فكر وفلسفةمنبرُنا

في نقد سلطة “النموذج – السلف”

بدل الراحل محمد عابد الجابري جهدا استثنائيا استطاع من خلاله بلورة منهج جديد في قراءة التراث مكّنه من التحرر مما سماه سلطة “النموذج/السلف” وآلياته في التفكير، التي يكرِّسها وتُكرِّسه إلى أن جعلت منه إطاراً مرجعيا عاما، به يفكر العربي و يقيس عليه و في ضوئه يقرأ و يُؤول، سواء أكان هذا العربي ذو توجه سلفي أم ليبرالي أم ماركسي.


هذا “النموذج/السلف” هو ما رفضه الجابري، بشدة و وضوح، لأن مفاهيمه مأخوذة إما من “ماضي العرب” أو من “حاضر الغرب”، وفي كلتا الحالتين فهي مفاهيم لا تدل على الواقع العربي الراهن، بل تجد أصلها و فصلها في ذلك “النموذج/السلف”، ومن هنا انقطاع العلاقة بين الفكر العربي و موضوعه، أي الواقع العربي، لأن مَن يُفكر في إطار ذلك النموذج يتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية.

و يبتعد بالتالي عن المواجهة الفعلية للواقع كما هو، أي الحاضر أمامه. هذا الأمر دفع الجابري إلى التفكير في ضرورة إعادة بناء شاملة للفكر العربي، منهجا و مضمونا، بهدف تدشين “عصر تدوين جديد” يقطع مع الطريقة التي عولجت بها قضايا النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، و يتجاوز، في نفس الوقت، فكرة “النموذج/السلف”، سواء تعلق الأمر ب “السلفية الدينية”.

التي تستعيد الصراع الايديولوجي الذي كان في الماضي و تنخرط فيه، أو ” السلفية الاستشراقية”، التي ينظر من خلالها الليبرالي العربي إلى تراثه انطلاقا من منظومة مرجعية غربية، أو “السلفية الماركسية”، التي تحاول تقليد طريقة تطبيق “السلف الماركسي” للمنهج الجدلي.

يقول الجابري في هذا الصدد: ” لقد تم خلال المائة سنة الماضية تكريس تصورات و آراء و نظريات حول الثقافة العربية بمختلف فروعها مما رسّم قراءات معينة لتاريخ هذه الثقافة، قراءات استشراقية أو سلفية أو يسراوية تُوجّهها نماذج سابقة أو شواغل إيديولوجية ظرفية”.

كل هذه “السلفيات” إذاً تكرس، حسب الجابري، سلطة “النموذج/ السلف”، وهو ما حاول تجاوزه مما قاده في النهاية إلى منهج جديد و أطروحة جديدة تقوم على “أن المشكل الذي نعاني منه ليس الاختيار بين التراث أو الحداثة، بل المشكل هو بناء حداثة خاصة بنا انطلاقا من تجديد تراثنا”، و هذا التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل التراث ذاته، لكن مع “استدعائه و استرجاعه استرجاعا معاصرا لنا،

و في نفس الوقت الحفاظ له على معاصرته لنفسه و لتاريخيته”، و يضيف قائلا: “و قد رسمتُ معالم استراتيجية أعتقد أنها كفيلة بتحقيق ذلك، و في إطارها أشتغل منذ كتابي نحن و التراث”.

هذه الإستراتيجية ترى أن الحداثة، على المستوى العربي، لا يمكن أن تجد طريقها السليم إلا بإنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة، تشكل المرجعية الأم التي ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية فضلا عن المذاهب الدينية والفكرية، وهو أمر لن يتم، في نظره، إلا بتحقيق هدفين أساسيين:

– الأول هو إعادة كتابة تاريخنا الثقافي و تحريره من الزمن السياسي المُمزّق، ثم إقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تقدمه، و هي العملية التي قام الجابري مبرزاً كيفية الارتقاء بتراثنا و جعله يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة.

– أما الهدف الثاني فهو “التأصيل الثقافي” للحداثة، و ذلك من خلال العمل على “تبيئة و تأصيل قيم الحداثة وأسس التحديث في ثقافتنا، وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا الثقافي العام”. لم يكتفي الجابري بالتنظير لهذه المهمة، بل مارسها في عدد من مؤلفاته، لأنه يرى أن هذا النوع من “التأصيل” يساعدنا على تجاوز الانشطار والإزدواجية التي تعيشها ثقافتنا.

ولا يمكننا القول، ببساطة، أن التطور الإقتصادي و الاجتماعي كافٍ لوحده للتخفيف من حدتها، لأن لها بعد ثقافي خاص في مجتمعاتنا، وهو البعد الذي يمكن إدراكه بسهولة عندما نقارن ثقل الثقافي عندنا، من عقيدة وشريعة ونظام فكر وتقاليد وعادات، و بين ثقله في مجتمعات أخرى مما يؤكد استقلالية ” الثقافي” عن “الاقتصادي”، و بالتالي يجعل من التجديد فيه شرطا أساسيا للتجديد في ميادين أخرى.

أراد الجابري إذاً، من خلال منهجه و أطروحته، إنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة، تحررنا من “الماضي الثقافي” و تؤصل لنا “الحاضر الحداثي”، منهج و اطروحة يجعلان من التراث معاصراً لنفسه و معاصراً لنا في آن واحد، لأن المطلوب، في نظره، ليس أن يُحدِّث الحداثيون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق، والتراث هو النطاق الأوسع.

و هي المهمة التي نذر حياته الفكرية لها، و قد عبّر عن ذلك بقوله: “هذا هو اقتناعي إذا كنا نفكر في الأمة العربية كمجموع و ليس كنخبة، محصورة العدد، متصلة ببعض مظاهر الحداثة، تنظر إلى نفسها في مرآتها و تعتقد أن الوجود كله هو ما يُرى في تلك المرآة”. هذه القناعة هي التي جعلته يأمل في قيام “إنتلجنسيا عربية جديدة” تتجاوز سلطة “النموذج/السلف”.

فهي جديدة بانتظامها في الفكر العالمي المعاصر لتوظيف مناهجه، و عربية بانتظامها في التراث العربي لتجديده من الداخل، هذا الأمل إذن هو أساس استماتته في الدفاع عن منهجه و أطروحته، طيلة حياته الفكرية، حتى صار له أتباع كثُر و مؤيدون بارزون، كثرة هؤلاء تشي بقوة حضوره و تأثيره الشيء الذي جعل منه، رغم كل النقد الذي رافقه، رؤية فكرية راسخة في فكرنا العربي المعاصر.

حسن زهير

كاتب وباحث من المغرب؛ أستاذ مادة الفلسفة، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في شعبة الفلسفة، تخصص: "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" من جامعة محمد الخامس بالرباط. كاتب مقالات حول علاقة الفكر بالسياسة، والثقافة بالمجتمع في المجلات والمواقع الإلكترونية و الصحف المكتوبة والمنصات الرقمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى