مع رحيل محمد أديب السلاوي.. ذاكرة الصحافة الثقافية بالمغرب
جاء رحيل الناقد والإعلامي المغربي محمد أديب السلاوي (1939-2020) فاجعًا، بالنسبة لمن تعوّد منذ سبعينيات القرن المنصرم على قراءة مقالاته الدائمة والمُتجدّدة داخل الصحافة الثقافية المغربيّة، حتى أضحى الرجل عمودًا من الأعمدة التي ينبني ويُشيّد عليها الفعل الثقافي داخل المغرب.
وبرحيله تكون الساحة الثقافية والفنية قد فقدت علامة بارزة في تاريخها الجريح، خاصّة وأنّه ظلّ يتميّز عن أقرانه من الصحافيين بثقافة موسوعية، وتتبدى للقارئ جيدًا في متون مقالاته معالمها الجغرافية والسياحية في ثقافة الفكر الإنساني العالمي، التي لا تكاد تستقر عند ضيق العبارة، بقدر ما تتشعب أكثر فأكثر داخل نسيج النصّ. وأسلوبه هذا في الكتابة، يبدو في بعض المقالات فضفاضًا، ليس لأنه كلام عام، وإنما لأنه يعمل على تأسيس مداخله بخطاب تاريخي موسوعي، واضعًا الفكرة في سياقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مفكّكًا إياها إلى أفكار جزئية وبسيطة قريبة من تفكير الناس ويومياتهم ومشاغلهم. وهذا الأمر ساعد محمد أديب السلاوي على التسلّل إلى قلوب القارئ المغربي بأسلوبه البسيط والمُكثف، الذي لا يُماري فيه أحد، وإنما يُصوّب قلمه مثل مسدس في نقد كل الأزعومات والأغاليط التي تجتاح الصحافة المغربيّة في السنوات القليلة الماضية وتجعلها صحافة “صفراء” بحكم التقنية واللامهنية الطاغية على يومياتها، وبالتالي، فإنّ رحيل أديب السلاوي يُشكّل خسارة كبيرة للصحافة الثقافية المغربيّة في كونه أحد علاماتها البارزة والمُشرفة منذ خمسينيات القرن الماضي، ظلّ الرجل حاضرًا ومُساجلًا داخل عدد من صفحات الرأيّ والملاحق الثقافية والفنية والمجلات العربيّة الكثيرة، التي عَمِلَ مُحرّرًا فيها، في وقت كانت الصحافة الثقافية المغربيّة تحمل همًّا مجتمعيًا وتُمثّل نبضًا قويًا لما يعتمل داخل الساحة الثقافية، خاصّة وأنّ كل الإبدالات المفاهيمية والنظرية حسب التقليد الغربي، تُختبر داخل الصحافة وبين ثنايا صفحاتها، قبل أنْ يتلقفها الجامعيون، فهي من تُوّجه السياسة الثقافية وتُعرف بأعلامها ورموزها وقاماتها. نفس الشيء ميّز كتابات السلاوي في موضوعات مُتنوعة بين الأدب والسياسة والفنّ والاجتماع، فثقافته الموسوعية هي ما تُتيح له إمكانية التفكير في المجتمع المغربي وأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، توجها بما يقارب 50 كتابًا في أصناف مُتعدّدة من الكتابة مثل : “المسرح المغربي من أين وإلى أين؟”، “الاحتفالية في المسرح المغربي”، “أعلام التشكيل العربي بالمغرب”، “التشكيل المغربي بين التراث والمعاصرة”، “الشعر المغربي.. مقاربة تاريخية”، “هل دقت ساعة الإصلاح؟”، “السلطة وتحديات التغيير”، “المشهد الحزبي بالمغرب.. قوة الانشطار”.
أعتقد أنّ أهم خاصية ميّزت بقوّة الإعلامي محمد أديب السلاوي، مقارنة مع العشرات من الإعلاميين داخل المغرب، هو عنايته منذ وقت مُبكر بالفنون التشكيلية المغربيّة والعربيّة، ففيما كانت الصحافة الثقافية بالمغرب مُتقوقعة بسلفية قاتلة حول الخطاب المكتوب، كان السلاوي يكتب بعنفوان وفرح عن ذاكرة الفنون التشكيلية وكأنّ الرجل يعيش في مرحلة لاحقة على مجايليه، حتى غدت كتاباته في هذا الشأن مرجعًا لعدد من الباحثين في الفن التشكيلي المغربي، بحكم سبقه التاريخي وقدرته على العيش في زمن، ظلّ فيه الفنّ التشكيلي يُشكّل علامة خفية على نمو مجتمع ما، بل وشكلًا من أشكال الحداثة داخل ثقافة البلدان العربيّة، هذا إضافة إلى صداقاته الكثيرة مع الفنانين التشكيليين المغاربة الكبار، ممن ظلّ يُقْدم على زيارتهم داخل محترفاتهم الفنية، وهذا الأمر مكّنه من الحصول على معلومات تخص سير الفنانين وعلاقاتهم بالمادة واللون والثقافة والسياسة منذ السبعينيات إلى حدود الآن، ومع ذلك فهو لا يدّعي أنه ناقد تشكيلي، بل يحب أنْ يُعرّف نفسه دومًا كصحافي عاشق للفنون التشكيلية، هذا العشق الذي سيجعله يحصد عددًا من الجوائز العربيّة في مجال النقد التشكيلي العربي، لكنه مع ذلك رَحَلَ فقيرًا مُعدمًا، بعد أنْ باع خزانته الفنية ومنزله بمدينة سلا وانتقل إلى مدينة طنجة ليعيش ببيت صغير هناك.
ثمة الكثير في سيرة محمد أديب السلاوي مما يستحق الانتباه والتفكير، بل ويعتبر درسًا حقيقيًا لسماسرة السراب داخل الساحة الثقافية المغربيّة، ممن جعلوا أنفسهم في خدمة أحزاب ومؤسسات ثقافية هجينة وأصبحوا يتلقون ريعًا حقيقيًا من هذه المؤسسات لتسويغ أفكارها وزلاتها وأعطابها.
مجهود معرفي
في الكتاب الذي خصّصه محمد أديب السلاوي للتشكيل المغربي والموسوم بـ”التشكيل المغربي: البحث عن الذات” قام الرجل بمجهود معرفي في التأريخ لمسار الفنّ التشكيلي المغربي، مُستعرضًا فيه أهم التجارب المغربيّة، التي فتحت آفاقًا مُغايرة للتجربة التشكيلية المغربيّة منذ التجارب الفطرية الأولى، عاملًا على وضع مداخل فنية وجمالية لهذه التجارب والتيارات والمدارس الفنية، التي تنتمي إليها وتدور في فلكها، وأيضًا إلى أهم الإبدالات الجمالية التي وسمت كل تجربة عن الأخرى، بأسلوب يميّز شكل كتابته بخاصية ملازمة، تكاد لا تُفارقه في أغلب مقالاته ودراساته وكتبه، وهي البُعد التاريخي الصرف، الذي يسم منطلقاته النقدية والجمالية، فهو لا يهمه الفكر ولا البحث عن مفاهيم الجمالية المعاصرة في التجربة التي يتناولها بالدرس، بقدرما يُعنى بالجانب التوثيقي من حياة الفنّان والوقوف عند اللحظات الحياتية المركزية المُؤثرة في تجربته التشكيلية، وهذا الأمر ساعد كتابته على التحرّر مُبكرًا من سطوة المفاهيم الفكرية وإنْ كان هذا الأمر مهمًا في خلق وشائج قوية بين التجربة والفكر وجعل اللوحة تأخذ أبعادًا تأويلية، تخرجها من سراديب الفهم الضيّق وأحادية المعنى، لكنه وهو يُرمّم خصوصية تجربة تشكيلية ما، عادة ما يضعها داخل سياقها التاريخي والفكري والمدرسة الفنية التي تنتمي إليها، وهذا النمط الخاصّ الذي ينحو إلى كتابة أقرب إلى تاريخ الفنّ مفقود وغائبٌ ومُغيّب داخل البلاد العربيّة، لأنّ ذلك يتطلب أكثر من عملية تفكير وبحث في أرشيفات الفنانين ومؤسساتهم المعدومة، بغية خلق خطاب تاريخي قوي حول خصوصية التجربة التشكيلية في محاولة جعل هذا الأمر فولكلورًا ثقافيًا يقوم على كتابة مونوغرافيات حول جملة من التشكيليين العرب، ممن قدموا مساهمات غنية على مستوى الشكل والمادة والموضوع داخل التشكيل العربي المعاصر، وهو ليس هيّنًا بحكم غياب ثقافة الصورة داخل أجندات المؤسسات الثقافية داخل المغرب، ما قد يجعل كل كتابة في النقد التشكيلي وكأنها محض خرافة وهباء، لكن السلاوي لم يجعل من هذا الواقع يؤثر على مسيرته، فهو ظلّ حريصًا على كتابة عشرات من الكتب حول التشكيل المغربي والعربي، حتى غدت اليوم بيبليوغرافية مهمة لأيّ باحث أو ناقد، يستكشف عوالم الفنّ التشكيلي المغربي، وبالرغم من أنّ كتاباته لا تعدو أنْ تكون بمثابة مدخل إلى فهم بعض التجارب والتيارات والمدارس الفنية وتأثيرها ووقعها على الممارسة التشكيلية في المغرب، إلاّ أنها قوية في خِطابها وموضوعاتها ومداخلها الإبستمولوجية، التي تجعل من النفس التاريخي الهاجس الأساس في فعل الكتابة لديه.
خاصية أخرى تكتنف تجربة محمد أديب السلاوي في علاقته بالكتابة، هي أنه لا مجال للتفريق بين سُلطة الصحافي وذكاء النقاد في تجربته، فالرجل يُمارس الوظيفتين معًا بكل حرية وشغف من خمسينيات القرن المنصرم، وهذا التماهي يكاد المرء يتلمسه بعمق في كتابته التي لا تنتفي داخلها حواجز وسياجات الصحافي والناقد، بسبب المرحلة التاريخية التي بدأ فيها السلاوي الكتابة والتفكير في الفنون التشكيلية، والتي طغت فيها الكتابة الصحافية والنقد الأدبي على حساب النقد الفني، الذي لم تتبلور معالمه داخل المغرب إلاّ في السنوات القليلة الماضية، بحكم التداخل والتمازج بين الأدبي والفني داخل الخطاب التشكيلي آنذاك، مع العلم أنّ هناك أسماءً مغربيّة مارست النقد التشكيلي بكل أصوله، وبالتالي، فإنّ محمد أديب السلاوي لم يكُن يعاني من هذا المُشكل، خاصّة وأنه يعلم جيدًا أنه من أوائل من عرفوا بالتجربة التشكيلية العربيّة مشرقًا ومغربًا.
أشرف الحساني – ناقد مغربي