نقد
عندما حمّل الفيلسوف الحبابي جامعة العرب مسؤولية “فشل التّعريب”
لم تكن فاعليّة التّعريب تبشِّرُ بخير منذ مدّة، فقد سبق للفيلسوف والأديب المغربي محمد عزيز الحبابي أن ساءل الواقع العمليّ للتّعريب بعيدا عن الشعارات والمطبوعات التي تُغرِق بها مكاتب التّعريب العالَم العربي، متسائلا إلى من “نشكو الأجهزة المسؤولة عن التّعريب التي ما زالت مفتقرة إلى منهج علمي يتجاوز المظاهر؟”.
وذكّر محمد عزيز الحبابي، في كتابه “مفاهيم مبهمة في الفكر العربيّ المعاصر”، بعَقد أوّل مؤتمر للتّعريب في الرباط، سنةَ 1961، وقراره تأسيس “المكتب الدائم لتنسيق التّعريب في الوطن العربي”، تحت الإشراف المعنوي والإداري والمالي للجامعة العربية.
واستشهد الكاتب بـ”الأهداف الواضحة التي كانت للمؤتمر”، وتحديده مهمة “التّعريب” في العمل على ”جعل اللغة العربية أداة صالحة للتّعبير عن كلّ ما يقع تحت الحسّ، وعن العواطف والأفكار والمعاني التي تختلج في ضمير الإنسان الذي يعيش في عصر الذّرَّة والصّواريخ”، ثم زاد قائلا: “لو حقّق ما في هذا التّحديد النّموذج، أو لو كان في طور الإنجاز الموضوعي، لحلَّ المشكل، ولعاشَت العربية في “عصر الذّرّة والصّواريخ”، ولكن، ويا للأسف، خطوة إلى الأمام وخطوات إلى الخلف، والمسافة بيننا وبين الآخرين تزداد طولا وعَرضا وعُمقا.
واستحضر الحبابي “مغامرة الدّولة الإسرائيلية مع العِبرية” التي كانت أشدّ وعُورة وتعقيدا ممّا للدّول العربية مع اللّسان العربي، والتي نجحت، رغمَها، في خلق لغة وطنية وتطبيقِها في مختلف الميادين، ثم استرسل الفيلسوف المغربيّ قائلا: “لكثرة الأشخاص والمؤسّسات والأجهزة التي يمكن اتّهامُها نحارُ فيمن يستحقّ قصَبة السّبق على هذا الوضع المتدنّي”. قبل أن يزيد بلغة ملؤها السّخرية: “بيدَ أنّ هناك هيئة موقَّرَة، بفضل طنينِها وفخامَتِها، وكونها أعظم ممثّل للعرب والعروبة.. صاحبة المعالي، جامعة الدول العربية العتيدة، فإلَيها ترجع مسؤولية البطء في التّعريب، أو بالأصحّ فشله”.
وبعد عنوان فرعي هو “متاهات التّعريب”، كتب محمّد عزيز الحبابي أنّ التّعريب قد أضحى “شعارا واختيارا سياسيا، وموضوع نقاشات ثقافية، ومبحثاً لمؤتمَرات عربية، على مستوى الدّوَل والجامعات”، ثم زاد قائلا: أيجوز أن نسأل عن مفهوم “واضح” له؟”.
وذكر الكاتب أن لفظ “تعريب” من الألفاظ التي بقدر ما يزيد تداوُلُها تزيد غموضها، وزاد شارحا أنّ معناه عند المشرقيّين ليس هو معناه عند المغاربيين؛ لأن “التعريب في المشرق مجرّد عملية جرد الكتُب والمجلّات العلمية والتقنيّة الصّادرة عن الغرب للبحث عن المصطلحات وإيجاد ما يقابلُها من ألفاظ قديمة”، بينما يستعمل المغاربيون كثيرا معنى آخر للتّعريب؛ هو: “نقل نصوص من لغة أجنبية إلى العربية”.
واستدرك الحبابي متحدّثا عن شيوع معنى آخر للتّعريب، ورد في توصية من توصيات مجمَّع اللغة العربية بالقاهرة في عام 1980، هو: تدريس بعض الموادّ، أو الرّغبة في تدريس بعض الموادّ، أو جميعها، باللسان العربي، في حين بات التّعريب، في مرحلة متأخّرة، يعني التعامل الإداري والمجتمعي باللغة العربية.
وشدّد الحبابي على حاجة اللغة العربية الماسّة إلى مرونة وتيسير، لتصبِحَ حقّا أداة خطاب حضاريّ معاصِر، وعدم حاجتها إلى تعقيدٍ وتشعيب، مضيفا أنّ الحظّ الأوفر من مسؤولية تعثّرات التّعريب وضآلة الحرَكات الثّقافية والفكرية العربية، تتحمّلُها جامعة الدّول العربية، ثم زاد محمّلا الكتّاب والمفكّرين قدرا “غير متواضع” من المسؤولية.
وأقرّ الحبابي بحقّ كلّ واحد في أن يغنّي ويكتب بأيِّ لهجة أو دارجةٍ شاء، شريطةَ أن يكون ذلك للاستهلاك المحلّي فحسب، وأن يهيّء ما يستحقّ التّصدير بلغة مفهومة في باقي العالَم العربي، و”إلا بقيت القطيعة تصفعنا رغم كثرة الشِّعارات”، فواقعنا “واقع العزّة المفجع”: شعوبٌ لا تحيا الوحدَة إلا بالخيال والعاطِفَة والشّعارات.
الحبابي، الذي دعا إلى “تلمّس السّير نحو تعريبٍ جدّيّ تدفَعُ إليه الحاجة من الدّاخل، لا الشّعارات”، قال إنّ سَير الدُّوَل العربية ليس في اتّجاه النّموّ، بل في طريق التّخَلّف. بينما وظيفة التّعريب الحقِّ هي: “أن يجعل اللغة العربية تفصِلُ بين عالَم الأسطورة وعالَم التاريخ؛ لأن المعاني تتقولب في الألفاظ وكلَّما كان القالَب المستعمَل مهلهلا جاءت المعاني مبتسَرة”؛ لأن “المعاني النّاضجة هي التي تصوِّر تماما وبدقّة موضوعاتها الخاصّة، بينما لفظ “تعريب” نفسه لم يتّضح بعد والتّجارب لم تنضج”.
وذكّر الفيلسوف المغربي الراحل بأنّ اللغة “لا تورَّث عن طريق الدّم والعرق”، بل هي ممارساتٌ يوميّة، لذلك، تكون قوّة اللغة فيما يُفعَلُ بها، أكثر ممّا يُقالُ عنها، وأكّد على “ضرورة حركة اللغة”؛ لأنها كلّما تحرّكَت امتزجت بالحياة، وخلقت الحركة بما تقولُه وبما لا تُفصِح عنه، لأنها ليست مجرَّدَ أصوات وأقوال فحسب.. فاللغة قوالب ذهنيّةٌ ومواقف، ثم أجمل قائلا: “إما أن تتحرّك اللغة، وإما أن تموت”.
عندما حمّل الفيلسوف الحبابي جامعة العرب مسؤولية “فشل التّعريب”
هسبريس – وائل بورشاشن