في الحاجة إلى “عصر تدوين” جديد
كتبتُ في مقالة سابقة بعنوان: “في نقد سلطة النموذج/ السلف” ما يلي: “أراد الجابري إعادة بناء شاملة للفكر العربي، منهجا و مضمونا، بهدف تدشين “عصر تدوين” جديد يقطع مع الطريقة التي عولجت بها قضايا النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر”[1].
سأحاول في هذه المقالة[2] الوقوف عند فكرة “عصر تدوين” جديد و أطرح السؤال التالي: ماذا يقصد الجابري بهذه الفكرة ؟ و ما الذي يجعلها ذات أهمية بالغة، إن لم نقل استراتيجية، في رؤيته الفكرية؟
يقول الجابري في هذا الصدد: ” إن التطورات و التحولات التي شهدها العالم في السنين الأخيرة، بما فيه الوطن العربي نفسه، توازن من حيث الأهمية التاريخية بالنسبة لمستقبلنا تلك التطورات و التحولات التي شهدها “عصر التدوين” التراثي بالنسبة لماضينا، و “عصر التدوين” النهضوي بالنسبة لحاضرنا”[3].
نلاحظ هنا أن الجابري أشار إلى عصرين أو مرحلتين من التدوين في تاريخ الثقافة العربية، و كل واحدة منهما مرتبطة بمعطيات العصر الذي أنتجها. العصر الأول، أي “عصر التدوين” التراثي، يتطابق تاريخيا مع العصر العباسي الأول، الذي شهد عملية تدوين ثقافية و تأسيسية كبرى أصبحت، مع مرور الزمن، مؤطرة للذهنية العربية إلى أن فرضت عليها سلطة فكرية مؤسسة لبنيتها.
وهي السلطة التي حلل الجابري نشأتها و عناصرها و مفاهيمها في كتاب “بنية العقل العربي”. دُشنت إذن هذه العملية التدوينية الأولى من خلال وضع “أصول” للتفكير الفقهي و الكلامي، ثم “أصول أخرى” امتدت إلى مجالات السياسة و المجتمع و التشريع والاقتصاد و الثقافة..إلخ. بعد ذلك استمر الاجتهاد لكن داخل نفس الإطار الذي يفرضه نمط الحياة الاجتماعية التي صنعت تلك الأصول.
أما العصر التدويني الثاني فقد انطلق مع عصر النهضة العربية الذي شهد، هو الآخر، عملية ثقافية تدوينية جديدة تقوم على أساس التأويل و الاقتباس من الثقافة الغربية الحديثة و المعاصرة، بهدف توظيفها من أجل الانبعاث و النهوض.
هذا الأمر ساهم في مراكمة “أصول” حديثة مختلفة تسعى إلى تعويض الأصول التراثية في محاولة لتشكيل بديل عنها، الشئ الذي جعلها تبدو و كأنها تحدث قطائع فكرية مع مرجعية عصر التدوين التراثي، و تفكك بالتالي سلطاتها الفكرية (= سلطة اللفظ، سلطة السلف، سلطة التجويز).
هكذا إذن تطورت الأمور إلى أن صار الفكر العربي المعاصر يعيش صراعا بين مرجعيتين، إحداهما تنتمي إلى الماضي و الأخرى تنظر إلى المستقبل. يقول الجابري في هذا الصدد: “يُشكل الصراع بين المرجعيتين المذكورتين عنصرا من عناصر الأزمة الشاملة، التي يعاني منها الوطن العربي اليوم، عنصرا يشوش الرؤية و يشل الحركة و يتطلب تدشين عصر تدوين جديد”[4].
هذا العصر إذن هو الذي يدعونا الجابري إلى تدشينه من خلال عمل إبداعي، جماعي تراكمي يتجاوز مرحلة الاستهلاك إلى الانتاج، لأننا مازلنا، في نظره، لا ننتج الجديد، بل نكتفي فقط بإبداء الرأي فيما نستهلك، يقول في ذات السياق: “اعتقد أن الواجب يفرض الآن التفكير في تدشين مرحلة الإنتاج، مرحلة تجاوز النقد..
إننا قريبون من هذه المرحلة، مرحلة الإبداع من أجل لحظة الوصل مع تراثنا، مرحلة تبين الحلول للمشاكل، ليس الحلول العملية، فهذا ليس من مهمتنا نحن الفلاسفة أو المتفلسفين، بل الحلول النظرية و الإيديولوجية”[5].
لحظة الوصل هاته هي التي اعتبرها الجابري صعبة و مريرة لكنها في غاية الأهمية، لأنها تجيبنا عن السؤال المُغيّب: كيف ننفصل عن عصر التدوين التراثي لكي نعيد ربط الاتصال به من جديد و بشكل جديد ، وبالتالي فما يسميه الجابري تدشين “عصر تدوين جديد” لا يمكن أن يتأسس من فراغ، بل من خلال قراءة التراث في ضوء المناهج و المفاهيم الحديثة لتدوينه من جديد
بهدف بلورة أرضية فكرية معاصرة تفتح الأفق أمام أسئلة جديدة، يقول: “أعتقد أن من جملة الأمور التي يجب أن نقوم بها من أجل تدشين عصر تدوين جديد ما قمت به في الاجزاء الاربعة التي خصصتها ل “نقد العقل العربي”.
هذا، في نظري، عمل ضروري تمهيدي يعطي صورة بانورامية عامة مخالفة لما هو سائد، تُعرّف الناس بما لم يكن شائعا لدى عموم المثقفين، تُقدم للجيل الجديد الصاعد مجالا للبحث و التنقيب و التأمل و الاتفاق و الاختلاف..إلخ.”[6]،
ولهذا تكتسي هذه العملية التدوينية الجديدة أهمية بالغة، إن لم نقل استراتيجية، في رؤية الجابري الفكرية، ذلك أن ما جري ويجري داخل الساحة الفكرية والسياسية العربية من صراعات، منفلتة من عقالها، والتي ما تكاد تخفت حتى تشتد، و أحيانا تنفلت إلى آثار عنيفة و مدمرة تضعف المجتمع والدولة معا وتفكك نسيجهما الاجتماعي كما تجلى ذلك بوضوح في “أحداث العشرية الأخيرة”.
أقول مثل هذه الصراعات بين كل المطالبين بالتغيير في عالمنا العربي تتطلب، من منظور الجابري، رؤية فكرية كإطار مرجعي جديد نعود إليه من أجل الاتفاق والاختلاف، لأنه لا فعالية لأي عمل مشترك دون هذه الرؤية التي تضع الحد الأدنى للتفاهم والتفهم، ومن هنا الحاجة الماسة ل “عصر تدوين” جديد يوضح لنا، من جهة، الرؤية ،
لأن ذلك هو الشرط الضروري للنجاح في أي عمل فكري-سياسي، سواء أكان موالياً أم ممانعاً؛ و من جهة أخرى يساعدنا على تصفية الحساب نهائيا مع الرؤى القديمة التي تُكبل العقل و تحرّف الفعل. يقول الجابري: “إن طريقة التفكير في الواقع و في الأهداف، فضلا عن أسلوب العمل و مداه، كل ذلك ما زال يتم في إطار القديم و بوسائله،
يكفي أن ننظر إلى الكيفية التي يتم بها التفكير الآن في قضايا الفكر العربي المعاصر من طرف “الإسلاميين” و ” الحداثيين”.. لنلمس، بكل وضوح، أن وجهات النظر بقيت ثابتة، بل جامدة على مدى قرن ويزيد”[7].
و يضيف في مكان آخر: ” و لذلك أكدنا على ضرورة تدشين عصر تدوين جديد ينبثق منه عقل عربي متجدد، يتعامل مع الواقع كما هو في حقيقة الأمر و ليس كما نحلم به، و نحن عندما نحيل إلى “عصر التدوين”، لا نصدر عن اختيار عشوائي في مجال رؤيتنا. كلا، إننا نفعل ذلك، بوعي عميق، بما يتطلبه تجاوز الوضعية الراهنة المأزومة التي يعاني منها العرب في كل مجال”[8].
[1] : حسن زهير، “في نقد سلطة النموذج/السلف”، منصة “بالعربية”، مارس 2023.
نشر ب “العربي الجديد”، مُدونات، 22 مارس 2023 : جزء من هذه المقالة [2]
[3] : محمد عابد الجابري، “وجهة نظر”، مركز دراسات الوحدة العربية، 2015، ط.5.ص.12.
[4] : محمد عابد الجابري ، ” وجهة نظر”، م.س.ص.12.
[5] : محمد عابد الجابري، “مواقف”، دار النشر المغربية، العدد 19، 2003،ص.70
[6] : عبد الإله بلقزيز، “الاسلام و الحداثة و الاجتماع السياسي”، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004.ط.1. ص.23-24.
[7] : محمد عابد الجابري، “وجهة نظر”، م.س.ص.10.
[8] : محمد عابد الجابري، “وجهة نظر”، ن.م.ص.10.