جيل بلا بوصلة (2/3)
تشكلت كل «الإبدالات» الأدبية العربية الحديثة، بدءا من الرومانسية إلى ما بعد البنيوية، مرورا بالواقعية والبنيوية، في واقعنا الأدبي في ضوء تأثيرات خارجية، ولم تتحقق من مقتضيات يفرضها التحول الداخلي لصيرورة الفكر الأدبي العربي.
وليس لذلك من تفسير سوى أن أي إبدال معرفي لا يمكنه أن يتولد في تربة فكرية، إلا إذا كانت ثمة عوامل كثيرة تتدخل في تشكله، وتتصل مجتمعة بتطور العلوم والمعارف. ولما كانت العلوم عندنا غير متطورة، ظلت المعرفة غير العلمية هي السائدة.
وهذه المعرفة لأنها تتأسس على جاهز التصورات، لا يمكنها أن تسهم في تكوين إبدالات متطورة على المستوى الداخلي، ولذلك ظلت تستند إلى ما ينتج خارج فضائنا الثقافي، وغالبا بدون فهم أو استيعاب. ورغم ذلك، فإن الرومانسية أعطت الذات مكانتها في الإبداع الأدبي ضد النزعة الإحيائية التقليدية (النهضة).
كما أن الواقعية جرّت الأدب إلى الاهتمام بالمجتمع وقضاياه الأيديولوجية. في حين جعلته البنيوية يبحث عن خصوصياته الكامنة في بنياته الشكلية بغض النظر عن سياقاته. أما ما بعد البنيوية فقد أعادته إلى الانفتاح على الحياة والثقافة والمجتمع والهوية.
هذه التطورات رغم أهميتها في خلق جو من السجال والنقد، وإعطاء حيوية للحياة الأدبية، لم ينجح أي منها في ترك «تراث» فكري قابل للتطوير، ولذلك ساد الانقطاع المسيرة النقدية العربية، فكان أي تراكم يتحقق في أي حقبة يصبح عرضة للتجاوز والقطيعة بعد استنفاد ما جاء من أجله.
هل جيل ما بعد البنيوية تمكن من وعي هذه الصيرورة ليشتغل بطريقة مختلفة عما قبلها؟ إذا لم يستوعب أي جيل ما تركته الأجيال السابقة، سواء على مستوى الإنجازات وحدودها، والإكراهات وآثارها، ويعمل على فهم كل ذلك جيدا، لا يمكنه أن يؤسس لممارسة ووعي جديدين، وسيعيد الصورة نفسها التي تكرست منذ عصر النهضة.
إن نعتنا لهذا الجيل بكونه بلا بوصلة، لا يعني سوى تسجيل واقع تؤكده الوقائع والمنجزات. فبماذا يتميز هذا الجيل عن سابقه؟
لقد مثلت البنيوية في الوطن العربي منذ أواخر السبعينيات إلى التسعينيات تحولا كبيرا على مستوى فهم الأدب وممارسة النقد، ولذلك اعتبرتها أهم إنجاز عرفته الدراسة الأدبية العربية الحديثة. لقد اشتغل بها نقاد وباحثون كانوا قد تشبعوا بالواقعية والبنيوية التكوينية، ولكنهم تبينوا أن ما آل إليه النقد الأيديولوجي الدوغمائي ليس سوى الطريق المسدود.
فكان الانصراف إلى البحث في البنيات بقصد تقديم رؤية جديدة تتصل بالأدب في ذاته. هكذا اختزلت البنيوية عندنا في مقولة «النص ولا شيء غير النص»، بدون تمثل روحها وإدراك فحواها. فاعترض عليها المعترضون بزعم «قتل» المؤلف، وإعلان موت التاريخ، ولم يذهب المتحمسون إلى استيعابها باعتبارها إبدالا حقيقيا يقدم تصورا علميا للأدب، فصارت ممارسة نقدية تتعايش فيها الاجتهادات «البنيوية» المختلفة بدون تمييز بين العلمي والنقدي، وبين علم وآخر. فظل التعامل معها على أنها «منهج بنيوي»، وكفى.
يبرز ذلك بجلاء في ازدهار عملية الترجمة من الفرنسية لغة البنيوية، ولغات أخرى كالإسبانية، والإنكليزية. وفي الأطاريح الجامعية الكثيرة التي طبع أغلبها. وساهمت الندوات العربية والمؤتمرات، والمجلات والجرائد الثقافية في إشاعة البنيوية ومصطلحاتها التي دخلت اللغة العربية من بابها الواسع. فصارت كلمات: الشعرية والسيميائيات والسرد والراوي والتناص والخطاب والنص والعلامات، فتشكل بذلك وعي مشترك بمرجعية واحدة وموحدة.
لكن الخلط بين الأدبيات البنيوية كان سائدا. ولعل السبب في ذلك يعود، إلى أن البنيوية وصلت إلينا في بداية انتقالها إلى «ما بعد البنيوية» فلم نستطع التمييز بين التشكل (الستينيات) والتطور(الثمانينيات). فكان فهم الحقبتين وكأنهما حقبة واحدة.
كان التعامل السائد هو أننا أمام «منهج» جديد، سمي أحيانا «النقد الجديد» جاء ليقوض النقد الخارجي للنص.
وكانت هذه الجدة مغرية للكثيرين، فانخرطوا فيها بوعي أو بغير وعي. فكانت النتيجة: عدم القدرة على التمييز بين الإنجازات البنيوية، من جهة، وتمثل تعدد المشاريع البنيوية وتطورها، من جهة أخرى. ففي هذه المرحلة كانت تتعايش عندنا أمشاج من المفاهيم تتداخل في ما بينها بدون تفريق: الخطاب والعلامة، والشخصيات والعوامل، والنص والتناص والتلقي، والدوال والمدلولات، والبنيات والوظائف، ويقدم كل ذلك على أنه «بنيوية».
وبدأت محاولات الاشتغال في نطاق اختصاصات محددة: الأسلوبية، والبويطيقا، والسيميائيات، والبلاغة الجديدة، وتحليل الخطاب، ولسانيات النص، ولكن ضمن التصور نفسه على أنها جميعا «مناهج بنيوية»، وليست «علوما» تكونت، ولكل منها مقدماتها ومقاصدها وإجراءاتها، ما دامت لا تهتم بأيديولوجية النص، أو ما يتصل بخارجه.
وصار الخلط بين الأدبيات الفرنسية «المحضة» مع الكتابات الأنكلوساكسونية «الهجينة» بدون سؤال عن الفروقات والمرامي والمقاصد.
فلم تتطور الاختصاصات التي تشكلت في المرحلة البنيوية، خاصة في فرنسا، مع «البويطيقا»، والسرديات والسيميائيات بصورة عامة.
رغم كل هذه الجوانب المتعلقة بصلاتنا بالإبدال البنيوي، كانت ثمة بوصلة تقود المسترشد بها إلى سؤال لم نجب عنه بما يكفي هو: ما البنيات؟ ومع ذلك كان الهم مشتركا وموحدا. مع ما بعد البنيوية أين اتجهت البوصلة؟