دراسات إسلاميةسردياتنقد

السجال الديني

أثارت قضية التفريق بين «القرآن الكريم والمصحف» جدلا كبيرا في تونس، مؤخرا، كما أثارت «نهاية أسطورة البخاري» الجدل نفسه قبل بضعة أشهر في المغرب. وفي كل مرة تظهر في الوطن العربي سجالات من هذا النوع، حول الإسلام، أو القرآن أو السنة، أو حول أحد الصحابة، أو التاريخ الإسلامي.


ولما كان هذا السجال عادة ما ينجم عن خطابات تصب في ما يعتقده المسلمون، كانت ردود الأفعال قاسية، تصل حد التكفير، أو رصد جوائز مادية مجزية لمن يتصدى لتلك الخطابات. وتكثر ردود الأفعال التي تملأ الدنيا وتشغل الناس، ثم سرعان ما يغتال الزمن تلك السجالات، وكأنها كانت فرقعات سياط في هواء. 


أتساءل: ما جدوى هذا السجال؟ وما مدى مساهمته في فتح حوار حقيقي حول الإسلام، أو الثقافة الإسلامية؟ وما هي القيمة العلمية والمعرفية المضافة حول ما هو مشهور من ادعاءات حول القضايا المثارة؟ كما أنني أتساءل من جهة أخرى: ماذا يضير المنزعجين من مثل هذه الخطابات؟ وإلى أي حد يمكنها أن تسهم في زعزعة الاعتقاد، أو القضاء على الإسلام، إلى الحد الذي يجعلهم يعلنون النفير ضد هؤلاء؟


لقد انتهى زمن الاتهام بالزندقة لكل المعارضين والمخالفين، كما كان في التاريخ الإسلامي. كما ولّى عهد مطاردة الساحرات، وإعدام كل من يأتي باكتشاف علمي جديد يراه الأوصياء على الدين، أنه يعارض الشريعة المسيحية.


ألا يمكن فتح حوار هادئ مع ما ينشر من آراء مخالفة للاعتقاد؟ وإذا ما بدا الحوار مستحيلا، ألا يمكن الصمت عنه، وترك الفقاعات تنفجر من تلقاء نفسها؟ إلى متى سنظل نخوض مع الخائضين في سجالات عقيمة عن الدين، وندعي أننا نخوض «الجهاد» ضد من يريد التشكيك في العقيدة؟


إن الكثير مما يقال الآن عن القرآن الكريم قيل في زمانه، وتكفل النص القرآني نفسه بالرد عليه، من زعم أنه مُكتتب، أو أنه أساطير الأولين. وخلال كل التاريخ الإسلامي ظلت تتردد مثل هذه الدعاوى بأشكال متعددة، ومتجددة، كما بقيت تتوالى مع أعمال بعض المستشرقين، الذين سعوا بكل ما أوتوا من قوة فيلولوجية للنيل منه بشتى الوسائل والسبل.


فماذا حصل بعد كل هذا التاريخ السجالي؟ فالأذان ما يزال على الصوامع، والمصاحف تطبع، وأعداد المسلمين تتزايد، اليوم، من كل بقاع الأرض، أكثر مما كانت عليه في الأزمنة السابقة. 


لا يقدم السجال، سواء كان إيجابيا أو سلبيا حول الدين أو القرآن، ولا يؤخر شيئا. فلا المساجلون بالسلب صدوا الناس عن الإسلام، ولا المدافعون حولوا المسلمين إلى مؤمنين أو محسنين. يغتاب بعض المسلمين بعضهم بعضا، وهم متوجهون إلى المسجد، وبعد خروجهم منه يأتون في ناديهم المنكر. 


منذ أن طرحت قضية الإرهاب صار الإسلام مشجبا تعلق عليه كل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فلا فرق بين من ينادي بالخلافة الإسلامية، والشورى، أو من يطالب بالدولة العصرية والديمقراطية. كل يوظف الدين، ويخلق السجالات، أو يمارس الدعوة، لتحقيق مكاسب سياسية ومالية، ولا يهم واقع الشعوب الإسلامية البالغ الانحطاط.


إنما الأهم هو المصلحة الخاصة. لقد جرّب المسلمون هؤلاء وأولئك، فرأوا «داعش» تمارس تقتيلا وعنفا لا يقل شراسة عما مارسته الأنظمة الحزبية و»الديمقراطية»، أيا كان الشعار الذي ترفعه وضعيا أو دينيا، إن الصراعات التي تخاض في الوطن العربي، والإسلامي، باسم الدين، هجوما أو دفاعا، ليست سوى حروب من أجل مصلحة سياسية لفائدة فئة معينة، وضد مصلحة الشعوب. ماذا لو تركوا الدين للديان جل جلاله، وتصارعوا حول الوطن بلغة السياسة، والخطاب والفكر السياسيين؟ 


لا يمكن لأي صراع حين تغيب الأفكار والمشاريع والبرامج، إلا أن يعتمد على جاهز القول، ولاسيما حين يكون متصلا بمتخيل ثقافي، أو معتقد ديني، لدى الفئات والجماعات الاجتماعية المعنية بالتحول أو التقدم، ليتم الادعاء بأن السجال، ضمنيا، يخدم المطالب، ويؤدي إلى تحقيق المصالح.


ومن هنا كان اعتماد الدين الإسلامي وما يتصل به تاريخيا وثقافيا ركيزة السجال وممارسة الصراع. وليس في هذا سوى صرف الانتــباه عن القضايا الجوهرية. 


إن الدين والفن، من جهة، والفكر والعلم، من جهة أخرى، من مقومات الوجود الإنساني. ولا يمكن لأي جماعة اجتماعية مهما بلغت من الرقي الحضاري، أن تستغني عنهما، أو تعيش بدونهما. فلا الدين ينوب عن الفكر، ولا العلم يحل محل الفن. إن كلا من هذه الفعاليات له محله الحيوي والضروري في حياة الإنسان.


فالذين حاربوا الدين باسم الفكر، أو حاربوا العلم باسم الدين، أو قللوا من قيمة الفن مقابل العلم، أو جعلوا العلم بديلا عن الفكر، في كل التاريخ الإنساني، أبان التاريخ أنهم قصيرو النظر، وأن الإنسان لا يمكنه أن يعيش بمقوم دون غيره من المقومات. وليس السجال بخصوص أي مقوم بدون الالتفات إلى غيره سوى ضرب من الأوهام التي لها تواترات في التاريخ. 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى