يهتمّ علم اللغة الاجتماعي بدراسة اللغة ووصفها داخل المجتمعات من خلال تحديد الظواهر اللغوية التي تميّزها والوقوف على نقاط الاختلاف والتشابه بين مختلف الأداءات. وقد تفرّعت عن هذا العلم اختصاصات لغوية أخرى، تناولت هذا الجانب بكثير من الدقّة والتعمّق في الطرح والدراسة.
ونقصد بذلك علم اللغة الجغرافي أو ما يسمى باللسانيات الجغرافية (Geographical Linguistics)، وهو علم يهتم باللّغات الإنسانية، ولهجاتها، وتوزّعها على خارطة العالم، كما يسعى إلى إحصاء عدد المستعملين لهذه اللغة أو تلك، أو المتكلّمين بها مع مراعاة أوجه التوافق والاختلاف بين مختلف الأداءات.
ويهدف هذا العلم من وراء هذا المسح اللغوي بكل تفاصيله ودقائقه إلى استغلال النتائج المتوصّل إليها في الجانب الاقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي. ومن أهمّ مباحث اللسانيات الجغرافية: اللغات المحلية، ومسألة النفوذ اللغوي، واللغات الوطنية والوافدة، فضلا عن التعدّد اللهجي داخل اللّغة الواحدة، والفروق التركيبية و الصوتية و الدلالية بين اللهجات…إلخ.
ويعدّ تصميم الخرائط اللسانية وإنجازها من أهمّ ما يقدّمه علم اللغة الجغرافي، وأبرز ما تتوصّل إليه نتائج دراساته وبحوثه، وتكمن أهميّتها في تقديمها لصورة دقيقة ومفصّلة عن بنية اللغات ونقاط التشابه والاختلاف بين مختلف الأداءات حسب انتشارها في المناطق والأقاليم.
وهذا العمل هو ما اصطلح عليه عند أهل الاختصاص بـ( الأطلس اللساني)، الذي يعرّفه الدكتور سعد مصلوح بأنّه:” توزيع الظواهر اللغوية توزيعا جغرافيا … وفق مفاتيح خرائطيّة تبيّن من خلالها مكان انتشار كل لغة أو لهجة”.
وعليه يمكن القول: إنّ الأطلس اللساني هو دراسة وصفية للغات واللهجات الحية والمستعملة وتوزيعها على الخريطة الجغرافية، أو أنّه عملية مسح جغرافي ميداني للغة من اللغات تساعد الهيآت الرسمية في اتخاذ القرارات السياسية والتعليمية والاقتصادية والإستراتيجية المناسبة.
وتعود فكرة صناعة الأطالس اللسانية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عند الغرب، متمثلة في التجربتين الألمانية بزعامة فنكر، ونظيرتها الفرنسية بزعامة جيليرون. أمّا في الوطن العربي فقد عرفت هذه الصناعة ظهورا متأخرا قياسا مع نظيراتها.
وقد تجسّدت الأطالس اللسانية عند بداية ظهورها في خرائط ورقية تضمّ بيانات ومعلومات وتأويلات لغوية تبرز أهمّ الظواهر اللغوية. ثمّ شهد هذا النوع من العمل تطورا ملحوظا في العالم و خاصّة في أوروبا خلال القرن العشرين، ووصل هذا التطور إلى قمّته بعد ظهور التكنولوجيات الحديثة، التي وضعت بين أيدي الباحثين في شتى المجالات وسائل وبرامج وتقنيات متطوّرة انعكست إيجاباً على نتائج مختلف العلوم، ومن بينها علم اللسانيات الذي استفاد من هذا التطوّر التكنولوجي الكبير،
وظهرت بموجبه فروع لسانية تكنولوجية وتقنية مزجت بين جوانب متعدّدة: النظري والتقني، ومن هذه الفروع : اللسانيات الحاسوبية التي مثّلت أرقى صور التقدم التكنولوجي التي وصل إليها علم اللسانيات مستفيداً من هذه التكنولوجيات الحديثة، وعلم اللسانيات الحاسوبية يتكوّن من شقين أساسيين، الشقّ الأوّل يتمثّل في اللسانيات وهو العلم الذي يدرس -كما هو معلوم- اللغات الطبيعية الإنسانية في ذاتها ولذاتها، سواء أكانت مكتوبة منطوقة أم منطوقة فقط..
ويهدف أساساً إلى وصف أبنية هذه اللغات، وتفسيرها، واستخراج القواعد العامة المشتركة بينها، والقواعد الخاصة التي تضبط العلاقات بين العناصر المؤلفة لكل لغة على حدة، والشقّ الثاني يتمثّل في الحاسوبية، التي تعتمد على توظيف الحاسوب، وما يتعلّق به من برامج وتقنيات حديثة، وما يحويه أيضاً من إمكانات رياضية خارقة، وسعة تخزينية هائلة، في خدمة اللغة؛ كما يمكن القول إنّ اللسانيات الحاسوبية فرع تطبيقي حديث، يستغل ما توفره التكنولوجيا المُتطورة من أجل بلورة برامج وأنظمة لمعالجة اللغات الطبيعية معالجة آلية.
وقد انعكس هذا التطور إيجابا على عمل الأطالس اللسانية وجعل البحث في هذا الميدان يتجاوز مرحلة المنتوج التقليدي الورقي إلى مرحلة المنتوج الرقمي ، وهذا الأخير يتميّز عن نظيره الورقي بمجموعة من الخصائص أهمّها اشتماله على قاعدة بيانات لسانية، أو لوحة قياسية لمعالجة المعطيات اللسانية، والولوج إليها بطريقة سلسة حركية وتفاعلية، وبأشكال متعدّدة.
كما طوّرت هذه التكنولوجيات الحديثة طريقة تصميم الأطالس اللسانية وإنجازها من حيث الوقت والجهد والجودة والنوعية. و للعلم فقد ظهر هذا النوع من الأطالس اللسانية الرقمية في بداية الثمانينات من القرن الماضي عند الغرب، حين أنجز الباحثان ماك دافيد وويليام كراتشمر أوّل برمجية للتصّرف في البيانات اللغوية سنة 1983مـ.وفي سنة 1986مـ تمّ تخزين الأطلس اللساني لكورسيكا بالاعتماد على قاعدة بيانات.
وما بين 1987مـ و1992مـ تمّ تجميع الأطلس اللساني لإقليم الباسك بواسطة الحاسوب، من خلال إنجاز برمجية قاعدة بيانات وخرائط إلكترونية. وأمّا في البلاد العربية فيمكننا أن نذكر في هذا المقام التجربة التونسية التي تمكّنت في الفترة ما بين 1997مـ و2000مـ من إنجاز دراسات حول الأطلس اللغوي التونسي، كما تمّ من خلال هذه التجربة تطوير برمجيات معلوماتية تحتوي على بيانات لغوية في شكل قاعدة بيانات أكسس Access بسيطة في شكل مدوّنات لفظية.
بالإضافة إلى التجربة المغربية السائرة في هذا الاتجاه. ونظرا للأهمية الكبيرة التي يكتسيها هذا الموضوع ارتأت وحدة البحث اللساني وقضايا اللغة العربية في الجزائر بورقلة التابعة لمركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية بالجزائر تنظيم الندوة الدولية الموسومة بـ: “الأطلس اللساني الرقمي: من التصميم إلى الإنجاز”. وقد انطلقنا في معالجة هذا الموضوع من الإشكالات الآتية:
– ما هو مفهوم الأطلس اللساني الرقمي؟ وما هي أهمّ خصائصه؟
-ما هي أهمّ التجارب الغربية والعربية الرائدة في هذا المجال؟
– ما هي مراحل تصميم الأطلس اللساني الرقمي وإنجازه؟
– ما هي أهمّ النتائج التي توصّلت إليها أبرز الدراسات والأبحاث في هذا المجال؟
– ما هو مستقبل الأطلس اللساني الرقمي للغة العربية في العالم العربي عموما وفي الجزائر على وجه الخصوص؟