لم يكن حديث النحاة عن مفهوم الجملة واحداً ولا مُوحَّدا، بل تعددت تعريفاتُهم واختلفت من نحويٍّ لآخر. وذلك راجع إلى المعايير التي اعتمدها كل فريق في تحديد مفهوم الجملة. وكان التوجُّه الأعم؛ هو معياريْ حُسن السكوت وتمام الفائدة في تحديدهم لمفهوم الجملة.[1]
لقد ربط النحاة تعريف الجملة بالكلام. فمنهم من ساوى بين الجملة والكلام، ومنهم من ميّز بينهما.
يمثل الاتجاه الأول عدد من النحاة، وعلى رأسِهم سيبويه، الذي يعتبر العلاقة بين الجملة والكلام كما يُفهم في مواضع متفرقة من مؤلَّفِه “الكتاب” علاقة ترادف. فسيبويه لم يقدم تحديدا دقيقا لمفهوم الجملة، لكنه تحدث عنها في سياق حديثه عن مجاري أواخر الكلِم من العربية، كما تحدث عنها وهو بصدد الحديث عن أسباب مضارعة الفعل المضارع للاسم. وذلك نحو قوله: “ويبين لك أنها (أفعال المضارعة) ليست بأسماء لم يجز ذلك.
ألا ترى أنك لو قلتَ إن يضرب يأتينا، وأشباه هذا لم يكن كلاما”.[2] ويقول في السياق نفسه: “فالأفعال أثقل من الأسماء لأن الأسماء هي الأولى، هي أشد تمكنا. فمن ثم لم يلحقَها التنوين وألحقها الجزم والسكون… ألا ترى أن الفعل لا بد له من اسم؛ وإلا لم يكن كلاما، والاسم قد يستغني عن الفعل، الله إلهنا وعبد الله أخونا”[3].
فسيبويه لم يستعمل مصطلح الجملة، بل عوضه بمصطلح الكلام، الذي يعني عندَهُ حسب ما جاء في النصين السابقين؛ ما يُفيد فائدةً يَحسُنُ السكوت عليها. وفي الاتجاه نفسه؛ نشير إلى المبرد، الذي عرَّف الجملة في حديثه في باب الفاعل بقوله: “وإنما كان الفاعل رفعاً، لأنه هو والفعل جملةٌ يَحسُنُ السكوت عليها، وتجب بها الفائدة للمخاطب، فالفاعل والفعل بمنزلة الابتداء والخبر، فإذا قلت قام زيد فهو بمنزلة قولك: القائم زيدٌ”[4].
وفي سياق آخر؛ يقول عن الكلام بمعنى الجملة: “… فالابتداء نحو قولك زيدٌ، فإذا ذكرتَه فإنما تذكرُه للسامع ليتوقع ما تخبرُهُ به عنه، فإذا قلت منطلقٌ وما أشبهَهُ، صح معنى الكلام، وكانت الفائدة للسامع في الخبر لأنه قد كان يَعرف زيدا كما تَعرفه، ولولا ذلك لم نقل له زيدٌ، ولكنت قائلا: رجل يقال له زيدٌ، فلما كان يَعرف زيدا ويَجهَل ما تخبرُهُ به عنه، أفدته الخبر فصح الكلام، لأن اللَّفظة الواحدة من الاسم والفعل، لا تفيد شيئا، وإذا قارنتَها بما يصلح حدث المعنى واستغنى الكلام”.[5].
يرى المبرد من خلال ما تقدم أن الجملة تُرادف الكلام، لأن شرطَها هو التلفظ المفيد المستقل بمعنى خاص، فالكلام عند النحاة؛ هو اللفظ المفيد الدال على معنى يَحسُن السكوت عليه. وقد استعرض مفهوم الجملة ووضحها من خلال عرضها وإبرازِها في سياق المبتدأ والخبر.
باعتبارِه أسهل تجلٍّ للجملة. وإذا ما عدنا إلى حديث الزمخشري عن الكلام والجملة، سنجد أنه كان أكثر وضوحا، يقول الزمخشري؛ “والكلام هو المركب من كلمتيْن أسنِدَت إحداهما إلى الأخرى، وذاك لا يتأتى إلا في اسميْن: كقولك: زيدٌ أخوكَ، وبشِّر صاحبَك. أو في فعلٍ واسمٍ نحو قولِك: ضربَ زيدٌ، وانطلقَ بَكرٌ، وتُسمى جملة”[6]
قد يبدو أن بين كلام المبرد والزمخشري فرقا ما، ولكن عند التأمل في كلامهما، نجد أنهما يُعبران عن التصور نفسه، وإن اختلفت مصطلحاتهما. ذلك أن الأول (المبرد) وإن كان يَشترط الإفادة في الجملة والكلام، فإن أمثلتَه وشواهدَه تدل على تضمنها الإسناد، والأكثر من ذلك؛ أنه أورد كلامَه في باب المسند والمسند إليه، مما يُفيد أن الجملة والكلام يقتضيان عنده الإسناد، وإن لم يشترطه في قولِه، لأن ذلك مفهوم ضمنا من خلال الأمثلة التي ساقها.
وبناء عليه، يمكن القول؛ إن الفرق بين (المبرد والزمخشري) هو فرق ظاهري فقط، لأن أمثلتهُما واحدة. ومعلوم أن الفعل والخبر يمثلان المُسند. والفاعل والمبتدأ يمثلان المسندَ إليه. ونُجمل الفرق بينهما في الخطاطة التالية:
- المبرد:
- قـــام ــــــــــــــــــــــــ مسند
- زيـــد ـــــــــــــــــــــــ مسند إليه
- القــائــم ـــــــــــــــــــ مسند إليه
- زيــد ــــــــــــــــــــــــ مسند
وبالتالي فالمبرد اشترط الإفادة صراحةً والإسنادَ ضمناً.
- الزمخشري:
- انطلق ـــــــــــــــــــــــ فعل
- بَكـــر ــــــــــــــــــــــــ فاعـــل
- زيـــد ــــــــــــــــــــــــ مبتدأ
- أخوكَ ــــــــــــــــــــــــ خبر
فالزمخشري اشترط الإفادة ضمنا والإسناد صراحة، أما ابن يعيش فقد ساوى بين الجُملة والكلام، مِثلُه في ذلك مثلُ الزمخشري، لكنه لم يشترط فيها الإسناد صراحة، وإنما اشترط المعنى المفيد، يقول: “اعلم أن الكلام عند النحويين عبارة عن كل لفظ مستقل بنفسه مفيدٍ لمعناه، ويسمى الجملة نحو؛ زيدٌ أخوكَ، وقام بَكْرٌ”[7].
ويقول في سياق آخر من شرح المفصل في باب حديثه عن القول والكلام والكلِم والتفريق بينهما: “إن الكلام عبارةٌ عن جُمل مفيدة، وهو جنس لها، فلكل الجمل الفعلية والاسمية نوع له، يصدق إطلاقه عليها، كما أن الكلمة جنس للمفردات”[8].
يتبين من الاقتباس الأول؛ أن ابن يعيش قد استعمل مصطلح الكلام بصيغة الإفراد، وذلك إزاء مصطلح الجملة بصيغة الإفراد أيضا. أما فيما يخص الاقتباس الثاني؛ فقد استعمل مصطلح الكلام بالإفراد في مقابل صيغة الجمع، ولهذا الاختلاف دور هام عند حديثنا عن ابن جني.
ولا يُستبعد أن يكون ابن يعيش قد أخد كلامه هذا عن ابن جني. ومنه يتبين أن المقصود بالكلام؛ جنس جامع لأنواع الجمل، وبمعنى آخر؛ أن الكلام قد يتحقق بأنواع مختلفة من الجمل الاسمية أو الفعلية أو غير ذلك. والطرح نفسُه وقفنا عليه عند ابن جني في “الخصائص“،
إذ نجده يقول: “أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسِه مفيدٍ لمعناه، وهو الذي يُسميه النحويون الجُمل نحو؛ زيد أخوك، وقام زيد، وضرب سعيد، وفي الدار أبوك، وصه، ومه، وحاء، وعاء، في الأصوات، وكلُّ لفظ استقل بنفسِه، وجنيتَ منه ثمرةَ معناهُ فهو كلام”[9].
اقرأ الجزء الثاني من الدراسة
- الهوامش
– يونس علي محمد محمد: المعنى وظلال المعنى أنظمة الدلالة في العربية، ، دار المدار الإسلامي، ط مزيدة ومنقحة ص 304.[1]
[2] – سيبويه: الكتاب، ج 1، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب، ط، 1983م/1403هـ،ص14.
[4] – المبرد: المقتضب،ج1، تحقيق: محمد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت، د – ت، ص8.
[5] – المبرد: المقتضب، ج4، ص26.
[6]– الزمخشري، المفصل في صنعة الإعراب، تحقيق: خالد اسماعيل حسان، ، مكتبة الآداب، القاهرة، ط 2009م/1430هـ، ص49.
– ابن يعيش: شرح المفصل، ج 1، دار صادر،مصر، ص 20.[7]