ثقافـة التّفاخـر
كان الفخر من أغراض الشعر التي كنا نتعجب منها ومن أصحابها ونحن على مقاعد الدراسة. فالشاعر الذي يفتخر بقبيلته (ابن كلثوم مثلا) يرفعها إلى درجة معانقة الثريا، بينما يخفض خصومه إلى حد ملامسة الثرى.
كان التقاطب بين الأعلى والأسفل، والسامي والمنحط تعبيرا عن ميزة الأول على حساب الثاني، لكن شعر الأمثال والحكم لا يعطي للأعلى أي ميزة، مستدلا بذلك على أن ملآى السنابل تنحني بتواضع، والفارغات رؤوسها شوامخ.
بين الفخر والحكمة مسافة يملؤها الهوى: التكبر والعجرفة، من جهة، والتواضع والتسامح من جهة أخرى. فالمتكبر مهما كان ما يفتخر به واقعيا دليل على الإحساس بالنقص، ويتجسد ذلك من خلال عقدة التميز عن الآخرين. أما المتواضع حقا فلا يمكن إلا أن يكون فعله تعبيرا عن قيمة أصيلة تنبني على أساس التفاعل مع الآخرين. لا يمكن أن يكون التفاخر إلا بواسطة القول ويتعزز من خلال المظهر المؤدي إلى الشعور بالاختلاف والانغلاق. أما التواضع فيبدو في السلوك عبر الانفتاح وحسن التعامل.
سبق أن تحدثت عن «الثقافة الاجتماعية» التي تولدت عن الوسائط الاجتماعية الشعبية، ودعوت إلى استثمارها لفائدة الجميع بدل اقتصارها على إثبات الذات الفردية أو الجماعية، أو جلدها انتقاما من الواقع المعيش. وما أثير حول مقاطعة بعض البضائع، وإحدى محطات الوقود في هذه الأيام في الوسائط الاجتماعية، ليس سوى تعبير عن هذا النوع من الاستثمار الإيجابي الذي يشرك الجميع في ما يهم الجميع، ما دامت العلاقات غير متكافئة بين الثرى والثريا.
إن تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وعدم العمل على الخروج من نفق الحوار المسدود، وتحدي الإرادة الجماعية بانتهاج أساليب شتى تعود إلى أزمنة الأنانية وتغليب المصلحة الخاصة على العامة، لا يمكنه إلا أن يدفع في اتجاه التفكير في خلق أساليب متعددة للتصدي والمواجهة. فكما أن المستفيد من الوضع لا يهمه إلا التفكير في ما يضاعف استفادته وينمي مصالحه ويقويها، ويجعله لا يفكر إلا في أرقام معاملاته التي يتفاخر بها، لا يمكن لمن يتضرر من الوضع نفسه إلا أن يفكر في الأساليب التي تحد من الضرر، أو على الأقل تقلل منه، وتجعله يحافظ على ما يسمح له بمواصلة الحياة بكرامة وعزة. لكن هذا التباين بين المستفيد والمتضرر، حين لا يتأسس على ضوابط وقواعد معقولة تتأسس على الحوار الإيجابي، لا يمكنه إلا أن يؤدي إلى القطيعة والمقاطعة، ولكل مسوغاته ومبرراته. ويبقى التفاخر والتنابز بالألقاب، من جهة، والتصدي والتحدي، من جهة أخرى، السمة الدالة على التمايز بين الناس اللي فوق، والناس اللي تحت، ولا جسور للتواصل أو التفاعل بينهما.
إن من يتابع ما يجري في الوسائط الجماهيرية، وفي فضاءات الوسائط الشعبية من سجالات حول المقاطعة، يستنتج بدون بذل أي جهد أن هناك مسافة بين خطاب التحدي وخطاب التصدي، وأن الوجه الحقيقي للخلاف بين القدرة الشرائية المتدنية للمواطنين، والأسعار الملتهبة، يذوب وسط الاتهامات والأفكار الجاهزة والمسبقة والسجالات العقيمة. لا يدل هذا الخطاب إلا على أننا ما نزال نفكر في السياسة والمجتمع بذهنية الستينيات «شد ليا نقطع ليك». وبدل التصدي الحقيقي للمشاكل الفعلية بروح وطنية، وحوار مسؤول، ونكران الذات، نمارس لغة الاستعلاء والتحدي، من جهة، والتبرير والتشكيك من جهة ثانية.
ظلت الاحتجاجات الشعبية المطلبية تأخذ بعدا سياسيا في التاريخ الحديث. لكن الدعوة إلى المقاطعة جاءت لتأخذ مظهرا اقتصاديا، وتعبيرا عن اتخاذ موقف جديد بين المنتج والمستهلك، وهي بذلك تمس السياسة بوجه ما. وما دمنا نتحدث عن البضاعة والاستهلاك فإننا بذلك نشير إلى علاقة تتحدد بين الطرفين على أساس المنفعة المشتركة، وحين تتغلب مصلحة العرض بدون مراعاة متطلبات الاستهلاك وإمكاناته الواقعية، تصبح العلاقة غير متكافئة، وتتخذ العلاقة بعدا آخر يتمثل في بروز الجانب السياسي لتلك العلاقة، وبذلك تغدو المقاطعة ذات مظهر اقتصادي ـ سياسي.
عرف آباؤنا القناعة. فكان كل واحد يصرف وفق إمكاناته ولا يلتفت إلى غيره. وكان الأبناء يقدرون شروط آبائهم المعيشية. أما الآن وقد تبدل الزمان صار التباهي والتفاخر السمة المهيمنة على الجميع. فالتلميذ الفقير يسأل أباه شراء الحذاء الرياضي الذي يمتلكه ابن الثري، غير ملتفت إلى ظروفه الخاصة. غذى خطاب الإشهار الذي غزا كل الأذهان ثقافة التفاخر، ولم تنجم عنه إلا ثقافة الاستهلاك. وحين يصبح الإدمان على الاستهلاك غير قابل للتحقق بسبب هيمنة الإدمان على تحقيق الأرباح مهما كانت الظروف لا يتولد عن ذلك سوى البحث عن كيفية الاستفادة من الثراء، وأسبابه والعوامل المؤدية له، وحتى المواقع التي صار أو يمكن أن يحتلها أصحابه في الواقع. كما أن المقارنة بما يجري في أوروبا على مستوى البضائع نفسها وبين الداخل لا يمكن إلا أن يؤجج القطيعة ويدفع إلى المقاطعة.
ماذا كان سيحصل لو أن المقاطعَ يتفهم متطلبات المقاطِع؟ كان سيكون خطاب العقل والحكمة بديلا عن خطاب الفخر والهوى، ولتحولت القطيعة إلى تفاعل وطني يخدم الجميع.