فكر وفلسفة

محمد عزيز الحبابي “الشخصانية والغدية”

نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2015م، مؤلفًا جماعيًّا معنونًا بـ “محمد عزيز الحبابي؛ الشخصانيّة والغديّة”[1]، ويمكن القول: إن مجمل الدراسات والأبحاث التي يضمها هذا المؤلف بين دفتيه، تندرج في إطار ثقافة الاعتراف بأحد أعمدة الفكر المغربي والعربي المعاصر، وتروم إخراج مشروعه الفكري من دائرة النسيان.

وتنبه إلى أهمية قراءته وإعادة النظر فيه، حوارًا ونقدًا وتقويمًا، وتبرز راهنيّة جانب مهمّ من اجتهاداته وأفكاره، كما أنها تسجل أن الفيلسوف محمد عزيز الحبابي؛ صاحب مشروع فكري متعدد المشارب، يضم الفلسفة والرواية والشعر، ذي أفق إنساني وتحرري، ويتكون هذا المؤلف؛ من مقدمة وستة فصول، عدد صفحاته 192، من الحجم المتوسط.

ساهم في إعداد أغلب بحوثه مجموعة من الطلبة القدامى من الجيل الأول؛ الذي عاشوا مع محمد عزيز الحبابي مرحلة تأسيس الفعل الفلسفي أو استئنافه في المغرب ما بعد الاستقلال، واستنبات الممارسة الفلسفية، مجددًا، في الجامعة المغربية.

في مقدمة الكتاب؛ يشير أحد طلبته، المفكر كمال عبد اللطيف، إلى أن إدراك مكانة محمد عزيز الحبابي، مغربيًّا وعربيًّا، رهينة باستحضار السياق الثقافي والمجتمعي؛ الذي نشأت فيه فلسفته، وتطورت في إطاره، وتحت مفعول هذا السياق؛ توجه فكر الحبابي إلى النظر في تناقضات العالم المعاصر.

ومواجهة قضايا الاستعمار والتأخر التاريخي، في أفق بلورة القيم والبحث عن الكيفيات القادرة على تجاوز واقع الحال في مجتمعه، من دون انغلاق ما يقع في العالم أو إغفاله، ولئن توزعت أعمال الحبابي على اهتمامات فكرية وأدبية متنوعة؛ فإن المقالة الفلسفية: هي الوجه الأبرز لمشروعه.

والهدف الأساس الذي يشكل محور الإنتاج الفكري للحبابي، كما يرى كمال عبد اللطيف، يتجلى في: “إعادة تأسيس قواعد جديدة للتضامن الإنساني، بمعايير اجتماعية وأخلاقية، ومن منظور تحرري يركب النظر بالاعتماد على معطيات نفسية ووجودية”[2]، ولتحقيق ذلك؛ عمل الحبابي على إعادة إنتاج الفلسفة الشخصانية، وتطويرها انطلاقًا من الربط بينها وبين تطلعات العالم الثالث، وطموحاته في الاستقلال والنهضة والتقدم.

في الفصل الأول؛ المعنون بــ “محمد عزيز الحبابي: مسار في الفكر والحياة”، سيعمل المفكر عبد الرزاق الدواي، على رسم صورة عامة لسيرة الحبابي الذاتية؛ الإنسان والفيلسوف، واقترح عدة أفكار، جاعلًا منها “أرضية لقراءة تأويلية” لفكر الحبابي، ومنطلقًا من فرضية عمل تقيم الصلة بين مسار الفكر ومسيرة الحياة، أو تصل السيرة الذهنية للحبابي بوقائع وأحداث حياته.

وفي ذلك استحضارًا لما ذهب إليه الحبابي نفسه، حين عدّ “الفيلسوف الحق: هو الذي يتفاعل مع ظروف حياته”[3]، وانطلاقًا من هذه الفرضية، وبالاعتماد على نصوص الفيلسوف ومؤلفاته، سيتوجه عبد الرزاق الدواي إلى “إبراز الجوانب الأساس في سيرته الذاتية، وذلك في اتصال مع مسيرته البحثية، ودوره في تأسيس الجامعة المغربية، وبلورة نواتها الفلسفية الأولى”[4].

واجه عبد الرزاق الدواي صعوبة منهجية، في سعيه للتحقق من صحة فرضيته حول الصلة بين مسار الفكر ومسيرة الحياة، وتفاعل فكر الحبابي مع حياته، ومحيطه، وبيئته، ويكمن أصل الصعوبة في أن السيرة الذاتية للحبابي، الإنسان والفيلسوف، لم تكتب بعد؛ فهناك غياب شبه تام أو حضور جد ضعيف للوثائق والمعطيات المؤرخة لمراحل حياته.

فلا يوجد إلا القليل فيما يتعلق بمرحلة الطفولة والتعليم الابتدائي، ومرحلة الشباب والتعليم الثانوي، ويضاف إلى ذلك؛ النقص الحاد فيما يخص تجربته السياسية؛ فحياته الشخصية والعاطفية لا نكاد أن نعرف عنها شيئًا ذي قيمة، وتكاد مرحلة الطفولة تكون مجهولة، وتجربته السياسية التي عاشها في شبابه، تبقى محاطة بطبقات من الغموض.

وفي تقدير عبد الرزاق الدواي: إن مساحة الفراغ والصمت والنقص الحاد في معطيات السيرة الذاتية لمحمد عزيز الحبابي، الإنسان والفيلسوف، تعكس ضربًا من “التواطؤ الضمني بين الحبابي ونفسه، وبين الحبابي ومن يكتبون عليه، على إهمال الحديث عن حوادث مهمة ذات دلالات كبرى وتجاهلها”[5].

وأمام هذا الوضع؛ سيكتفي عبد الرزاق الدواي بما توفر من معطيات، مركزًا على أهم الأحداث والوقائع؛ التي يفترض أنها تركت بصماتها في المسار الفكري للفيلسوف وتوجهاته، ويشير، ضمنيًّا، إلى تجربتين كانتا بمثابة العامل المحرك لهذا الفكر؛ تجربة اليتم وتجربة الاستعمار، وأن هذه الأخيرة، حسب تقدير الدواي، خلفت في الحبابي “جروحًا وندوبًا عميقة جسدية ونفسية”[6]، ساهمت بقوة، إلى جوانب عوامل أخرى، في رسم مسار حياته وفكره فيما بعد.

استرشادا بالشذرات والإشارات الخاطفة المتناثرة هنا وهناك، يصور عبد الرزاق الدواي مسار الحبابي، الإنسان والفيلسوف، على شكل درب يمتد من المعاناة والسياسة إلى الفلسفة، ثم ينعطف راجعًا إلى السياسة عن طريق الفلسفة؛

فمن بوابة الالتزام السياسي، والنضال ضد الاستعمار، والكفاح من أجل التحرر، ومقاومة الاستلاب الثقافي، ولج الحبابي عالم الفلسفة، كما أنه مارس السياسة عن طريق الفلسفة والتأمل في واقع مجتمعه، والدعوة إلى التجاوز والتعالي والمناداة بالتحرر.

ومن موقع الشهادة والاعتراف، ورصد التأثير المتبادل بين المعاناة والسياسة والفلسفة، يعلن الدواي أن “التراث الفكري والثقافي عند الحبابي، أصيل ومتفرد؛ بل يمثل الجانب الأكثر جوهرية في مسيرة حياته أيضًا”[7]، وتتجلى أصالته وفرادته في عوامل تشكله النفسية والسياسية، وفي ازدواجية مصادر ثقافته العربية والفرنسية، وفي تساكن القلق والتفاؤل في فلسفته.

يصف عبد الرزاق الدواي فلسفة الحبابي بفلسفة التفاؤل المغمور بالقلق، وتتلخص مظاهر التفاؤل، بالنسبة إليه، “في إشكالية رئيسية، يمكن صوغها كما يأتي: ضرورة الطموح لبناء المستقبل، والغد المؤمل فيه أن يكون أكثر إنسانية وحرية وعدالة”[8].

بيد أن فوق مظاهر التفاؤل والأمل تطفو “تيار عارم من القلق، يجعلها لا تستقر على حال، ولا على موقف نهائي يبعث على الاطمئنان، ويمكن الركون إليه”[9]، ويبرز الدواي أن المنهج الفلسفي للحبابي لم يسلم من هذا القلق؛ الذي ترتسم معالم حضوره في النفور من كل نزعة نسقية محدودة الأفق.

وفي سعيه للخيال، وفي عدم تهيبه من الخوض في المتناقضات والمفارقات، والخاصية العامة لفكرة، هي: أنه متدفق، ومتحرك، ومسكون بهاجس التجاوز باستمرار؛ فالفكر الفلسفي للحبابي “فكر غير مستقر، وصاخب، ومثير للجدل، ولا يتهيب الوقوع في المفارقات”[10].

إن لجوء الحبابي إلى الجمع بين المتناقضات والمفارقات، سيقود حسب الدواي، إلى تأسيس عقلانية من نوع خاص، يتجاور في إطارها المعقول واللامعقول؛ فهي تؤمن بالعقل، وفي نفس الآن “لا تتردد في أن تقبل في رحابها؛ الوحي، والوجدانيات، والحدسيات، فضلًا عن الشعر والفن والدين”[11]؛ ففي المنظور العام للحبابي، أن العقلي والغيبي يتكاملان، ولا يتعارضان.

ومن المآخذ على فكر الحبابي؛ أنه انتقائي وتوفيقي وسطحي، يجمع بين ما لا يقبل الجمع، كما أشار الدواي؛ فإنه “يستعير من مذاهب فلسفية مختلفة، عناصرَ وأفكارًا، ويعيد صهرها وسبكها من جديد”[12]، مما يوقعه في التناقض، وقلما يوفق في التوفيق بين تلك العناصر والأفكار المتنافرة، والملاحظة التي سجلها الدواي،

بالاستناد إلى نصوص الحبابي نفسه، هي: “أنه يدافع عن الانتقائية، أسلوبًا مشروعًا في التفكير الفلسفي، ولا يعتبره عيبًا في المنهجً أو كسلًا، أو تقصيرًا في الاجتهاد”[13]، كما يؤمن بقيمة التفكير بالتناقضات وبمشروعيته.

ينتهي عبد الرزاق الدواي إلى صوغ تأويل محتمل لفكر الحبابي، يؤكد من خلاله على أهمية مشروعه الفلسفي، والدعوة إلى إعادة قراءته والتحاور معه، ضدًّا لكل المواقف التي عملت تهميشه واختزاله، وإلغائه من دائرة الخطاب العربي المعاصر، والتشطيب عليه من مجال القول الفلسفي، وضمن هذا التأويل، توجه إلى ربط فكر الحبابي بحياته، وإبراز خصوصية فكره.

فإن كان الحبابي ولج عالم الفلسفة عن طريق معاناة الطفولة، وخيبات الأمل في السياسة، وتحت وطأة القلق؛ فإنه كان يعتبر التفكير الفلسفي تعاقدًا مع الحياة، والفلسفة مجالًا للمقاومة والأمل والتفاؤل؛ فهي التي “تنير السبيل إلى التحرر، المعنوي والفلسفي، في الأساس؛ الذي يسلكه الكائن المستعمر، ليتحول إلى الشخص في طريق التحرر، ثم ليرتقي إلى الإنسان المحرّر أخيرًا”[14].

فالفلسفة، عند الحبابي الذي يريد أن يبدو معاصرًا ونهضويًّا ومناضلًا: التزام أخلاقي، ومقاومة للحاضر المسكون بالتخلف والاستعمار، والباعث على القلق، كما أنها استشراف لمستقبل مأمول، عنوانه: التقدم والتحرر، حافل بالأمل والتفاؤل، هذه السمة المستقبلية لفلسفة الحبابي، يختصرها الدواي في كلمة الغدية، التي هي “إبداع فلسفي، يماثل لعبة نسيان الحاضر والاستعداد للتلاؤم مع المقبل من مشكلات المستقبل.

وتأكيد الأمل الكبير في قيام غد أفضل، على الرغم من كل شيء، إنها نتاج وجدان مرهف أنهكه الحرمان والحزن العميق منذ صباه، وصدمه عالم السياسة الغريب”[15]، يصفها بالطوباوية الجديدة المعاصرة، وهي: مشروع لاحظ له في التحقق في واقع مخنوق بالأزمة، ويعكس دوخة حضارة التصنيع، تتحكم فيه التقنية المنفصلة عن القيم الإنسانية.

وفي الفصل الثاني: “في فلسفة محمد عزيز الحبابي الشخصانية والغدية”، سيقف المفكر محمد الشيخ عند أهم المفاهيم الأساسية في فلسفة الحبابي، ناظرًا إليها من ناحيتين؛ ناحية سلبية، وأخرى إيجابية، وهما، معًا، تبرزان أن الحبابي فيلسوف القلق المتفائل.

سجل المفكر محمد الشيخ في مستهل مقاله ملاحظة، مرعبة ومخيفة، تهم مصير الفلسفات العربية التي تعاني كلها من النسيان، هذا المصير الذي لم تسلم منه فلسفة الحبابي؛ “إذ تكاد تصير نسيًا منسيًّا”[16]؛ فعلى الرغم من أصالة وعمق أفكاره واجتهاداته، وجدية أطروحاته، وهذا تؤكده الكثير من الشهادات؛ فإن ذلك لم يشفع لفلسفته، كي تنال حظها من الاهتمام والدراسة.

ويصف محمد الشيخ شخصانية الحبابي، الواقعية والإسلامية، بالأنطولوجيا الاجتماعية، وهي، حسب تعريفه؛ “جنس من النظر في صلة الأنا بالغير، وعلاقة الذات بالمجتمع”[17]، ولهذه الأنطولوجيا امتدادات في مباحث فلسفية أخرى؛ كفلسفة القيم، وفلسفة الثقافة، والحضارة، وفلسفة التقنية، وقد بدأت أنطولوجيا الحبابي تتشكل في الساحة الفكرية الفرنسية؛ حيث كانت تسود العبثية القائمة “على المثالية والتشاؤمية والتجريدية”[18].

في هكذا أجواء، كان على ذلك الشاب الفيلسوف القادم من العالم الثالث؛ أن يختار اتجاهًا فلسفيًّا مغايرًا لما هو سائد، يجد فيه السبيل لفهم ذاته وتحقيق تطلعاته وآماله؛ فوجد في الفلسفة الشخصانية مبتغاه؛ ففي إطارها صاغ أطروحته الأساسية “من الكائن إلى الشخص”، ودشن مشروعًا خاصًّا في الأنثروبولوجيا الفلسفية، تبحث في السؤال: ما الإنسان؟

أو تجعل من الإنسان الأفقه المنتظر، ويتحقق الإنسان، في فلسفة الحبابي، من خلال نقلتين؛ نقلة من الكائن إلى الشخص من خلال عملية التشخصن، ونقلة من الكائن إلى الإنسان عبر عملية الأنسنة؛ “فالنقلة الأولى إلى الشخصانية، وأما النقلة الثانية؛

فإلى الإنسانية، تلك هي النزعة الإنسانية التي يسميها الحبابي: (الإنسانية الشاملة أو الإنسانية الجديدة)، مع دلالته بالإنسانية على المذهب الإنسي”[19]؛ فالشخصانية، من خلال استقراء العديد من نصوص الحبابي: هي مجرد خطوة أساسية في اتجاه المذهب الإنسي أو الأنسنة.

ينتقل المفكر محمد الشيخ إلى عقد عدة مقارنات؛ بين الكائن والشخص، وبين الشخص والشخصية، وبين الإنسان والحيوان، ليخلص إلى أن الإنسان كائن متعدد الأبعاد؛ فهو كائن تاريخي، ويسهم في صناعة التاريخ، وكائن مجتمعي ومعشري يُوجد بالمعية.

ويبقى مصيره الفردي موصولًا بمصير الجميع؛ فالإنسان الذي تنشده الفلسفة الشخصانية كأفق لها، هو: “سر مكنون محفوظ ومليء بالأسرار، ويسعى، دومًا، إلى إكمال وجوده وتحسينه، بتجاوز ما هو كائنه إلى مشروع الوجود الذي يصنعه بنفسه”[20].

بعد هذه الوقفة مع الإطار الإشكالي والمفاهيمي العام لفلسفة الحبابي، سيعمل محمد الشيخ في خطوة لاحقة إلى النظر إليها من ناحيتين: ناحية سلبية، وناحية إيجابية؛ فمن الناحية السلبية: تبدو فلسفة الحبابي فلسفة نقد للحداثة وأزماتها، والكشف عن أعطابها، وإبراز أمراضها، ومن مظاهر ذلك؛

أن العقل انحرف على طبيعته الأولى، وأن الكائن الإنساني تدنى في إنسانيته، وأن أزمات الحداثة تنبثق من الحداثة نفسها، وتشكل متاهات متداخلة، وكهوفًا مظلمة، يُفضي بعضها إلى بعض “بحيث تقذف كل أزمة بالإنسان الحديث، إلى أزمة أخرى أشد منها وأقوى بئسًا”[21]، ويردّ محمد الشيخ أزمات الحداثة،

كما شخّصها الحبابي، إلى ثلاث (الأزمات المفاتيح)؛ أولاها: أزمة الكذب الممارس من طرف أصحاب السياسة، السياسوية؛ الذين لا يكفون عن توزيع الوعود الكاذبة، وثانيها: أزمة الأنانية التي تؤدي إلى انحراف القيم الإنسانية المنشودة،

وثالثها: أزمة المنافسة التدافعية، القائمة على إعطاء الأولوية للكم على حساب الكيف؛ فالكشف على هاته الأزمات، وتتبع آثارها، وفضح مظاهر حضورها، يتخذ في المشروع الفلسفي للحبابي شكل نقد أخلاقي للحداثة.

تبدو فلسفة الحبابي من الناحية الإيجابية، حسب تأويل محمد الشيخ، فلسفة متعددة الأوجه؛ فهي فلسفة في القيم، وفلسفة في الثقافة والحضارة، وفلسفة في التقانة وفلسفة دينية؛ ففي مستوى أول: تبدو شخصانية الحبابي فلسفة في القيم؛ فعندما مارس الحبابي نقدًا أخلاقيًّا للحداثة،

لم يكن يسعى إلى تجاوزها أو رفضها، وبقدر ما كان يطمح إلى المساهمة في تصحيح أعطابها واختلالاتها، وقاده هذا المنحى النقدي إلى تأسيس فلسفة في القيم؛ “إذ طالما نظر في مسألة القيم، من حيث معناها، ومبناها، وغايتها، وطبيعتها، ومجالها، والقيم، عنده، هي: معيار وفيصل التفريق بين الخير والشر؛ إذ بفضلها نتمكن من التمييز بين ما ينبغي رفضه وتفاديه، وما يلزم قبوله وتبنيه”[22].

والقيم المنشودة في فلسفة الحبابي، قيم كونية، وهي على ثلاثة ضروب: روحية وأخلاقية وثقافية، وهي وصفة الحبابي العلاجية لأزمات الحداثة، وضمن هذا النظام القيمي الشخصاني، تحتل قيمتا الكرامة والحرية مكانة الصدارة.

وكأنموذج من القيم التي اهتم بها الحبابي، يسوق محمد الشيخ قيمة الحرية، معتبرًا أن “الشخصانية في صميمها فلسفة تحرر”[23]؛ فالحرية حريات، وتكون الحرية، دائمًا، متعدية، وكما بيّن محمد الشيخ: أن الحبابي يميز بين نوعين من الحرية؛ أولًا: الحرية، من الناحية السلبية، هي؛ مجرد موقف روحي، وفكرة ميتافيزيقية، أو علاقة داخلية مع الذات أو الأنا العميقة ترتبط بالإرادة،

وهي أنموذج الحرية، ضمن التصور البرغسوني الذي انتقده الحبابي. ثانيًا: الحرية من الناحية الإيجابية، وهي؛ فعل وممارسة وتحرر، وتظهر كتجربة إنسانية يعيشها الشخص في علاقة مع الغير والعالم.

وفي مستوى ثان؛ ترتدي الفلسفة الشخصانية، عند الحبابي، رداء فلسفة في الثقافة والحضارة، وحسب محمد الشيخ؛ فإن الحبابي يشدد على أن يعدّ الثقافة، بعدًا من أبعاد الكائن البشري؛ فهي البيئة التي يتشخصن فيها.

وتتفتح فيها شخصياتها وتتراكم، وسيعقد محمد الشيخ مقارنة بين الحضارة والثقافة، مبرزًا أن الحضارة واحدة وكونية، في حين أن الثقافات متعددة، وهما معًا، الثقافة والحضارة؛ كالكائن تقبلان الحياة والموت؛ فحياتهما واستمرارهما رهين بأنسنتهما، في حين أن ميلهما نحو الفردانية، والنفعية، والانغلاق، والعنصرية، يؤدي إلى موتهما.

وفي مستوى ثالث: إن فلسفة الحبابي الشخصانية، بوصفها فلسفة في التقانة؛ فإنها تبحث في العلاقات الممكنة بين الإنسان والتقنية (الآلات والأدوات)، من منظور نقدي، ولعل هذا ما وقف عنده محمد الشيخ، من خلال الإشارة التي أفرزتها حضارة التقنية أو الحضارة المادية؛ فنجاح التكنولوجيا، يقابله نسيان التجارب الوجودية، وطغيان العالم الآلي يقابله انحسار العالم الإنساني، والسمة البارزة،

هنا، هي: تحول التقانة إلى غاية، بعد أن كانت وسيلة في خدمة الإنسان. يقصد الحبابي من نقده للعالم الآلي الطاغي، أنسنة التقانة حتى تبقى في خدمة الإنسان، وتعمل على خلق شروط إسعاده، ويفترض نيل مثل هذه الغاية تعالي الكائن البشري على عالم الآلات، وأن يخضعها لحاجاته.

في المستوى الرابع: يشير محمد الشيخ إلى أن فلسفة الحبابي مسكونة ببعد ديني، يجعل منها فلسفة دينية، وفي الوقت ذاته، ينفي أن تكون من صنف فلسفة الدين، ويظهر المنحى الديني في فلسفة الحبابي بقوة في كتابه (الفلسفة الشخصانية)، في ظل الأزمات وهيمنة حضارة المادة؛ فإن القيم الروحية والدينية: هي المنقذ والمخلص للإنسان الحديث؛ فالدين: “هو كان ولا يزال يعطى معنى للحياة وقيمًا للأفعال”[24].

إن الدين يشكل تجربة وجودية ومصدرًا للقيم ومنبعًا للأمل، وإن استبعادهم حياة الإنسان، ترك فراغًا لم تفلح الأيديولوجيات المعاصرة في ملئه، ولهذا؛ فإن الفلسفة الدينية للحبابي، تراهن الدين في أنسنة الكائن البشري، وتأنيس العالم، وتأنيس الكائنات.

يختم محمد الشيخ مقاله بالقول: “هذا هو الحبابي، وهذه هي فلسفته، وهي فلسفات في فلسفة واحدة (الشخصانية، والثالثيّة، والغديّة)، وكل فلسفة من هذه الفلسفات المتكاملة، مكونة من حلقات (فلسفة في الوجود، وفلسفة في القيم، وفلسفة في التاريخ، وفلسفة في الحرية)؛ حيث تفضي كل حلقة بنا إلى أخرى”[25]، وبين دروب هذه الفلسفة، يتجاور القلق والتفاؤل تعبيرًا عن (تفاؤل الحبابي المأساوي).

يتميز الفصل الثالث من الكتاب؛ الذي يحمل عنوان “الغدية هي الأصل في النسق الفلسفي للحبابي” بنوع من الخصوصية؛ فهو من إنجاز المفكر والأكاديمي محمد مصطفى القباج؛ الذي رافق الحبابي لمدة طويلة “جاوزت ثلاثة عقود”[26]، منحته القدرة على الإلمام بكثير من تفاصيل سيرته الذاتية، والاطلاع على إنجازه الفكري.

كما أن هذا الفصل: هو عبارة عن وفاء بوعد قطعه القباج على نفسه، “بشأن إنجاز دراسة تفصيلية، تقوم على القلب المنهجي، للبرهنة على أطروحة مفادها؛ أن التوجه الغدوي في فلسفة الحبابي هو الأصل، وأن باقي نصوصه، تمثل روافد لسلسلة تشخيصات وتأملات، عمّقت توجهه الغدوي، وأعطته خاصيّة الأنساق بمركباتها من المفاهيم والتطبيقات كلها”[27]،

ويوضح القباج: إنه توصل إلى هذا القلب المنهجي عبر قراءة بحوث كل من تناول فلسفة الحبابي؛ إذ إنه لاحظ “أن معظهم لم يركز على الأحوال الشخصية، في بعديها السياسي والمعرفي، وكذا، باقي المؤثرات التي ساهمت في بلورة رؤى الحبابي، وتكوين وعيه المبكر”[28]؛ فاعتمادًا على ما ذهب إليه عبد الرزاق الدواي، بخصوص العلاقة بين الفكر والحياة؛ فإن القباج يشير إلى أن كل نسق فلسفي.

لابد أن تكون له أصول في السيرة الذاتية لصاحبه، وبالاعتماد على الفيلسوف بيير مكسيم شول، يبين القباج أن تجربة الاستعمار الذي كان يعيشه المغرب، كونت للحبابي وعيًا مبكرًا بالحيرة الناتجة عن تعارض صورتين؛ صورة المستعمِر المتقدم، وصورة المستعمَر المتخلف.

عمد القباج إلى سرد عدة أحداث ووقائع، أثّرت في السيرة الذاتية والمسار الفكري للحبابي، وبدأ سرده بالإشارة إلى نشأته الأسرية، ودراسته الابتدائية والثانوية، التقليدية والحديثة، وذكر ملازمته لرجال الحركة الوطنية، وخاصة، زوج خالته الشيخ محمد بلعربي العلوي: أحد رموز السلفية الإصلاحية المتنورة، ثم انخراطه في النضال السياسي ومقاومة الاستعمار.

وفي الأخير؛ رحلته لفرنسا لاستكمال دراسته العليا، وتعميق تكوينه العلمي، وقادت هذه البنية السردية محمد مصطفى القباج، إلى أن التفاعل بين عناصر السيرة الذاتية للحبابي، وأحوال واقعه المجتمعي الخاضع للاستعمار؛ هو ما قاده إلى اختياره الفلسفي للشخصانية، على اعتبارها فلسفة “تتوافق وتطلعاته الشخصية”[29].

وبوصفها؛ “تيارًا فلسفيًّا يثري، وينضج التوجه الذي أتى به من المغرب”[30]، ويساعده على تجاوز حيرته، ووعيه المأساوي، وتجربته الوجودية المسكونة بالقلق والحزن، ويمنحه الأمل في غد أفضل، بيد أن الحبابي لم يقلد الشخصانيين الغربين؛ بل أبدع شخصانيته، الواقعية والإسلامية، التي تتوافق مع انتماءاته الوطنية والعقدية والحضارية، وجعل من الإنسان أفقًا لها.

بعد وقوف مطول عند شخصانية الحبابي، بمفاهيمها الكبرى وأطروحاتها الأساسية، ورهاناتها القيمية المتعددة، يخلص القباج إلى أنها فلسفة إنسية؛ محورها الإنسان، وفلسفة مقاومة؛ تنشد العدل والحرية والكرامة.

قصد القباج من سرده للأحداث والوقائع، التأكيد على الوصل بين السيرة الذاتية والسيرة الذهنية للحبابي، وعلى أن مسار حياته وتعاقب نصوصه وكتبه، ساعده على بلورة الهاجس الغدوي؛ الذي يمثل الأصل في نسقه الفلسفي، ومن المؤكد، في نظره، “أن الحبابي لم يهاجر إلى فرنسا، إلا وقد وعى بقوة الاتجاه الذي سيشتغل به: صوغ تصورات مصدرها الفكر الفلسفي،

تكون إعدادًا أيديولوجيًّا (فكرولوجيًّا بلغة الحبابي) للغد”[31]، ومن موقع الصحبة والملازمة، بين الأستاذ والطالب، يسجل القباج تطور فكر الحبابي “كان علينا، نحن تلامذة الحبابي، أن ننتظر، ونحن نعاين مخاضه، ثمانيات القرن الماضي، ليطلع علينا بنصه المرجعي؛ الذي عاد فيه إلى الغدية الأصل، ليتحول؛ من شخصاني واقعي، مع الحفاظ على عدته المفاهيمية وحقيبته الأدواتية، إلى غدوي أكثر جرأة وعمقًا واستشراقًا في كتاب عالم الغد: العالم الثالث يهتم[32].

يشدد القباج على أن الغدية تمثل تطورًا جديدًا في مسار الشخصانية الواقعية؛ إذ إنها ستعيد توجيه نظرها نحو مصير جديد، لتصبح “فلسفة جديدة للغد ومن أجل الغد”[33]، وتصبح مهمتها؛ أن تهيئ الإنسانية لعالم الغد، واستتباب السلام العالمي.

وبذلك؛ فإن الفلسفة سترتبط بالواقع الإنساني في كليته، مستعينة بالعلوم الجديدة، ومن دون إقصاء للدين؛ فليس المقصود بالغدية، هو المستقبلية؛ بل، كما أوضح القباج، بالاستناد إلى نصوص الحبابي، منهج لمعالجة نشاطات إنسانية، قصد استخلاص عناصر متوقعة، تهم الإنسانية جمعاء.

وتعكس الغدية الفكر البشري “وهو يبرهن على قدرات الإبداع، على الرغم من فشل حضارة التصنيع”[34]، كما تلقي على عاتق الفيلسوف مسؤولية إعداد الإنسان، أخلاقيًّا ومعرفيًّا ووجدانيًّا، لبناء عالم الغد؛ فالغدية أنسنة للعالم، أو بناء عالم غدا مشتركًا للناس جميعًا.

وعلى أهمية الغدية؛ فإنها فلسفة أو نسق فلسفي لم تكتمل، إذا كان الحبابي، في أعوامه الأخيرة، سيعمل على تعميق ما بقي غامضًا من محاور الفلسفة الغدية؛ فإن ذلك لم يتحقق، ويرجع القباج هذا الأمر، إلى “تردي حالته الصحية، جراء ما عاناه من مضاعفات العمليات التي أجريت في دماغه”[35]، مما أثر على قدرته في التركيز والكتابة.

في النهاية؛ يقف القباج عند بعض من المآخذ التي سُجلت على النسق الفلسفي للحبابي، ومن بينها؛ أن الحبابي “لم يعط الديمقراطية منزلة أساسية، أكان في شخصانيته الواقعية، أو في فلسفته الغدية، على الرغم من أنه حاول تدارك الموقف، بإضافة قسم أول في الترجمة العربية لكتابه أحريّة أم تحرّر؟ (1972م)، غير موجود في الأصل الفرنسي (1956م)”[36].

ولكن، كما سجل القباج؛ فإن معالجة الديمقراطية، في هذا القسم المُضاف، لم ترق إلى متانة وقوة ونسقية الشخصانية الواقعية، وحتى في التحول من الشخصانية الواقعية إلى الفلسفة الغدية، لم يقم بتبيئة تصور تفصيلي للديمقراطية، يسهم في تحقيق التحرير الفكري، والنفسي، والسياسي، كما أنه لم يعط لمسألة حقوق الإنسان حيزًا مهمًّا في نسقه الفلسفي، حتى وإن وُجدت بعض الإشارات لهذه المسألة؛ فإنها كانت ترد في لوم وعتاب الذين يدعون حقوق الإنسان، في حين لا يدافعون عن حقوق الشعوب المقهورة.

تأكيدًا على فكرته المحورية لهذا المقال؛ يشير القباج إلى أن “الهاجس الغدوي؛ كان، في الأصل، محدوسًا في وعي الحبابي، السياسي والفكري، حين كان مناضلًا في صفوف الحركة الوطنية”[37]، وهذا ما تجلى في فلسفته ومواقفه، والصورة العامة التي رسمها القباج للحبابي، هي: أنه فيلسوف ذو رؤية حداثية، قصد إبداع فلسفة جديدة، أفقها الإنسان.

يضم الفصل الرابع؛ مقالًا للمفكر والأكاديمي محمد المصباحي، خصصه للقول في “جدلية الأفق في فكر الحبابي“، يفتتحه بإطار نظري عام، يروم من خلاله استشكال دلالة الأفق، وطبيعته، ووظيفته في فلسفة الحبابي، يقول فيه: “إن شخصانية الحبابي، سواء أخذناها بنعتها الأصلي، وهو: (الواقعية)، أو بنعتها البعدي.

وهو: (الشخصانية الإسلامية)، هي، باختصار: رحلة من الكائن إلى الشخص، ثم إلى الإنسان، والأفق: هو أحد الأمكنة التي تجري فيها هذه الرحلة، التي يسميها؛ التشخصن، فما المقولة الوجودية أو الصورة الماهوية، التي ينتمي إليها الأفق: هل ينتمي إلى الوجود أو الماهية أم إلى الهوية، أم إلى المكان أم إلى الزمان، أو إلى مقولتي الفعل والانفعال، أو إلى مقولة الملكية؟

هل ينتسب الأفق إلى عالم الأنثروبولوجيا أم إلى عالم الإبستيمولوجيا؟ هل هي مجرد مفهوم فلسفي، استعاره الحبابي من فينومنولوجيا هوسرل، أم هو عالم افتراضي اقترحه ليفسر به منطلق تفكير المرء ومنتهاه وفعله وانفعاله؟”[38]، بمثل هذه الأسئلة، يعمل المصباحي على إشراك القارئ أو توريطه، للتفكير معه في منزلة الأفق في النسق الفلسفي للحبابي.

بشكل عام؛ يتحدد مفهوم الأفق، وفق قراءة المصباحي للمتن الفلسفي للحبابي، كمفهوم شخصاني؛ لأنه يمثل المجال الذي “تتفاعل فيه أبعاد الفرد البيولوجية، والسيكولوجية، والاجتماعية، والثقافية، والفكرية، والعقدية كلها، من أجل إنجاز فعل التشخصن”[39]، ومن أجل الاقتراب من معانيه؛ يقف المصباحي عند انتماءاته المقولية على مستوى الوجود والواحد.

فمن جهة الانتماء إلى المقولات الوجودية؛ فهو يدل على الزمان والمكان، وينتسب إلى الفعل والملكية؛ فالأفق مفهوم زمني، لأنه يرد في باب الزمان، ويتغذى ويتطور من أبعاده الثلاثة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل.

“إن زمان الأفق لا ينحصر في الحاضر؛ بل يمتد إلى الماضي، عن طريق الذاكرة، ويشير إلى ما سيأتي؛ إلى التطلع والطموح والأمل، وهي أبعاد لا يمكن أن يجري التشخصن من دونها”[40]، كما أن الأفق مفهوم مكاني؛ لأن الحبابي يجعل منه الوعاء الذي يتم فيه التشخصن، ويوضح المصباحي: أن “تشبيه الأفق بالمكان.

لا يحيل على معناه الهندسي؛ أي المكان الفارغ المطلق؛ بل على فضاء حي، لا يتوقف عن الفعل، والانفعال، والتملك، والتشخصن، بغية مزيد من الامتلاء”[41]، كما ينتمي الأفق إلى مقولتي؛ الفعل والملكية، من جهة الفعل؛ فإنه يمثل: “الحقل الذي يقوم فيه الشخص بالفعل، تجاه الأشياء والكائنات”[42]، كما ينتسب الأفق إلى المقولة الوحدوية، ويفسر المصباحي هذا الانتساب، بكونه: “يصهر العناصر المكتسبة لتشكيل كل مغاير لأجزائه”[43].

واعتمادًا على هذه الانتماءات المقولية المتعددة لمفهوم الأفق؛ فإن المصباحي يعدّه: “بنية مركبة؛ انفعالية، وفعلية، ومعرفية، وعقدية، واجتماعية، …إلخ، تكيّف إدراكات الفرد، وتحدد تصرفاته، وأسلوب أفعاله، ونمط عيشه”[44]؛ فبنية الأفق: هي مجال تراكم المعارف والخبرات، ومجال تعيش عناصر الحياة كلها، ومجال اللقاء بالآخرين والأشياء، ونقطة التقاء الأبعاد.

بعد الكشف عن معاني مفهوم الأفق، وتحديد انتماءاته المقولية، ينتقل محمد المصباحي إلى النظر في وظائفه المتعددة، ويحصرها في عدّه مجالًا للتشخصن، وأداة فهم وتفسير، ووسيلة للحماية والوقاية، وأداة امتلاء، وأداة فصل وتمييز، وعامل تحرير وتحرر، وأداة اتصال وتواصل، كما يقوم بوظيفة تأليفية تجعله يتخذ معنى الكل، وينهض بوظيفة انفعالية، وإلى جانب هذا كله.

فهو أداة اعتراف بالآخر، وتعبر مجموع هذه الوظائف عن الأفق الشخصاني؛ أفق الفيلسوف، ورؤيته لذاته وواقعه، والأفق الشخصاني: أفق إنساني مفتوح ومتعال، في إطاره تتداخل عدة آفاق؛ أفق الشخص، وأفق الآخر، وليس هناك أنا بدون نحن.

إلى جانب هذه الوظائف الإيجابية لمفهوم الأفق، توجد وظائف أخرى تدخل في باب الوظائف السلبية، يصطلح عليها محمد المصباحي بـ (بأثولوجيا الأفق)، وحتى يكشف عن البعد المرضي لمفهوم الأفق، سيقوم محمد المصباحي بتشخيص عدة أعراض، منها: ضيق الأفق؛ ففي كثير من الأحيان “نشعر بتجربة الضيق والقرف تجاه ذواتنا.

والسبب في ذلك؛ شعور الوعي بغربته وبمحدودية حقل انتشاره”[45]، كما قد يتحول إلى أداة قمع وعائق أمام الشخص، للخروج من أزماته ومآزقه، “ولذلك؛ يكون سببًا في الانحرافات الأخلاقية والسلوكية؛ كالأنانية والهذيان”[46]، وعندما يصير الأفق مرضيًّا أو فقيرًا؛

فإنه يتحول إلى الشعور بالقنوط والقلق، ويقضي على المحفزات نحو الفعل، وحتى يسترد الأفق عافيته أو يتعافى من كل الأعراض الباثولوجيا؛ يجب عليه “أن يتجدد، ويتطور، وينفتح باستمرار في الاتجاهات كلها”[47].

في الختام؛ يشير محمد المصباحي إلى أن الحبابي يربط مفهوم الأفق بمبدأ الوجود ومقولة الملكية، مما يجعل معناه مزدوجًا، يرتبط الأول بالأمل، أو الرغبة في إخراج الأمل من القوة إلى الفعل، بتحقيقه، عينيًّا، على أرض الواقع، وبذلك يكون منفتحًا على المستقبل.

أما الثاني؛ فيجعل من الأفق: “خلفية، أو مرجعية، أو ملكة، أو مخزنًا يختزن تجاربنا الشخصية والجماعية”[48]، ويبقى منجذبًا إلى الماضي، ومما يؤكد عليه محمد المصباحي؛ أن الأفق الشخصاني، كما تبلور في فلسفة الحبابي: أفق متعدد، أو آفاق متداخلة ومتباينة، حتى بالنسبة إلى الشخص الواحد، وعند التسليم بواقعة “وجود آفاق متعددة ومتحولة للفرد، يدفعنا إلى تصور أفق أعلى؛ أفق الآفاق، أو الأفق الأكبر؛ أفق العالم”[49].

إن الأفق: هو ما يمنح الشخص زاوية ينظر من خلالها للعالم، ويجسد مجال تشخصن الكائن البشري وتأنسن الشخص؛ فالأفق الشخصاني أفق إنساني مفتوح، ومتعدد، ومتداخل، وهو مزيج بين المتعالي والمحايث، بين الشخصي والجماعي؛ فهو: المجال المكاني والإطار الزماني، والوسط الثقافي، والاقتصادي، والسياسي، والأخلاقي،

الذي تتم فيه عمليتي التشخصن والأنسنة، ولهذه الاعتبارات؛ فإن الحبابي، من منظور محمد المصباحي، لم يطمح “أن تكون فلسفته أنطولوجية أو وجودية؛ إنما أرادها أن تكون شخصانية، وهذا ما يفسر اهتمامه بوضع الإنسان في قلب الوجود، وفي صميم الفكر، ولكن ليس الإنسان المجرد؛ إنما الإنسان الملموس الذي يتمثل في الشخص”[50].

نجد في الفصل الخامس من هذا المؤلف الجماعي؛ دراسة للمفكر التونسي فتحي المسكيني، اختار لها عنوان “المساواة الشخصانية بين الرجل والمرأة عند الحبابي“، خصصها لبسط القول في “رأي الحبابي في مسألة الجندر”[51]، يفتتح دراسته بالإشادة بالحبابي وفلسفته؛ فهو، في رأيه: “الشخص الوحيد في ثقافتنا المعاصرة؛

أي الفيلسوف الذي تميز بكونه من حوّل الكلام في الشخص الإنساني، إلى مسألة شخصي جذرية، وأول عربي ومسلم تطرق إلى هذا التفكير المعاصر، وانخرط في تأصيل عميق له، بلغ حد الطموح إلى استكمال النظر الفلسفي فيها (الشخصانية)، على مستوى كوني”[52]، كما أنه “مثقف ثالثي، يؤمن بأن العالم الثالث قادر على التغلب على المستقبل المفروض على الشعوب المستعمرة، من خلال تطوير غد، وفلسفة غدوية”[53]،

ويبين فتحي المسكيني أن الغرض الفلسفي الأكبر والأول للحبابي: هو رسم خريطة المرور الإنساني؛ من الكائن إلى الشخص، وعبر هذه الخريطة المتشعبة المسالك؛ فإن الحبابي، حسب فتحي المسكيني، “برهن على طرافة أخذه بالمنحى الشخصاني في الفلسفة المعاصرة، على اعتباره طريقًا للتفلسف، له طاقة جبارة على طرح بعض المسائل الحساسة في تاريخ أنفسنا، والوصول في شأنها إلى تأصيل حقيقي”[54]، ومن بين هذه المسائل الحساسة التي خصها الحبابي بالقول الفلسفي؛ قضية المرأة.

في نصوص الحبابي، وخاصة في كتابه (الشخصانية الإسلامية)، يوجد تناول صريح ومقصود لمسـألة وضع المرأة، وحسب فتحي المسكيني، وإن كان هكذا تناول، “يخرج بها من النقاش اللاهوتي، أو الاجتماعي، إلى المناظرة الفلسفية المفصلة”[55].

فهو يبحث في الأساس الأنطولوجي لمعنى الجندر في الثقافة العربية والإسلامية، أو في ثقافتنا الذاتية العميقة، والأطروحة الناظمة للقول الفلسفي في مسألة المرأة عند الحبابي، حسب تأويل فتحي المسكيني، هي: “أن الشخص أبعد معنى إنسانيًّا، وأعمق أساسًا أنطولوجيًّا، من أية نزعة جندريّة أبويّة،

تنسب، خطأً، إلى ماهية الإسلام”[56]؛ فالسؤال الموجه إلى هذه الأطروحة، والموّلد لذلك التأويل، هو: على أي أساس أنطولوجي برر الحبابي دعواه؛ بأن الشخص أوسع معنى من الفرق الجنسي، وأنفذ حقيقة إلى الواقع الإنساني، من الدلالة الجندرية السائدة للذكورة والأنوثة؟

سيقارب فتحي المسكيني هذا السؤال، بغية تقريب شبكة التصور الفلسفي الشخصاني؛ التي نسجها الحبابي للمرأة، من خلال الوقوف عند سبعة عناوين فرعية: حب (هذه المرأة)ـــ الحميمية والاختلاف، التكامل الضدّي ــــ من الفرد إلى الشخص، في نقد “الإبيسية”:

شذرات تفكير خجول في الجندر، الشخصانية الإسلامية والمرأة  بؤس الفقهاء، الزواج الأحدي الرجل والمرأة (من نفس واحدة)، ملكية الأنا– ملكية الاسم؛ مساواة أنطولوجية ما وراء الاختلافات الجندرية، أو إن (المرأة شخص)، الإيمان والجنس– أو المرأة والمقدس.

عند تحليل العناصر سالفة الذكر، يشير فتحي المسكيني إلى أن الحبابي يعيد بناء المفاهيم فلسفيًّا، حتى تتناسب مع رؤيته الشخصانية، وكـأنموذج لهذه المفاهيم، يقف عند مفهوم الحميمية؛ إذ ينفي أن تكون مؤسسة على حالة الوحدة أو العزلة، ويرجع هذا النفي إلى أن الشخص يُوجد بالمعية، أو أن الركيزة الأساسية للشخص؛ هي اللقاء بالآخر، وتجد الحميمية تجسيدها الأفضل في تجربتي الفن والحب.

خص فتحي المسكيني تجربة الحب بالقول والنظر؛ فالحب الذي تنشده شخصانية الحبابي “ليس عملًا فرديًّا؛ أي عزلة؛ بل لقاء مع آخر بعينه، وبهذا المعنى، هو: شخصي؛ أي يفترض اختيارًا عميقًا، أو صادرًا عن عمق أخلاقي أو وجودي، ولا يمكن أن يكون رقمًا فحسب”[57]. وتبعًا لهذا المعنى؛ يصير الحب، في نظر فتحي المسكيني: تجربة نموذجية للتشخصن، يحدث فيها الانتقال من مجرد تدبير الكائن، إلى عظمة الاضطلاع بالشخص.

ينسب فتحي المسكيني إلى التشخصن عدة سمات، من بينها؛ أنه يجري في نحو من الحوار الحميم بين المحبين، من دون أنانية التماهي مع الغير، وحتى ينتفي التماهي ويرتفع؛ فلا يمكن اعتبار المرأة أنثى الرجل؛ بل هي: “أنثى نفسها، وامرأة في علاقتها بالرجل”[58].

فالحميمية لا تلغي الاختلاف، أو تفرض الذوبان، أو اختزال المرأة إلى جسد، ويخلص فتحي المسكيني إلى أن الحبابي كان “سبّاقًا إلى فكر الاختلاف، قبل ظهوره فلسفيًّا؛ فإذا كان حب المرأة يقدم أنموذجًا لفكر الاختلاف بين الجنسين،

ومن ثم؛ بين الأجناس كلها”[59]، وإن الحبابي وهو يمارس فعل التأصيل لرؤيته، لم يكتف بتأسيس الاختلاف الشخصاني بين الجنسين، على تقابل فلسفي شكلي بين الحميمية والتوحد؛ بل توجه سعيه “إلى الحصول على تأييد من التأويل الإسلامي للتوحد، ليحتج به لدى القارئ الوجودي المعاصر”[60].

ولاستكمال الشرح الفلسفي للأساس الشخصاني للعلاقة مع المرأة؛ يبرز فتحي المسكيني: أن الحبابي أقحم “في هذا السياق، مفهوم التكاملية، على اعتباره المقابل النظري لفكرة الحميمية على مستوى الحب”[61]، ويستوجب مفهوم التكاملية قبول الاختلاف، والإيمان بفردية الشخص واحترامه، ومراعاة التغاير الشخصي لكل فرد؛ فعلى فكرة التكامل الضدي، أقام الحبابي تصوره للحرية والديمقراطية، وللعلاقة مع الآخرين؛ فالكل يقوم على المعية، ويستند إلى التواصل.

يستدعي التأويل الشخصاني للمرأة عند الحبابي، تعميق النقد في الأبيسية والتفكير في المشكلة النسوية، ومسألة الجندر، من منطلق؛ أن التفكير في قضايا المرأة، لا ينفصل عن التفكير في قضايا التحرر، والتنمية، والتخلف، وتفكيك ميتافيزيقا الأب أو الآباء؛ التي تحكمت في الجماعة، روحيًّا ومدنيًّا،

ولعل هذا الارتباط: هو ما يفسر أن الحبابي، يذهب في نقد تخلف وضع المرأة إلى الحفر في جذوره، الأنثروبولوجية والجندرية، ولا يكتف بالإشارة إلى العوامل الاقتصادية الليبرالية، ويقع جذر تخلف وضع المرأة في الأبيسية أو سيادة الثقافة الذكورية؛ حيث إن وسائل الإنتاج وسلطة تنظيم المجتمع، بقيت محتكرة من طرف الرجال،

إنه احتكار يكاد أن يكون شاملًا وعامًّا، حتى وإن اختلفت درجة وحدة حضوره في المجتمعات والثقافات، والنتيجة الفلسفية الحاسمة لهذا النقد، كما سجلها فتحي المسكيني، هي: “أن الفرق بين الجنسين رجل/ امرأة، لن يكون، عندئذ، مجرد فرق جنسي بيولوجي ذكر/أنثى؛ بل هو فاعلية أخلاقية: هي نمط التشخصن الخاص بكل منهما”[62]،

ويتنزل كتاب الحبابي (الشخصانية الإسلامية) منزلة “إعادة كتابة تاريخ ومعنى الشخص في مصادر أنفسنا القديمة، قبل التعرض لأي تحويل أو تشويه أبيسي لاحق”[63]؛ ففي الفصل الثاني منه، سيركز الحبابي على المرأة/ الشخص، بوصفها الصعوبة التي تهدد الصلاحية النظرية للشخصانية الإسلامية،

ولتجاوز هذه الصعوبة؛ كان على الحبابي أن يقدم تأويلًا أو تخريجًا شخصانيًّا لقضية المرأة في الإسلام، يتعلق بوضعها الفقهي، بالتوصيفات القانونية والمعيارية الصورية الخاصة بها، على نحو مغاير لتأويل الكثير من الفقهاء.

وحتى يبرز فتحي المسكيني مدى الإحراج، وقوة الصعوبة التي يطرحها وضع المرأة في وجه النظرية الشخصانية، أو الشخصانية الإسلامية، يطرح السؤال الآتي: كيف يمكن الدفاع فلسفيًّا/ وجوديًّا/ شخصانيًّا عن دين أسس وضع المرأة على هذا النوع من الأحكام؛ (تعدد الزوجات، وعدم المساواة …)؟ كيف يجوز لفيلسوف شخصاني أن يتخلى للدين عن مساحة تفكير شخصاني مركزي، مثل؛ المرأة، الشريك الميتافيزيقي في بلورة غد أخلاقي مشترك بين الجنسين؟

سيتخذ الحبابي وجهة نظر مغايرة للفقهاء؛ فعوض أن يخوض في نقاش لاهوتي؛ فإنه اختار طريقًا فلسفيًّا، يبرز من خلاله العناصر المكونة لشخصانية إسلامية أصيلة في الإسلام، قبل احتكاكه بالوافد الأجنبي؛ (اليوناني، والفارسي، …إلخ)،

ومما يدل عليه هذا الاختيار؛ أنه “لا يمكن إنقاذ المرأة في الإسلام، إلا إذا أعدنا الإسلام، نفسه، إلى ماهيته الأولى؛ إذ إنه يوجد بين قدر المرأة وقدر الإسلام، صلة سابقة إلى الأمر نفسه: أصالة في خطر ينبغي على المفكر إنقاذها”[64]، ويظهر أن تحرير المرأة لا ينفصل عن تحرير الإسلام، ونفض الغبار الفقهي عنه بواسطة الفكر الحر.

من صور التحرير الشخصاني للمرأة؛ سيدافع الحبابي عن (الزواج الأحدي)، معتبرًا إياه؛ المغزى الأصلي للتشريع الإسلامي، والذي يحقق مقاصده العليا: العدل، والقسط، والمساواة، بينما يدل (تعدد الزوجات) على فقه رجالي منسجم مع رؤية أبيسية للعالم، واستند الحبابي، في مرافعته الشخصانية، على الزواج الأحدي إلى مبدأ ميتافزيقي قائم في أصل التكوين،

وهو: المساواة بين الجنسين؛ فالزواج الذكوري التعددي (تعدد الزوجات)، يؤسس عدم المساواة بين الرجال والنساء، ويلحق ضررًا أنطولوجيًّا بشخص المرأة، وحتى تتحقق قيم العدل والقسط والمساواة؛ سيصل الحبابي إلى حدود تحريم تعدد الزوجات.

وفيما يتعلق بالمساواة الأنطولوجية بين الرجل والمرأة؛ فإن فتحي المسكيني أورد عدة حجج تبناها الحبابي للدفاع عنها، من بينها؛ أن المرأة المسلمة تحافظ على اسمها بعد الزواج؛ فهي تبقى كل حياتها تحمل الاسم الذي حملته منذ ولادتها، ولا يتعلق الأمر، هنا، بمجرد اسم؛ إنما يخص هويتها الوجودية وقيمتها الأخلاقية،

كما أن الإسلام يخاطب المرأة والرجل في نفس الآن، وعلى نفس القدر من تحمل المسؤولية، ويصل الحبابي في دفاعه عن المساواة الأنطولوجية والأخلاقية؛ بين المرأة والرجل، إلى حدود القول بإمكانية نبوة المرأة، ومما يترتب عن ذلك؛ أن صلاحية النظرية الشخصانية الإسلامية لوضع المرأة، تبين أن “كل الادعاءات الجندرية عن تفوق الرجل، تنكشف، هنا، مثل؛ قناع أبيسي رديء لجنس ليس له برنامج أخلاقي لنفسه، غير الهيمنة الأخلاقية على جنس آخر”[65].

إن المساواة بين المرأة والرجل المنشودة من طرف الشخصانية الإسلامية، هي: مساواة أنطولوجية وسيكولوجية وبيولوجية، ومن الجوانب التي يعتبرها الحبابي مدخلًا لتنظيم هذه المساواة وتوجيهها؛ حضور الجسد وقدسيته في العلاقة بين المرأة والرجل،

ويذهب فتحي المسكيني إلى “أن هذه المساواة المثلثة: هي أكبر علامة على بطلان الدعوى السائدة عن شيئية المرأة في تاريخ الجسد في الإسلام”[66]؛ فالجنس مطلب إنساني بيولوجي مؤطر، أخلاقيًّا وقانونيًّا، يرقى إلى مستوى التعبد بين الجنسين معًا.

عمل فتحي المسكيني، عبر المسارات السابقة، على إظهار بعض جوانب التأويل الشخصاني للحبابي، بخصوص تحرير جندر المرأة من هيمنة جندر الرجل في الثقافة العربية الإسلامية؛ ليخلص، في النهاية، إلى تسجيل موقف في غاية الأهمية،

يؤكد عبره “أن الحبابي قدم الإسلام كأنه صراع تأويلي ووجودي مرير مع النزعة الأبيسية، لا ممثلًا آخر لها؛ فهو برنامج أخلاقي متكامل لأنسنة المرأة؛ إذ وجدها في مجتمع أبيسي مهيمن، قائم على تفوق جندر واحد، هو: الرجل”[67].

إن تحرير المرأة من هيمنة الرجل، والنظر إليها كشخص أو ككائن بشري يعمل على شخصنة ذاته، وتحقيق كرامته واستقلاله الذاتي، وأنسنة وجوده، تلك هي أهم معالم عناية الشخصانية الإسلامية بوضع المرأة.

في الفصل السادس من الكتاب المعنون بـ (الشخصانية الإسلامية: فلسفة أم علم كلام؟): يتخذ المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، منحى مغايرًا للدراسات السابقة؛ فلم يكتف بالنظر في المشروع الشخصاني للحبابي، ومعالجة إشكالية من إشكالياته، أو تتبع عناصر قضية من قضاياه؛

بل اشتغل بالوضع الأبستيمي لشخصانية الحبابي، وخاصة، ما يتعلق بالشخصانية الإسلامية، والسؤال الضمني الذي اهتم بالإجابة عليه: هل الشخصانية الإسلامية تنتمي إلى الفلسفة أو إلى علم الكلام؟ وبمعنى آخر؛ هل الحبابي فيلسوف أم متكلم؟

في البدء، رسم بنعبد العالي صورة عامة للجو الفكري، الذي تعرف فيه الحبابي على النزعة الشخصانية، واللقاء بفلاسفتها، كما أشار إلى بعض الدوافع التي جعلته ينحاز لاختيار هذه النزعة، ولعل من أبرز ما استهوى الحبابي في الشخصانية، هو: “المسحة الدينية المتحررة والمنفتحة”[68]،

التي كانت تميزها؛ فاهتمامها بالروح، ودفاعها عن الإيمان بالله، وقرابتها من البراكسيس، وارتباطها بالتاريخ، وجد صداه القوي والبارز عند الحبابي في (الشخصانية الإسلامية)، التي تسعى “إلى أن تفتح العنصر الأبدي في الشخصانية، على آفاق أخرى: آفاق الإسلام”[69].

بيد أن وصف الشخصانية بصفة (الإسلامية)، كما يرى بنعبد العالي، يثير العديد من الإشكاليات؛ فعندما يختار الحبابي الانطلاق من لحظة الصفر؛ أي الإسلام الأول قبل احتكاكه مع الوافد الأجنبي؛ فإنه يتجنب الدخول في حوار مع تراث “مفكري الإسلام؛ من علماء كلام، ومتصوفة، وفقهاء، وفلاسفة[70]،

ويعرض عن تضارب التأويلات، واختلاف القراءات، ولا يأبه لما حصل من خلاف في الثقافة الإسلامية، ونفس الاختيار المنهجي يوجد حتى في كتابه (من الكائن إلى الشخص)؛ حيث يغيب عنده الاهتمام باختلاف المناهج والمدراس؛ إذ يشير في الصفحة الواحدة إلى مصادر متباينة المشارب،

ويعني هذا الأمر، بالنسبة إلى بنعبد العالي؛ “غيابا مطلقًا لاختيار منحى بعينه في التأويل، وتبرير رفض المناحي الأخرى؛ فالحبابي يتعامل مع الأصول الإسلامية، على أنها اتخذت، دومًا، الدلالة نفسها، ولم تخضع لتضارب التأويلات فقط”[71]،

وبهذا الاختيار المنهجي؛ فإن الحبابي لم يتصرف كما فعل الشخصانيون المسيحيون؛ فهم عند دفاعهم عن مذهبهم، كانوا “يتصرفون كفلاسفة يحاورون أندادهم، ويموقعون أنفسهم داخل تاريخ الفلسفة”[72]، وإن اكتفاء الحبابي بالاستناد إلى المأثور، والاستنباط من المصادر الإسلامية الأولى، سيمنعه من بناء موقف فلسفي رصين، ويجعل خطابه في (الشخصانية الإسلامية)، أقرب إلى المنهج الكلامي منه إلى المنهج الفلسفي.

ليستدل بنعبد العالي على هذه النتيجة؛ سيتوقف عند قضية (الشهادة)، بوصفها إحدى أهم القضايا التي عالجها في كتابه، وبعد تبيان موقع الشهادة في شخصانية الحبابي، وتحديد دلالتها ووصفها بالكوجيتو المعكوس، مقارنة بالكوجيتو الديكارتي، يتساءل بنعبد العالي: “هل هذا الكوجيتو، كوجيتو معكوس؛ لأنه يسير من المطلق نحو النسبي، ومن الموضوع نحو الذات، أم أنه معكوس؛

لأنه يسير عكس الفكر لينتقل إلى الإيمان، ويغادر أرض الفلسفة لينضم إلى حجج أصحاب الكلام؟”[73]، ولمزيد إيضاح للنتيجة السابقة، مغادرة الحبابي أرض الفلاسفة والانجرار إلى علماء الكلام، سيضع بنعبد العالي الشخصانية الإسلامية في محك تاريخ الفلسفة؛

فحتى إن كان الحبابي يورد أسماء الكثير من الفلاسفة؛ فإنه لا ينشغل، كثيرًا، بتاريخ الفلسفة، ولا يهتم بالتفكير من خلال هذا التاريخ، بقدر ما “يسعى لتأكيد معاني منقولة، نقلًا إلى السياق الإسلامي، محاولًا البحث عن الدعامة لها ضمن المأثورات”[74].

على الرغم من هذا النقد الموجه للحبابي؛ فإن بنعبد العالي لا ينفي القيمة الفلسفية للشخصانية الإسلامية، التي تكمن نتائجها، أو يعني؛ “فيما يترتب عنها من إعادة نظر في بعض المفاهيم الفلسفية”[75].

يتجلى المفعول الفلسفي للشخصانية الإسلامية، في انفتاح الحبابي على بعض الأزواج الميتافيزيقية؛ كثنائية الأنا والنحن، وثنائية الجسد والروح، والمحايثة والتعالي”[76]، وإدراجها في سياق الثقافة الإسلامية؛ كسياق مغاير للسياق الذي نشأت فيه، ومما سجله بنعبد عبد العالي على طريقة الحبابي، في هذه الثنائيات أو الأزواج الميتافيزيقية؛ أنها لم تخرج عن طريقة الفقهاء وعلماء الكلام،

كما أنه ذات منزع شبه صوفي، يتموقع فوق المنطق وفوق اللغة، لهذا السبب؛ لا يبدو “أن المفعول الفلسفي للشخصانية الإسلامية، مفعول فلسفي بحق، ما دام يقذف بنا خارج الفلسفة، بعيدًا عن اللغة والمنطق؛ أي بعيدًا عن اللوغوس”[77]، وغياب الروح النقدية.

وضع بنعبد العالي الشخصانية الإسلامية في مواجهة الفكر الحديث، انطلاقًا من سؤال طرحه الحبابي نفسه: “هل يجد المسلم المعاصر، في الفكر الإسلامي، قدرًا كافيًا من المرونة لروح البحث والنقد، وطاقة وفيرة من التسامح، تضمن حرية الالتحام مع عالم اليوم؟”[78]،

سيتخذ الحبابي من سؤاله مدخلًا لتحليل واقع التخلف والانحطاط الذي أصاب العالم الإسلامي، ورصد العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى الشلل الثقافي في الإسلام، ومن العوامل الداخلية التي يحملها الحبابي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في العالم الإسلامي؛ يشير إلى عامل ثقافي يتجلى في التصوف:

الذي يشيع ثقافة التواكل والزهد في الحياة، والانسحاب منها، والاستسلام للقدرية العمياء، والاعتقاد في الخرافة، ولهذا؛ كان من الطبيعي أن يبحث الحبابي عن مصدر “مقاومة لهذا الموقف السلبي الذي يراه عند المتصوفة، وعن موقف مجاهد يواجه ما آلت إليه الأمور، ويعيد للإسلام أمجاده؛ فوجد في الاتجاه السلفي مبتغاه”[79]؛

فالسلفية تمثل الجانب النقيض للتصوف، وعلى أهميتها، تبقى محدودة، وناقصة، وعاجزة عن الوعي بمستجدات العصر، ولتجاوز سلبية التصوف ومحدودية السلفية؛ فإن الحبابي يدعو إلى بناء عقلية جديدة، وهي ما يعتقد أنه: “انفتح عليها بانفتاحه على الفكر المعاصر”[80]،

وإذ يقارب الحبابي الواقع العربي والإسلامي، مشخصًا أسباب الضعف فيه؛ فإنه ينجر إلى المنطق الدفاعي، الذي تبناه المتكلمون الجدد، الذين يوجد عندهم سلاح النقد، ولا يوجد عندهم سلاح الفلسفة.

ينعطف بنعبد العالي من القول في المفعول الفلسفي للشخصانية الإسلامية، إلى القول في المفعول الفلسفي لصاحبها، وذلك من منطلق التجربة التي جمعت بينهما؛ تجربة الأستاذ- العميد والطالب؛ فالحبابي الفيلسوف، كان يجعل “من درس الفلسفة تمرينًا في الفلسفة؛ بل تمارين في التفكير الفلسفي”[81]،

وهو يدرس، كان يتبنى بيداغوجيا مفتوحة تشجع على التفكير الحر والنقد، ولعل من آثار الحبابي؛ أنه أقام شعبة الفلسفة في كلية الآداب بالرباط، وغرس في نفوس طلبته “أن الفلسفة تفكير حر، ومقاومة للبلاهة، وابتعاد عن اجترار المكرور، علاوة على أنها؛ قرابة ومحبة وصداقة”[82].

بعد هذه السياحة الفكرية بين الدراسات المكونة لهذا المؤلف الجماعي، يمكن التأكيد على أنه؛ اعتراف بأحد المفكرين الذين تركوا مشاريع فكرية كبيرة، ودعوة إلى إعادة قراءة فكره ومحاورته، وعلى سبيل الختام؛ نورد ما كتب في ظهر الكتاب “محمد عزيز الحبابي: شاعر، وروائي، وقاص، وأكاديمي، وسياسي، من المغرب،

لكن الصفة الأبرز له، هي: الفيلسوف. وكان اسمه يرتبط بمصطلحين، هما: الشخصانية والغدية، والشخصانية تعني؛ انتقال الفرد من الكائن إلى الشخص، ثم إلى الإنسان، أما الغدية فهي ليست المستقبلية، كما فهمها البعض؛ إنما هي: معالجة النشاط الإنساني في بيئة معينة، لاستخلاص عناصر تهم الإنسانية جمعاء،

ولا ريب أن الجانب الفكري، لدى محمد عزيز الحبابي، أصيل ومتفرد، ولاسيما تركيزه على التقدم والعقل والعقلانية، وفي الوقت نفسه، على البعد الروحي في حياة الإنسان، غير أن فلسفة الحبابي، وأفكاره، وتجربته السياسية، ظلت غائبة، إلى حد بعيد، عن المجتمع العربي، وبحوث هذا الكتاب: هي محاولة معمقة للإحاطة بفكر الحبابي، ولمناقشة بعض إشكالياته الفلسفية”.

[1]– مجموعة من المؤلفين، محمد عزيز الحبابي الشخصانية والغدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2015م.

[2]– ص 10.

[3]– ص 18.

[4]– ص 11.

[5]– ص 21.

[6]– ص 24.

[7]– ص 18.

[8]– ص 34.

[9]– ص 35.

[10]– ص 35.

[11]– ص 38.

[12]– ص 36.

[13]– ص 37.

[14]– ص 41.

[15]– ص 43.

[16]– ص 49.

[17]– ص 50.

[18]– ص 51.

[19]– ص 53.

[20]– ص 58.

[21]– ص 60.

[22]– ص 63.

[23]– ص 65.

[24]– ص 75.

[25]– ص 76.

[26]– ص 82.

[27]– ص 81.

[28]– ص 81.

[29]– ص 86.

[30]– ص 85.

[31]– ص 85.

[32]– ص 93.

[33]– ص ص 92- 93.

[34]– ص 95.

[35]– ص 96.

[36]– ص 97.

[37]– ص 100.

[38]– ص 103.

[39]– ص 105.

 – [40]ص 104.

[41]– ص 105.

[42]– ص 105.

[43] ص 105.

[44]– ص 105.

[45]– ص 114.

[46]– ص 115.

[47]– ص 117.

[48]– ص 117.

[49]– ص 118.

[50]– ص 119.

[51]– ص 128.

[52]– ص 125.

[53]– ص 126.

[54]– ص 127.

[55]– ص 127.

[56]– ص 128.

[57]– ص 129.

[58]– ص 130.

[59]– ص 131.

[60]– ص 131.

[61]– ص 132.

[62]– ص 137.

[63]– ص 138.

[64]– ص 141.

[65]– ص 150.

[66]– ص 151.

[67]– ص 153.

[68]– ص 158.

[69]– ص 159.

[70]– ص 160.

[71]– ص 160.

[72]– ص 161.

[73]– ص 163.

[74]– ص 164.

[75]– ص 165.

[76]– ص 165

[77]– ص 169.

[78]– ص 170.

[79]– ص 171.

[80]– ص 173.

[81]– ص 177.

[82]– ص 178.

نقلا عن: مؤمنون بلا حدود

إبراهيم مجيديلة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى