المبرد – Al-Moubarred
محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، المعروف بالمبـرَّد (ح. 210هـ/825م – ) جهبذ في علوم البلاغة والنحو والنقد.
عاش “المبرِّد” في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وعاصر كثيرًا من الخلفاء العباسيين الذين اهتموا بالعلم والعلماء، وساهموا في إرساء دعائم الحضارة الإسلامية ورقيِّها وصناعة نهضة حضارية عظيمة في مختلفة العلوم والفنون.
“المبرِّد” واحدًا من هؤلاء العلماء الذين تشعبت معارفهم، وتنوعت ثقافاتهم لتشمل العديد من العلوم والفنون، وإن غلبت عليه العلوم البلاغية والنقدية والنحوية، فإن ذلك ربما كان يرجع إلى غيرته الشديدة على قوميته العربية ولغتها وآدابها في عصر انفتحت فيه الحضارة العربية على كل العلوم والثقافات، وظهرت فيه ألوان من العلوم والفنون لم تألفها العرب من قبل.
- نشأته وشيوخه
ولد المبرد بالبصرة نحو سنة (210هـ/825م)، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، وينتهي نسبه بـ”ثمالة”، وهو عوف بن أسلم من الأزد.
وقد لُقب بالمبرد قيل: لحسن وجهه، وقيل: لدقته وحسن جوابه، ونسبه بعضهم إلى البردة تهكمًا، وذلك غيرة وحسدًا.
نشأ المبرد في البصرة، وتلقى العلم فيها على عدد كبير من أعلام عصره في اللغة والأدب والنحو منهم: “أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي”، وكان فقيهًا عالمًا بالنحو واللغة، و”أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني” الذي وصفه “المبرد” بأنه كان أعلم الناس بالنحو بعد “سيبويه”،
كما تردد على “الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر”، وسمع منه وروى عنه حتى عُد من شيوخه، وأخذ عن “أبي حاتم السجستاني”، وكان من كبار علماء عصره في اللغة والشعر والنحو، كما تلقى عن “التوزي” -أبو محمد عبد الله بن محمد-، وكان من أعلم الناس بالشعر.
لم تقتصر روافد ثقافة “المبرد” ومصادر علمه على ما يتلقاه عن شيوخه فحسب، وإنما كان نهم القراءة؛ فكان يقرأ كل ما يمكن أن يصل إليه من كتب السابقين.
- تلاميذه
وقد تلقى عنه عدد كبير من الأدباء والأعلام، منهم: “الزَّجَّاج” و”الصولي” و”نفطويه النحوي” و”أبو علي الطوماري” و”ابن السراج” و”الأخفش الأصغر” و”أبو على إسماعيل الصفار” و”أبو الطيب الوشاء” و”ابن المعتز العباسي” و”أبو الحسين بن الجزار” و”ابن درستويه” و”أبو جعفر النحاس”.
وهم جميعًا من كبار علماء العربية وأعلامها المشهورين، وقد تركوا العديد من المؤلفات القيمة والتصانيف الشهيرة في مختلف العلوم والفنون.
وكان “الزَّجَّاج” أكثرهم التصاقًا به وأغزرهم رواية عنه؛ فهو أول تلميذ للمبرد في “بغداد”، وقد ظل وفيًا له طوال حياته.
وقابل “المبرد” ذلك الوفاء بمزيد من الحب والتقدير، فكان لا يقرئ أحدًا كتاب “سيبويه” إلا إذا قرأه على “الزجاج”، ولما تقدمت به السن طلب منه الخليفة “المعتضد” تصنيف بعض الكتب، فاعتذر لكبر سنه ومرضه، وسأل الخليفة أن يقوم بذلك تلميذه “الزجاج” بدلا منه.
- مكانته العلمية
بعد وفاة “المازني” صار المبرد زعيم النحويين بلا منازع وإمام عصره في الأدب واللغة من بعد شيخه، فأقبل عليه الدارسون من كل حدب وصوب، وصار بيته كعبة لطلاب العلم ورواد المعرفة من كل مكان، ومنتدى للوجهاء والعظماء والأعيان.
واختصه كثير من سراة القوم وأعيانهم لتأديب أبنائهم؛ لما عُرف عنه من العلم والفضل والأدب، وما اشتهر به من المروءة والوفاء.
وبالرغم من أنه عاصر تسعة من الخلفاء العباسيين هم: “المأمون” [ 198 ـ 218 هـ = 813- 833م]، و”المعتصم” [218 ـ 227هـ= 833ـ842م]، “والواثق” [227 – 232هـ = 842ـ 843م] و”المتوكل” [232 – 247 هـ = 847 – 861م]، و”المنتصر” [247 ـ 248هـ = 861 ـ 862م]، و”المستعين” [248 ـ 252 هـ= 862 ـ 866 هـ]، و”المهتدي” [252 ـ 256هـ= 866 ـ 870م] و”المعتمد” [256 ـ 279هـ= 870 ـ 892م]، و”المعتضد” [279ـ 290هـ= 892 ـ 905م].
فإنه لم يتصل إلا بواحد فقط منهم، هو الخليفة “المتوكل”، وقد جاء خبر قدومه عليه في قصة لطيفة، وذلك أن “المتوكل” قرأ يومًا في حضرة “الفتح بن خاقان” قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109)
بفتح همزة (أن)، فقال له الفتح: إنها يا سيدي بالكسر، وصمم كل منهما على أنه على صواب، فتبايعا على عشرة آلاف درهم يدفعها من لا يكون الحق في جانبه.
وتحاكما إلى “يزيد بن محمد المهلبي”، وكان صديقًا للمبرد، ولكنه خاف أن يسخط أيا منهما، فأشار بتحكيم “المبرد، فلما استدعاه “الفتح” وسأله عنها قال: “إنها بالكسر، وهو الجيد المختار، وذكر تفسير ذلك والأدلة عليه”.
فلما دخلوا على “المتوكل” سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، أكثر الناس يقرءونها بالفتح، فضحك “المتوكل” وضرب رجله اليسرى، وقال: “أحضر المال يا فتح”.
فلما خرجوا من عنده عاتبه “الفتح” فقال المبرد: “إنما قلت: أكثر الناس يقرءونها بالفتح، وأكثرهم على الخطأ، وإنما تخلصت من اللائمة، وهو أمير المؤمنين”!
وتوثقت صلته بالفتح الذي أعجب بعلمه وذكائه وغزارة علمه وحسن حديثه؛ فكان كل منهما يحرص على وُدِّ صحابه، ويقدر له مكانته.
- المبرد بين أنصاره وحساده
وقد عرف “المبرد” بطلاقة لسانه، وسلامة عبادته، وكان عذب الحديث حسن الفكاهة؛ ولذلك فقد حرص الولاة والأمراء على مجالسته ومسامرته.
وكان على علمه ومكانته حلو الفكاهة لطيف المداعبة، معروفًا بالأدب والظرف؛ فكان أصدقاؤه يحبون ذلك منه، ويجيبون دعاباته بلطائف دعاباتهم.
روي أن أحد الأدباء، وكان يُدعى “برد الخيار” لقي المبرد على الجسر في يوم بارد، فقال: “أنت المبرد وأنا برد الخيار، واليوم بارد، اعبر بنا سريعًا لئلا يصيب الناس الفالج” (ريح يصيب الإنسان فيرخِّي بعض البدن).
وكان المبرد إلى جانب ما عُرف به من كثرة محفوظه وقوة حافظته يتمتع ببديهة حاضرة وذهن وقّاد، وأكسبته غزارة علمه قدرة فائقة على الرد على كل سؤال، وكان ذلك مثار عجب أنصاره وحسد أعدائه، حتى إنهم اتهموه بالوضع في اللغة لكثرة حفظه وسرعة إجابته.
- أقوال العلماء فيه
وقد وثقه العلماء وأصحاب الجرح والتعديل؛ فقال عنه “الخطيب البغدادي”:
“كان عالمًا فاضلا موثوقًا في الرواية”. وقال “ابن كثير”: “كان ثقة ثَبَتًا فيما ينقله”. وقال “القفطي”: “كان أبو العباس محمد بن يزيد من العلم وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، وملوكية المجالسة، وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة، وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط، وصحة العزيمة، وقرب الإفهام، ووضوح الشرح، وعذوبة المنطق؛ على ما ليس عليه أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه”. وقال: “ياقوت”: “كان إمام العربية، وشيخ أهل النحو ببغداد، وإليه انتهى علماؤها بعد الجرمي والمازني”. وقال: “الزبيدي”: “كان بارعًا في الأدب وكثرة الحفظ والفصاحة وجودة الخط”.
ومدحه عدد من الشعراء، منهم “البحتري” الذي دعا إلى الاقتباس من أنوار علمه، ووصفه بالكوكب:
ما نال ما نال الأميرُ محمد إلا بيُمن محمـد بن يزيــد
وبنو ثمالةَ أنجمٌ مسعودة فعليك ضوءُ الكوكب المسعود
كما مدحه “ابن الرومي” بقصيدة طويلة.
- المنافسة بين “ثعلب” و”المبرد”
حينما قدم “المبرد” إلى “بغداد” كان “أبو العباس أحمد بن يحيى” المعروف بثعلب على رأس علمائها ومشايخها، فخشي مزاحمة “المبرد” له، وانتزاع الرياسة منه؛ فأغرى به بعض تلاميذه يعنتونه بالأسئلة حتى يعجزوه؛ فينصرف عنه الناس، وكان “الزجاج” على رأس من أغراهم “ثعلب” به؛ لأنه كان أبرعهم حجة وأكثرهم علمًا وذكاء.
ولكن “المبرد” استطاع بعلمه وبلاغته وقوة حجته أن يأخذ بعقل “الزجاج” ويستحوذ على إعجابه؛ فترك “ثعلب” ولزم “المبرد” يأخذ عنه ويتتلمذ عليه.
وبالرغم من اشتعال المنافسة بين الرجلين واشتداد التنافر بينهما، وعنف “ثعلب” في الهجوم على “المبرد” وكثرة تعريضه به، وتعرضه له، فإن “المبرد” كان بعيدًا عن العنف به، ويأبى مواجهته بالسوء؛ فلم يُعرف عنه أنه أغرى به أحدًا من تلاميذه، أو أوعز إلى أحد أن يعنته بسؤال. بل إنه حينما سئل عن “ثعلب” قال: “ثعلب أعلم الكوفيين بالنحو”!
- “المبرد” شاعرًا
كان “المبرد” مع روايته للشعر وحفاوته به قليل الشعر، ولم يصل إلينا من نظمه إلا النزر اليسير، وهو على ندرته يتسم بالجودة والرقة والعذوبة. ومن جيد شعره قوله في الغزل:
فإن تكُ ليلى قد جفتني وطاوعت
على صرْم حبلي من وَشى وتكذَّبا
لقد باعت نفسًا عليهـا شفيقـة
وقلبًا عصى فيها الحبيب المقرَّبا
فلست وإن ليلـى تولت بودِّهـا
وأصبح باقي الوصل منها تقضُّبا
بمُثنٍ سوى عرف عليها ومشمتٍ
وشاة بها حولـي شهـودًا وغيَّبا
ولكننـي لا بـد أنـي قـائـل
وذو الودّ قـوَّال إذا مـا تعقَّـبـا
- آثار “المبرد” ومؤلفاته
التعازي والمراثي
بالرغم من مكانة المبرد الأدبية والعلمية، وغزارة علمه واتساع معارفه، فإنه لم يصلنا من آثاره ومؤلفاته إلا عدد قليل منها:
1- الكامل: وهو من الكتب الرائدة في فن الأدب، وقد طُبع مرات عديدة، وشرحه “سيد بن علي المرصفي” في ثمانية أجزاء كبيرة بعنوان “رغبة الأمل في شرح الكامل”.
2- الفاضل: وهو كتاب مختصر يقوم على أسلوب الاختيارات، ويعتمد على الطرائف وحسن الاختيار.
3- المقتضب: ويقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، ويتناول كل موضوعات النحو والصرف بأسلوب واضح مدعَّم بالشواهد والأمثلة.
4- شرح لامية العرب.
5- ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد.
6- المذكر والمؤنث.
كما يُنسب إليه عدد آخر من المؤلفات التي لا تزال مخطوطة، مثل:
1- التعازي والمرائي.
2- الروضة.
- الكامل في اللغة والأدب
بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التي وردت إشارات عنها في عدد من المراجع والمصادر العربية القديمة، ولكنها لم تصل إلينا، مثل:
1- الاختيار: وقد ذكره “المبرد” في “الكامل”.
2- الاشتقاق: وذكره “ابن خلكان” في “وفيات الأعيان”.
3- الشافي: وقد ورد ذكره في “شرح الكافية”.
4- الفتن والمحن: ذكره “الصولي” في “أخبار أبي تمام”.
5- الاعتناب”: ذكره “البغدادي” في “خزانة الأدب”.
6- شرح ما أغفله سيبويه: ذكره “ابن ولاد” في “الانتصار”.
وتوفي “المبرد” في [28 من ذي الحجة 286هـ = 5 من يناير 900م].