كورونا تحت مِجهر الفكر النقدي
أصبح الوضع الحالي الذي نعيشه في ظل جائحة كورونا وما لها من تبعات مدمرة على الإنسان تفترض من الفكر النقدي مواكبة الظرفية الحالية بجميع متغيراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية بهدف تفكيك الواقع المتغير على الأرض وأيضا مساءلة النسق الفكري الليبرالي عن مسؤولياته في ما آلت إليه أوضاع العالم اليوم. فالعالم يوجد في منعطف حاسم يعرف متغيرات عميقة تعبر عن مخاض لميلاد مجتمع إنساني مغاير بعد كورونا يكون فيه الإنسان قد استوعب الدرس وفهم حجم أخطائه وسلبيات ممارساته لإعادة ترتيب أولوياته مع الحد من الظلم الاجتماعي وتدمير البيئة والسباق نحو التسلح والحروب أملا في انبعاث جديد يعيد للإنسان إنسانيته بسبب ما اقترفته الليبرالية الجديدة من استغلال و تسليع وتشيئ لكل شيء أفقد الإنسان وجوده الإنساني وقيمه الإنسانية.
في هذا السياق الفكري والنقدي تفاعل عدد من المفكرين والباحثين مع الوضع الحالي الذي يمر منه العالم معبرين عن نقدهم وتفكيكهم لما تعرفه الليبرالية الجديدة من أزمة خانقة تقودها إلى الانحطاط والانهيار الشامل. ومن بين هؤلاء نجد عالم اللسانيات الأمريكي نعوم شومسكي والفيلسوف الألماني يورغن هارماس وعالم الاجتماع الفرنسي ادغار موران و المفكر جاك أتالي الذين قاموا بمقاربات نقدية محاولين تفكيك الظرفية الحالية وما تتميز به من تفكك في القيم وهيمنة نزعة القوة أدت إلى حروب وصراعات مدمرة من طرف ليبرالية متهالكة شنت دمارا متواصل الحلقات للهيمنة على العالم. فما هو التصور النقدي لهؤلاء المفكرين للوضع الحالي الذي تمر منه الإنسانية ومعاناة هذه الأخيرة من وباء كورونا المدمر؟ وما هي الحلول و البدائل المقترحة التي يقدمونها لتجاوز هذه المحنة ؟ وإلى أين يتجه العالم بعد كورونا ؟
في هذا السياق استضافت قناة DiEM25 TV في حلقة خاصة اللساني والمفكر الأمريكي نعوم شومسكي الذي من خلالها حذر من الكارثة التي يواجهها الإنسان بجميع انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المدمرة.هذا بالإضافة إلى ما تعانيه البشرية من احتباس حراري وتدمير للبيئة والتهديد المتزايد للتسلح النووي. فالوباء أدى إلى العزل الصحي ونزول الوحدات العسكرية إلى الشارع وإغلاق الحدود بين المدن وبين الدول كأكبر حصار عرفه التاريخ.1
ومن خلال هذه المقابلة وجه شومسكي نقدا لاذعا للسياسة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية بقيادة ترامب واعتبرها تؤدي إلى الكارثة في ظل تدهور الديمقراطية التي توجد في مأزق حقيقي في الوقت الذي تعتبر السبيل الوحيد لتخطي الأزمة. ويرى أن سياسة الهيمنة الامريكية تؤدي إلى الكراهية و فرض الحصار والعقوبات التي تزيد من الألم والمعاناة. هذا في الوقت الذي تقوم كوبا بمساعدة الدول الأوربية معبرة عن عمقها الإنساني بالرغم من الحصار المفروض عليها في محنتها لمواجهة وباء كورونا. كما يعتبرشومسكي أن الغرب قد أصبح مدمرا.
و إذا كانت الإجراءات الاحترازية المتخذة من طرف الدول والمتمثلة في الحجر الصحي وإغلاق المدن والحدود وإنزال الجيوش إلى الشوارع تساهم في الحد من انتشار الوباء والوقاية من نتائجه الكارثية، فإن شومسكي نبه وحذر من تدهور الديمقراطية ومكتسباتها والنزوع نحو الاستبداد في كثير من دول العالم. وخصوصا أن بعض رؤساء الدول كترامب وماكرون وبعض الدول الأوربية أصبحوا يستعملون خطاب الحرب. كما أن وسائل الإعلام في العالم أصبحت تستعمل نفس الخطاب. ليتساءل عن جدوى هذا الاستخدام وأهدافه العميقة. وانتقد شومسكي أيضا تباطؤ ترامب والقادة الأوربيين لمواجهة كرونا معتبرا ذلك عملا غير مسؤول تحكمت فيه حسابات تجارية واقتصادية من طرف النيوليبرالية التي تهيمن على العالم لتجنب خسائر العزل الاجتماعي. هذا بالإضافة إلى تجنب إغلاق المؤسسات والشركات وتعطيل الحياة العامة خدمة لمصالح الأغنياء واقتصاد السوق. في هذا السياق، فضلت شركات الأدوية تصنيع كريمات البشرة عوض إنتاج لقاح أو علاجات للأوبئة باعتبارها أكثر ربحاً.
ويشبه شومسكي النيوليبرالية بالطاعون الذي يتحكم في الاقتصاد العالمي عن طريق اقتصاد السوق و قانون العرض والطلب الذي يقود نحو الهلاك. هذا في الوقت الذي أصبحت فيه الديمقراطية مهددة من طرف أنظمة سياسية تعبر عن قلة قليلة من النيوليبراليين الذين يواصلون التحكم في مجتمعاتهم متسائلا في نفس الوقت حول مصير البشرية بعد أزمة كورونا .
أما بعد الجائحة فيرى تشومسكي أن العالم أمام خيارات كثيرة قد تتحول فيه الدول إلى الاستبداد أو خيار العودة إلى النزعة الإنسانية المعنية باحتياجات الناس مع عدم تغليب المصلحة الاقتصادية للنيوليبرالية. هذه الأخيرة قد تلجأ لعنف الدولة الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس كورونا خصوصا إن طالت الأزمة. ويقدم شومسكي أمثلة لصعود الفاشية والنازية في أوربا تحت ذريعة حماية الاقتصاد محطمة النقابات العمالية و الديمقراطية. لذلك يعتقد الكاتب أن تتصرف النيوليبرالية العالمية بهمجية باعتماد العنف والاستبداد.
وكبديل للخروج من أزمة فيروس كورونا يقترح شومسكي ضرورة تضامن الناس في ما بينهم كحل لتحقيق عالم أفضل يعيشون فيه لأنهم سيواجهون مصاعب هائلة أعاقت طريق الحق والعدالة كالحرب النووية والتغيرات المناخية والكوارث التي يتسبب بها الاحتباس الحراري. وحسب قوله فالإنسان يوجد في لحظة تاريخية حاسمة للتخلص من الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية العالمية واستبدالها بنظام عالمي إنساني لتأمين مستقبل البشرية وبقائها. وذلك بترميم انكساراتها ولملمة جراحها لبناء عالم جديد قابل للعيش بامتلاك الإرادة والعزم والأمل.
أما مقاربة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس كأحد رموز مدرسة فرانكفورد النقدية فقد عبر عن تخوفه لما تتعرض إليه الديمقراطية من تهديد حقيقي أمام فرض التباعد الاجتماعي بحيث يقول :” إن الحد من عدد كبير من الحريات الأساسية يجب أن يكون استثناءا لا يسمح باستمراره بشكل قاطع ، لكن الاستثناء في حد ذاته، كما أشرت من قبل، يتطلبه الحق الأساسي في الحياة والسلامة البدنية.”2 كما يرى أن الضغط الحاصل على البنيات الصحية التي تدفع الأطباء إلى اتخاد قرارات مأساوية تضرب مبدأ المساواة بين الشباب والمسنين. ويركز هابرماس على أهمية التضامن لتجاوز الأزمة مبرزا أهمية دور الدولة ومؤسساتها في مواجهة أزمة كورونا قائلا : ” وها نحن اليوم نرى انه عندما تكون الحاجة حقا ملحة ، الدولة وحدها يمكنها مساعدتنا.”
أما إدغار موران عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي ومفكر مناهض للعولمة فيقول : ” تكشِف لنا هذه الأزمةُ أن العولمة هي ترابطٌ وتشابك فاقد التضامن. فمما لا شك فيه أن مسار العولمة قد نتج عنه توحيد تقني و اقتصادي شمل كوكب الأرض. بيد أن العولمة لم تحرز تقدما في مجال التفاهم بين الشعوب.”3 فالنيوليبرالية العالمية ازدادت بطشا وفتكا بالإنسانية في عدة حروب خربت دولا ومجتمعات لازالت جراحها لم تعالج إلى حد الآن، بل تعمقت أزمة الدول مع الإرهاب والتطرف فتدحرجت الإنسانية إلى مستنقع مظلم. كل ذلك بسبب غياب الإرادة الفعلية لحل الأزمات ونهج سياسة فرق تسد أمام غياب المنظمات الدولية وعجز هيأة الأمم المتحدة و غياب التضامن الدولي. كما تعرضت البيئة إلى نكسة حقيقية بسبب التلوث وعدم التزام بعض الدول بالاتفاقيات الدولية لحمايتها وتجنب ارتفاع درجة حرارة الأرض والكوارث الطبيعية.
أما جاك أتالي فيقترح الانتقال من “اقتصاد البقاء” إلى “اقتصاد الحياة” للخروج من أزمة كورونا. ويعني باقتصاد الحياة : ” تلك القطاعات المتمثلة في الصحة والوقاية وتدبير النفايات وتوزيع الماء والتغذية والزراعة والتوزيع والتجارة والتربية والبحث والرقمنة والابتكار والطاقة المتجددة والسكن ونقل السلع والنقل العمومي والبنيات التحتية في المدن والإعلام والثقافة والأمن والتأمين والادخار والقرض.”4
ويؤكد جاك أتالي أن “اقتصاد الحياة” يشمل جميع الأنشطة التي تتيح العيش وتؤمن شروط الحياة خلال أزمة كورونا تسمح بالخروج من الأزمة في جوانبها الاقتصادية والمالية والاجتماعية. ويشير إلى أن هذه القطاعات تزيد من فرص العمل والحد من البطالة.
يتضح من خلال المقاربات المقدمة لهؤلاء المفكرين أن أزمة كورونا تتطلب التضامن الإنساني والتعاون من أجل مطالبة النيوليبرالية بالتزاماتها اتجاه المجتمع في الرعاية الاجتماعية من أجل التخفيف من حدة الأزمة. هذا في الوقت الذي أصبح الفكر الليبرالي يعاني تفككا نظرا لأزمته البنيوية التي تقوم على استغلال الإنسان والربح واقتصاد السوق وتراكم الرأسمال وتقسيمه المجتمعات إلى طبقات متصارعة ينذر بتراجع الديمقراطية وحرية التعبير والحق في الاختلاف، ويؤدي إلى عودة الاستبداد ومصادرة الحقوق الفردية والجماعية في الدول المتقدمة والنامية على السواء، قد تفرز احتجاجات اجتماعية من طرف الفئات المتضررة للدفاع عن حقوقها العادلة.
وفي تقديرنا أصبح هذا الوضع يؤدي إلى تصاعد النقد للفكر الليبرالي الذي أصبح متهالكا يستنفذ وجوده التاريخي لصالح فكر نقدي بديل له مقاربته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للخروج من الأزمة البنيوية للرأسمالية باعتماد الحماية الاجتماعية والنهوض بالقطاع العام و بالاقتصاد الوطني والتخلص من التبعية الاقتصادية لتحقيق التنمية الشاملة.
لذلك فجائحة كورونا تحتم على المجتمعات بإعادة ترتيب أولوياتها والبحث عن طريق جديد بأفق إنساني للحد من الظلم الاجتماعي وتدمير البيئة والسباق نحو التسلح والحروب أملا في انبعاث مجتمع إنساني بديل يعيد للإنسان إنسانيته ويضمن الحماية الاجتماعية وتوسيع نطاقها للحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية التي تنتج البؤس والفقر . وهذا يفترض بناء مجتمع يرتكز على الديمقراطية ومشاركة المواطنين في صنع القرار السياسي والمواطنة المسؤولة التي تنظم ثقافة الحقوق والواجبات في إطار المسؤولية والمحاسبة لتحقيق التنمية والتقدم و التطور بعمق إنساني للعيش بكرامة.
- المصادر:
1 – قناة DiEM25 TV في حلقة خاصة مع اللساني والمفكر الأمريكي نعوم شومسكي.
2 – يورغن هابرماس. الديمقراطية الآن في خطر، ترجمة وائل فاروق، بالعربية للدراسات والأبحاث الأكاديمية، 15 ابريل 2020.
3 – المجلّة الفرنسية، L’Obs.. عدد 18 مارس. 2020.
4 – https://www.alaraby.co.uk//economy/2020/4/28/