عن الفِكر الأدبي وعِلم الأدب
هل كان فرويد في دراسته لدوستويفسكي ناقداً أدبياً؟ وماذا عن غولدمان؟ بل ماذا عن الفلاسفة من أفلاطون إلى هيغل، هل يمكن اعتبارهم نقادَ أدب؟
هذا السؤال يطرحه، الدكتور سعيد يقطين، في كتابه “الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق” ليخلص إلى أن دراسة فرويد لدوستويفسكي، هي التي قادته إلى تأسيس التحليل النفسي الأدبي، تماماً كما أسّس غولدمان لسوسيولوجيا الرواية. أما مع الفلاسفة فيمكننا أن نتحدث عن “فلسفة الأدب” مثلما نتحدث عن “علم نفس الأدب” و”علم اجتماع الأدب”، ليبقى النقد الأدبي مجرد اختصاص ضمن اختصاصات أخرى تشتغل بالأدب.
لذلك يتحفظ يقطين في كتابه على مفهوم “النقد الأدبي” مثلما يتحفظ على مفهوم “الدراسات الأدبية” الذي يجده ملتبسًا، ليقترح علينا بالمقابل مفهوم “الفكر الأدبي” على غرار الفكر العلمي والفكر الديني والفكر الفلسفي. ويقسم سعيد يقطين الفكر الأدبي إلى “عام” يتيح للفلسفة والعلوم الإنسانية التدخل في الأدب، و”خاص” يعكف على الظاهرة الأدبية في ذاتها ليدرس بنياتها وأنساقها، فيما يسميه الكاتب “علم الأدب” مؤكدًا أن العلوم الأدبية صارت واقعًا في الدراسات الأجنبية (البويطيقا، السيميائيات الأدبية..) فيما ما زلنا في العالم العربي نستهجن أي حديث عن “العلم الأدبي”. فالأدب بالنسبة لنا مُنزّه عن أن يكون علمًا “خاضعاً لشيء غير الذوق والعاطفة والإحساس”. وبمثل هذا الخطاب يُؤمِّن النقاد لأنفسهم مساحات حرة لممارسة النقد الانطباعي المتبرّم من المناهج، ولمواصلة سجالات سائبة تُوسَم بالأدبية فيما الأدبُ ضحيتُها الأولى.
رسم سعيد يقطين في كتابه خريطة تركيبية للفكر الأدبي الغربي يرصد فيها تحولات تعامله مع الأدب من الكشف عن التيمات مع النقد الموضوعاتي ومحاولات تفسير الأعمال الأدبية من خلال ذات المؤلِّف الفردية والاجتماعية، أو لا شعور الكاتب مع فرويد مثلاً، إلى البحث في البنيات، حيث تمّ الانتقال مع البنيوية من رصد العوامل الخارجية للأدب إلى مكوناته الداخلية، قبل التحول إلى نظرية الأنساق كإبدال معرفي جديد. هكذا لم يعد تحديد عناصر أدبية النص وتحليل بنيات العمل الأدبي كافيين لفهمه، بقدر ما صار من الضروري دراسة العلاقات بين هذه العناصر والتيمات والبنيات في تفاعلها الدينامي.
ويبدو أن الكاتب وهو يستعرض هذه التحولات من الوضعية إلى البنيوية فما بعد البنيوية في الفكر الأدبي الغربي، وما ترتب عنها من انتقال من التيمات إلى البنيات فالعلاقات والأنساق، يُضمِر مقارنة غير معلنة ما بين الفكر الغربي ونظيره العربي. فبقدر ما كان المنهج جوهرياً عند الغرب ظل النقاش المنهجي مغيباً لدينا. بل إن علاقتنا بالمنهج ستمر منذ عصر النهضة إلى الآن بمرحلة كان النقاد مكتفين خلالها بذائقتهم الأدبية، إلى أخرى صاروا “يُخضِعون” فيها النص الأدبي بتعسف أحيانًا إلى مناهج بعينها، قبل أن ينتهوا إلى المزج بين المناهج تحت ذريعة التكامل المنهجي. وتبقى هذه العلاقة الملتبسة بين النص والمنهج وما صاحبها من تجريب “منهجي” متواصل تجلياً واضحاً لاختلال ممارستنا النقدية ورؤيتنا الأدبية.
وإذا كان يقطين قد أشاد بالدور الطلائعي الذي لعبته الجامعة المغربية وهي تفتح الباب للسيميائيات والتداوليات وتحليل الخطاب منذ بداية الثمانينيات، فإنه لا يخفي مراهنته على الجامعة وأكاديميّيها للتقعيد لعلم الأدب في أفق تكريسه. فما أكثر نقاد الأدب في الساحة، يدبِّجون القراءات النقدية والدراسات في الملاحق والمجلات الثقافية، ويراكمون الرسائل والأطاريح الجامعية، لكن في غياب دور حاسم ومحوري للأكاديمي / عالم الأدب سيظل مجهود هؤلاء النقاد قاصرًا عن بلورة فكر أدبي عربي.
مقال مهم يوضح غياب منهج نقدي أو فكر أدبي في الساحة الفكرية العربية
شكرا