الدراسات اللغوية

لغة الإرسال الإشاري بين الطوفان وبرج بابل

يُرجّع بعض الدارسين حالات الصراع اللغوي أو الازدواج اللغوي إلى فرضية اللسان الواحد وأصله في الأسطورة البابلية التوراتية، إذ حدث التبدد وتعدد الألسن بعد أن نزل الرب إلى البرج العالي الذين بناه العائدون الناجون من الطوفان، متخذين أرض شنعار ملاذاً لهم بعد أن تركوا جبل أرارات خلفهم.


كان التوحيد اللغوي وفكرة الشعب الواحد واللسان البشري الواحد، هي بداية الصراع مع التعدد الإلهي، وانفعالات الآلهة المدمّرة، غير أن استئناف مسير العائدين من الطوفان وتواصلهم الإنساني عبر التاريخ، قلب الفكرة تماماً، ليصبح التعدد اللغوي مجالاً أيديولوجياً للتوحيد الإلهي.

وبذلك فإن سلطات المجتمعات وقوى الهيمنة في ما بعد الطوفان منذ القدم وحتى الآن «لم تكن متسامحة بما يكفي مع مسألتي الازدواج اللّغوي والتعدُّد اللّغوي، إذ كانت ولمّا تزّل تتغذَّى على أيديولوجية التوحيد القائمة على أسطورة بابل» («مجلة الدوحة»- العدد 110 ديسمبر/كانون الأول 2016- ملف الحروب اللغوية وموت اللغات- مواجهة صامتة- وئام المددي».

كأن المجتمعات الناجية من الطوفان، دخلت في طوره الثاني عبر التبدد اللغوي والانهيار الرمزي لبرج بابل، لكنها استعارت الأحادية اللغوية في بناء الحضارات وترسيخ ثقافة السيطرة على لغات الآخرين، لتغدو حصيلة الصراع القومي أحد الأشكال اللسانية الأساسية النابعة من الأحادية السماوية.

ووفق هذا، فإن المصدر اللغوي للظاهرة الاجتماعية هو المصدر الاجتماعي نفسه للظاهرة اللغوية، سواء كانت أحادية أو تعددية، وإذا كان الصراع في لغة بابل لشعب واحد مع أرباب متعددة، ترافقه صفة التشاور والإيحاء والشراكة، فإن الصراع الجديد، يأخذ الصفة الامبراطورية الكاسحة لبناء القوة وغلبة الآخر، كنسق مستقى من اللغة التوحيدية داخل الظاهرة الاجتماعية، أو من الظاهرة الاجتماعية داخل اللغة.

كانت اللغة البابلية هي الحاجز الفاصل بين خلق العالم الجديد والتحول التدريجي نحوه، في الوقت الذي بلغ التحول والتجدد الظاهرة اللغوية نفسها، وانتقل التهديد والخطر من الظاهرة الاجتماعية إلى الظاهرة اللغوية. إذن يبدأ التاريخ اللساني المفترض للغة البشرية الأم من ترجل الناجين من جبل أرارات إلى أرض شنعار.

إن هؤلاء الناجين المفعمين بالطاقة البدائية الأولى بعد الطوفان، لم يعودوا من هول المياه النازلة التي غمرت العالم وقضت على الكائنات جميعاً حسب، بل هم إزاء فكرة الجدب الأعظم الذي حلّ في الأرض وخوفهم المتأصل من تجدد الطوفان، والبحث عن فهم لغوي يعبرعنه، لكي تستقيم على نحو معين رؤيتهم للعالم الجديد ما بعد الطوفان والانسجام معه، في الوقت الذي سيسجل نساخ المسماريات، عودتهم ليتفقوا على حلولهم في مكان محدد، ويختلفوا في تعيين الأزمان، لكنهم في أي حال، سيحددون صراعاً لغوياً جديداً بوصفه أداة فعّالة، يبدأ مع مطلع العالم الجديد، فيما سيعمل على تفعيل النظام الإلهي الخامد ثانيةَ، لأن الآلهة، شعرت بارتكاب الخطيئة ضد البشر.

وإذا كان نساخ المسماريات السومريون والبابليون، يؤكدون في أخبارهم عن الطوفان تفاهة الانفعالات والتوترات الإلهية المدمّرة، التي تستخدم الرياح والمياه الهائلة لقتل البشر بسبب كثرتهم وضجيجهم المزعج للآلهة، فإن المدّون التوراتي، انتقل بالفهم اللغوي إلى تصوّر سردي مختلف تماماً، تعقيباً إثر اكتشاف العقدة الإبراهيمية التي تقلب الخطيئة الكونية في الأعالي وتتجه بها من السماء إلى الأرض.

وبذلك فالصراع اللغوي لدى الناسخ السومري مع الإنسان ضد خطيئة الآلهة المعترف بها من قبلهم «واقترف إنليل خطيئة بحق البشر» فيما النزاع اللغوي عند المدوّن التوراتي، يقف ضد البشر بوصفهم أصحاب الخطيئة، وأعاد دور السيطرة والتمكّن للقوة الإلهية من خلال إلقاء اللائمة على الإنسان وحكاية طرده من الجنة.

كانت اللحظة التي عاد فيها الناجون، لحظة غير إلهية بالمرّة، وتملك طاقة تحرر نسبية لقول شيء ما، وكشف علاقة تطورية في قصة الخلق، فلم تعد الآلهة بتلك الفعالية الطبيعية لها من السيطرة والتمكّن من البشر، لأنها تحاول الآن استعادة وضعها التقليدي واستجماع طاقتها المضيّعة في الطوفان، بعد أن أصابها الذعر من هول ما فعلت، ما جعلها تهرع إلى سمائها الأخيرة العالية جداً.

يصف الناسخ البابلي الآلهة المذعورة بعد انحسار الطوفان بالقول «ملأوا أحواض السقي وكأنهم أغنام، وكانت شفاههم محمومة من العطش، وكانوا يتضورون من الجوع». إنها اللحظة الفريدة في التاريخ التي جعلت الرافدينيين، يستجمعون فهمهم اللغوي للتعبير عن العالم بوضوح ليقولوا لبعضهم، يا ناس العالم، أيها العائدون من الطوفان، اتحدوا قليلاً لبناء برج بابل.

لأنكم لا تخسرون «شيئاً سوى أعباء الآلهة» التي تتدافع الآن مثل الأغنام على أحواض السقي لتنال القرابين، فكانت لحظة التفكير ببناء البرج لغوية بامتياز، تمنح للبشر حق التسمية والعمل، واكتشاف التاريخ على نحو أرضي بعيداً عن القوى الماورائية المتحكّمة، وفي الوقت ذاته تعلو على حماقات الآلهة.

ولحظة تدمير البرج من قبل الرب في بلبلة الألسن، هو استجماع لطاقة الآلهة ثانية، وهو تبديد وتشتت اللغة الكونية لشعب واحد كشكل لساني للغة السماء، التي يرويها مستعادة ويتكلم بها البشر، وهي نذر الطوفان اللغوي الرمزي الثاني ذو الطبيعة البشرية الجديدة التي كانت ضامرة قبل الطوفان المادي الأول.

إن فكرة بناء البرج نفسها، كانت معكوسة في مداركهم في عالم ما قبل الطوفان، وفي ظل سيطرة الآلهة عندما ابتنوا الزقورات خشية من هياج النهر السنوي، أو صنعوا سفينة الإنقاذ من الطوفان على شكل زقورة عائمة.

«كانت سفينة النجاة التي صنعها رجل الطوفان على شكل مكعب منتظم له سبعة طوابق، وكانت تشبه زقورة عائمة، وهذا الشكل للسفينة الذي سماه الكاتب البابلي بحق «منقذة الحياة» ذو مدلول خاص، ففي سهل منبسط مثل وادي الرافدين، تعتبرالمناطق المرتفعة كالزقورات والتلول والجبال المأوى الوحيد الذي يلتجئ إليه الناس عندما يداهمهم خطر الفيضان، وبتعبير آخر فإن شكل سفينة الإنقاذ البابلية، إنما يعكس حقيقة كان يعيشها الأقدمون أيام الفيضانات الهائلة».(«الطوفان في المراجع المسمارية» فاضل عبد الواحد).

هؤلاء الناجون خالون تماماً من عقدة الخطيئة ولم يطردوا من الجنة، ولهم صورة خيالية، يجسدون فيها اللحظة البشرية الخالصة المكتشفة الآن والتي تُشبه لغة المحتشدين لاستقبال كلكامش بعد عودته إلى أوروك مع أنكيدو وقتلهما خمبابا، ومن ثم مواجهة عشتار وقتل ثور السماء.

بعد أن نحرا (كلكامش وأنكيدو) ثور السماء، اقتلعا قلبه
ووضعاه أمام الإله شمش
صعدت الإلهة عشتار فوق سور أوروك ذات الأسوار،
وأخذت تنط وتطلق مناحة

(«ملحمة جلجامش»- ترجمة وتحليل النص الأكدي- اللوح السادس- دار الخريف للنشر والتوزيع- 2006).
إن لغة المحتشدين الآن، تمتلك طاقة تحرر نسبية لقول شيء ما، تحتفي بالرؤية الجديدة لانتصار كلكامش وأنكيدو وتمظهراتهما البشرية والطبيعية على التمظهر الإلهي الذي تسيطر عليه الربة العظمى عشتار.

لقد عاد كلكامش وأنكيدو فاشلين في الحصول على عشبة الخلود، إلا ان المحتشدين لاستقبالهما على أسوار أوروك، يجسدون انتصار الشكل اللساني الجديد بين التصور الإلهي السابق وانتقاله التدريجي إلى الشكل اللساني الطبيعي والبشري.

لهذا سوف يستمر مهرجان الأعياد السنوية في أوروك على نحو جديد بعد انتصار كلكامش البشري وانتصار إنكيدو الطبيعي، وتوليد شحنة جديدة رمزية لطاقة السلام الحيوي نواتها الإنسان، فلم تعد الأعياد السنوية إلهية خالصة، كما كانت، مركزها عشتار ومحيطها رؤية انبعاث تموز النيساني.

وعشتار رمز الخصب والفناء في فترة ما قبل الطوفان، وهي شكل لساني إلهي سوف ينحسر شيئاً فشيئاً في فترة ما بعد الطوفان، ليحل محله شبه الإلهي البشري والطبيعي متمثلاً في كلكامش وأنكيدو، وبهذا سوف يسجل الإرسال الإشاري الجديد متغيراً، يقيم حده الفاصل ليس صراع كلكامش وخمبابا حسب، وإنما صراع كلكامش مع عشتار وقتله ثور السماء.


محمد خضير سلطان: كاتب عراقي

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى