلق بشخصية الطيب صالح الإنسان، فقد عُرف بالهدوء ودماثة الخلق. وكان يكن احترامًا كبيرًا للتقاليد، ومع ذلك لا يخضع لها كثيرًا. وكثيرًا ما كان يجد متعته في الحوار وتبادل الأفكار، ويمد يد العون للشباب المتلمسين طريقهم في دروب الكتابة والأدب. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان نشطًا جدًا في الفعاليات الأديبة التي ظلت تقام في البلدان العربية. فقد ترأس العديد من الجوائز والفعاليات، وتحدث ناقلًا تجربته في العديد من اللقاءات والمؤتمرات. وفي هذا الصدد، فقد جُمعت مقالاته ولقاءاته عن الأدب والنقد ورحلاته وتعليقاته السياسية وغيرها لاحقًا، ونشرت مبوبة ومرتبة في سلسلة من الكتب التي وجدت رواجًا كبيرًا، وعكست التنوع الكبير في مساهمته في الكتابة، خلافًا لما هو موجود في أعماله المترجمة، والتي ركزت فقط على مساهمته الروائية والقصصية.

وبالنسبة لمسيرة الطيب صالح المهنية، نجد أنه عاش معظم حياته خارج السودان. فقد التحق بهيئة الإذاعة البريطانية -القسم العربي، عند مغادرته السودان، وبقي فيها إلى أن أصبح مديرًا لإدارة الدراما.  ثم عمل بعد ذلك في وزارة الإعلام في دولة قطر، قبل أن ينضم إلى منظمة التربية والثقافة والعلوم (يونيسكو)، التابعة للأمم المتحدة في باريس. ورغم كل ذلك التنقل، ظلت بريطانيا هي قطب الرحي في رحلاته وتنقلاته العديدة من أجل العمل، والمكان الذي يعود إليه دائمًا عقب كل سفر وترحال.

وفيما يتعلق بحياته الأسرية والخاصة، نجدها لم تبعد كثيرًا عن أعماله الأدبية، وعكست ذلك الصخب والضجيج الذي يشوب الصراع بين الشرق والغرب. فقد تزوج من سيدة أسكتلندية، هي جوليا ماكلين في عام 1965م، واستقر في جنوب غرب لندن.

الجدير بالذكر، أن الطيب صالح، ولد في قرية كرمكول، بالقرب من مدينة الدبة، في شمال السودان. ثم انتقل في شبابه إلى الخرطوم للدراسة في كلية غردون التذكارية (سميت لاحقًا جامعة الخرطوم). وانتقل بعدها إلى لندن في عام 1952م، ضمن الوفود الأولى من السودانيين المبتعثين للدراسة في بريطانيا، استعدادًا لاستقلال البلاد من الاستعمار البريطاني، والذي حدث لاحقًا في عام 1956م. وقد ترك انتقال الطيب صالح إلى الغرب أثره في حياته وأدبه. فقد ظلت قريته وعوالمها الواقعة في شمال السودان محور معظم أعماله الأدبية. فقد نجح الطيب صالح، من خلال المزج بين الخيال والواقع في نقل محيط وبيئة تلك القرية البسيطة إلى مصاف العالمية.

وفي الأخير نختم، بأن الأديب الطيب صالح، الذي كان قد ولد في 12 يوليو 1928م، وتوفي في 18مايو 2009م، عاش سنواته الأخيرة مع زوجته وبناته الثلاث: زينب وسارة وسميرة. 


  • المصدر:

صحيفة الغارديان البريطانية – 20 فبراير 2009

https://www.theguardian.com/books/2009/feb/20/obituary-tayeb-salih

* جمال محجوب: روائي ,وكاتب  سوداني بريطاني، يكتب بالإنجليزية.

** محمد معتصم محمد علي: أستاذ جامعي ومترجم – جامعة جدة – المملكة العربية السعودية


خاص لمجلة فكر الثقافية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى