اللغة، كما الرياضيات، مجموعة من الرموز المجرَّدة التي تُستخدم لتوصيف حالة معيَّنة من أجل الوصول إلى المعنى. ولكن اللغة نظامٌ حيٌ ومتطوَّرٌ ومرتبطٌ بعمليةٍ فكريةٍ غير ثابتةٍ تعبيرياً ولغوياً، والفكر في حالة تغيرٍ دائم.
بينما لغة الرياضيات مصطنعةٌ لا تقبل الالتباس وتعدّد المعاني التعبيرية. فهل باستطاعتنا احتساب اللغة بشكل يجعل الذكاء الاصطناعي قادراً على قياس التعابير اللغوية المتغيرة؟
- علاقة قديمة بين اللغة والرياضيات
اللغة ضرورية، مهما كانت العلوم التي سنوصّفها أو نعالجها من خلالها، ومن المهم التمكن منها كتابةً بشكل أساسي. وإذا كان بعض العاملين في مجال العلوم يعتقدون عكس ذلك،
فإننا الآن في مرحلة تحتم علينا معرفة اللغة بشكل سليم لنقل أعمالنا بصورة تسمح للآخرين بفهم ما نقوم به، وهذا من الضروريات لتبسيط العلوم. هذا فيما يتعلق بالعلوم بشكل عام، ولكن ماذا عن الرياضيات والحساب؟
بحسب أبو بكر خالد سعد الله، فإن الرياضي الفرنسي لوران لافورغ، الذي حاز في العام 2002م ميدالية فيلدز في الرياضيات (المعادلة لجائزة نوبل)، وتميّز بموقفه في ربط مسألة التحكم في اللغة بالنبوغ في الرياضيات، تساءل عما إذا كان التحكم بالعلوم مرتبطاً بالتحكم باللغة؟
وتصبح الأمور أصعب عندما يكون العاملون باللغة غير ملمّين بها؛ لأنها الأساس في تكوين الفكر وتوصيفه. فالعلاقة بين اللغة والرياضيات قديمة قدم علم المنطق، لأن الرياضيات تقوم على قواعد منطقية، كما يوضح أرسطو.
والقواعد هي عملية حسابية تتبع مقياساً محدَّداً كي تكون مفهومة، كما أن الرياضيات عبارة عن قواعد تكتب على صورة معادلات لبرهنة مسألة معيَّنة، بالاعتماد على رموز ترتبط في ما بينها بعلاقات من أجل هدف، باتباع ما يسمى في المنطق بـ”الاستدلال”.
وإذا أخذنا القواعد العربية وتصريف الأفعال، فإنها مجموعة من القواعد الحسابية الثابتة، ولكن هل هذا يعني أن البارع في الرياضيات بارع في اللغة والتعبير؟
- لا فصل للفكر عن اللغة
إذا كان ما هو شائع أن الرياضيات تساعد العلوم كافة صحيحاً، وأنها أيضاً أداة لهذه العلوم، وخصوصاً العلوم التجريدية، فماذا عن تمثيل اللغة الطبيعية، التي هي عبارة عن رموز مجرَّدة، كما هو الحال بالنسبة إلى الرياضيات كلغة مكتوبة مجرَّدة؟
من نافل القول أن لا فصل للفكر عن الحساب، ولا فصل للفكر عن اللغة. ومن الناحية التعبيرية، خارج رموز الرياضيات، فـإن استخدام الحساب في اللغة الطبيعية شائع، وهـو أمـر طبيعـي.
كما أن القدماء كتبوا الشعر رياضياً، وكتبوا الرياضيات شعراً، فالبعض عند العرب كتب الشعر حسابياً والهندسة شعراً وغيرها، إضافة إلى علم العروض والأوزان وغيرها، فهل اللسانيات الرياضية جزء من الرياضيات؟
وعلى الرغم من وجود تقارب، إلاَّ أن الرياضيات لم تحل حتى الآن كل القضايا اللغوية. ولكنها حاضرة فيها، ذلك أن كل اللغات تستخدم مصطلحات حسابية في التعبير والتوصيف (دائري كالقمر، الطريق مستقيم…)،
كما يوجد في الحياة العامة ما يُعرف بـ”المجموعات”، كالعائلة التي هي مجموعة مؤلفة من أفراد ينتمون إلى فلان…
- “المتغير” وصناعة المنطق
وتوجد في اللغة إشارات كتابية تعبّر عن أجزاء الكلام وتحدِّد شكلاً من أشكال الحساب، كالأرقام التي ساعدت في وضع القواعد اللغوية واستخدمت في كتابة لغة الجبر، كما في كتابة المنطق الرياضي. وفي الهندسة أيضاً، تستخدم حالياً في التعبير البياني للنحو أو في علم البيانات.
ثم إن الرياضيات تستخدم في حساب التواترات الصوتية وقياسها للتعرف إلى البصمة الصوتية للأفراد، والرياضيات تمثل التفاضل والأعداد السلبية… أما اللغة، فقد بقيت محدودة في ذلك.
المنطق يعطي القوانين وكتاباته الرمزية تساعد في شكلنة اللغة أيمكن للرياضيات أن تُمثِّل اللغة المتغيرة باستمرار؟ هذا هو السؤال الأساسي، لكون الفكر في حركة دائمة يُعبّر عنها بالرموز الألفبائية.
أما الرياضيات، فهي ثابتة لناحية المعادلات، بالرغم من استخدامها لما يسمى “المتغير”. ولكن بإمكاننا أن نتساءل: هل يوجد داخل اللغة بنية بالمعنى الرياضي؟
إن البنية هي العناصر والعلاقات التي تربط فيما بينها. والعلاقات متعدِّدة (يساوي، وأكبر، وأصغر…)، كما أن العلاقة مفهوم رياضي محدّد يُعبّر عنه أحياناً بجمل منطقية (الاستبدال والتركيب).
وبعيداً عن القيم العددية للحروف الأبجدية: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ، فاللغة للفكر كالأرقام للحساب، كما أن دراسة اللغة مهمة لفهم المشكلات الرياضية.
لقد اهتم العرب كثيراً بعلم المنطق، وهو، كما كان في زمن الفلاسفة القدماء، أداة للقياس، ولكن من دون أن يكون محدَداً برموز رياضية، كما عبَّر عنه الفارابي في كتابه “إحصاء العلوم عند الفارابي”.
إذ يقول إن “صناعة المنطق تعطي جملة من القوانيـن التي من شأنها أن تُقوّم العقل وتسدّد الإنسان نحو طريـق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات، والقوانين التي يمتحن بها في المعقولات ما ليس يؤمن أن يكون قد غلط فيه غالط.
- “المنطق يعطي القوانين”
فالمعقولات أشياء لا يمكن أن يكون العقل غلطاً فيها أصلاً، وهي التي يجد الإنسان نفسه كأنها فطرت على معرفتها واليقين بها، مثل أن الكل أعظم من جزئه، وأن كل ثلاثة هو عدد فرد، وأشياء أخرى يمكن أن يغلط فيهـا ويعـدل عن الحق إلى ما ليس بحق.
وهي التي من شأنها أن تدرك بفكر وتأمل، عن قياس واستدلال، ففي ذلك دون تلك يضطر الإنسان الذي يلتمس الوقوف على الحق اليقين في مطلوباته كلهـا إلى قوانين المنطق”.
وهذه الصناعة، كما يقول، تناسب صناعة النحو، ذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات، كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ، وكل ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائره في المعقولات… وتناسب أيضاً علم العروض، فإن نسبة علم المنطق إلى المعقولات كنسبة العروض إلى أوزان الشعر.
إن القوانين المنطقية هي آلات يُمتحن بها في المعقولات… وتشبه الموازين والمكاييل التي هي آلات يمتحن بها في كثير من الأجسام… كالمساطر يمتحن بها في الخطوط (الكالبركار)، والبيكار الذي يمتحن به في الدوائر.
ويرى الفارابي أنّ القول الذي من شأنه أن يصحــح رأياً ما يسميه القدماء “القياس”، كان قولاً مركـوزاً في النفس أو خارجاً بالصوت.
إذاً، إن “المنطق يعطي القوانين”، والقياس المنطقي عند الفارابي علم لا ينحصر بفكر محدد أو لغة، إذ يعطي مثالاً أن النحو هو قياس للغة معينة تخص ألفاظ أمة ما، أما المنطق فيعطي قوانين مشتركة تهم ألفاظ الأمم كلها.
كما أن الكتابات الرمزية لعلم المنطق الرياضي تساعد في شكلنة اللغة وتمثيلاتها بالرموز الرياضية التي من الممكن أن تبرمج حاسوباً، والمنطق الرياضي في هذه الحالة هو نموذج للقياس، يهدف إلى بناء نماذج رياضية تستخدم في حل المسائل اللغوية، فالمنطق الرياضي حوَّل المنطق الفلسفي من نموذج وصفي إلى نموذج معياري يحدِّد الثابت والمتغير في المعادلات الرياضية.
- إمكانية تمثيل اللغة رياضياً؟
والسؤال هنا: هل باستطاعتنا أن نمثِّل اللغة وتصوراتها الدلالية والتركيبية والصرفية بشكل رياضي؟ فعلى سبيل المثال، لو أردنا أن نحدِّد للحاسوب جذر الكلمة حاسوبياً في اللغة العربية، من الممكن الاعتماد على القواعد اللغوية للجذر الثلاثي، كالأفعال الثلاثية الصحيحة على وزن “فعل” مثلاً.
وإذا أردنا أن نحدِّد الجذر من كلمة “يكتب”، فإن الثابت في هذه الحالة هو الياء المتصلة في أول الكلمة. أما المتغير فيها، فهو “ك” و”ت” و”ب”، وبذلك من الممكن بناء قاعدة رياضية حسابية على أساس أن الياء ثابتة والميم “م” متغيرة، فالمعادلة ي+ م1 + م2 + م3، ستحدِّد لنا كل الأفعال على وزن فعل، مثل أكل –> يأكل، ذهب –> يذهب..
ولكن ما تعجز عنه هذا المعادلة، أنها لا تنطبق على الأفعال المعتلة (نام، دعا، كوى…)، والأفعال التي تحتوي أحرف مدمجة، من مثل “وعد”، هل هي واو + “عد”، أم أنها كلمة “وعد”؟ هنا، تصبح الحلول الرياضية أكثر تعقيداً وتقعيداً.
- “المنطق المستمر”
الاختلاف في كتابة الكميات بين اللغة والرياضيات، وتستخدم الرياضيات نظام الأهاليل ((()))، وخصوصاً بما هو متعلق بالإسناد الجزئي والإسناد الكلي. وقواعد المنطق الرياضي التي تسمح بالتمثيل الشكلاني للجملة للتعرف إلى دلالاتها، من الممكن الاعتماد فيها على معادلات منطق القضايا، على سبيل المثال:
“أكل الأطفال البيتزا”: هل أكل كل الأطفال بيتزا واحدة أم أن كل طفل أكل بيتزا مختلفة وحده؟ هذا التمثل نعتمد به على رمز محدد الكمية العام ∀ ورمز محدَّد الكمية الوجودي ∃.
∀ (س) (طفل (س) ⇦ ( ∃ ص بيتزا (ص) ∧ يأكل (س، ص)))
∃ ص بيتزا (ص) ∧ ∀ (س) (طفل (س) ⇦ يأكل (س، ص)))
إن الرياضيات فشلت حتى الآن في كتابة الكميات، لأنها في اللغة أكثر بكثير مما يعبّر عنه بـ”يوجد” (∃) و”مهمــا كان” (∀)، بل تتعداها إلى كلمات من الصعب تمثيلها، من مثل “مُعظــم، و”كثيراً”، و”قليلاً”… فالمفردات الكمية متعدّدة المعاني أيضاً ولا يمكن حصرها.
كما أن الأرقام أيضاً غير محدَّدة، على سبيل المثال في جملة: “وضع 3 نقاط من الدواء في 3 ملاعق كبيرة”، فهل نضع 3 نقاط في ملعقة أم نقطة في ملعقة؟ أما في الرياضيات، فيُعبّر عن ذلك بـ: 3*3 = 9 نقاط. ولا يمكن للرياضيات أن تمثِّل الاعتقاد والظن، مثلاً: “يعتقد مسؤول المركز أن أحد أعضاء المركز جاسوس” في الدلالة الشكلانية، فهل يظن المسؤول أن غسان جاسوس؟ أو هل وجد المسؤول تسجيلاً من العدو في المركز؟
كل ذلك يتعلق بما يسمى الدلالة الشرطية بحسب علامات الصح أو الخطأ. وتحدد معنى الجملة انطلاقاً من مجموع الشروط التي نَعِدُّها “حقيقية”، أي تصنيف الحالة التي من الممكن أن تكون فيها صحيحة.
كما يوجد ما يسمى “المنطق المستمر”، وعليه أن يعتمد قدر الإمكان على نموذج قريب من النموذج التعبيري الطبيعي، وأن يكون على قدر كافٍ متكامل، وهذا ما تم اعتماده للجمل البسيطة التي لها تمثيل “صح” أو “خطأ”، والتي تتمثل من خلال الجبر البوليني، فالعبارة صحيحة دائماً مهما كانت القيم التي نعطيها للمتغير في القضية تبرهن على هذا الأساس.
الحاجة إلى مزيد من العمل على حوسبة اللغة مهما كانت الطرق الرياضية المستخدمة في تمثيل اللغة رياضياً، فما زالت هذه النماذج غير مستقرة، والنتاج الوحيد يتمثل في جبر الكميات. طبعاً، هذه الحالة تحبط من الناحية العلمية، فما دمنا نريد أن نعالج آلياً كميات كبيرة من النصوص بسرعة.
فإننا لا نعرف كيف سنفسر التراكيب القواعدية التي وضعت لها، ولكن بالنسبة إلى التنقيب عن المعلومات، والحوارات بين الإنسان والآلة، وبرمجيات الترجمة المساعدة للمترجم، فلها بعض النماذج الحسابية للمعنى.
والسؤال المفترض طرحه أخيراً: هل على الرياضيين الانفتاح أكثر على اللغة من أجل بناء نماذج رياضية تجمع بين المنطق والمعلوماتية وتكون وثيقة الصلة بموضوع اللسانيات؟
كما لا بد من الإشارة من جديد إلى أن اللغة، كما الرياضيات، هي مجموعة من الرموز المجرَّدة التي تستخدم لتوصيف حالة معيّنة من أجل الوصول إلى المعنى.
ولكن التباعد يكمن في أساليب التعبير الرمزية البارزة المستخدمة، إذ توجد فروقات متعدِّدة، أهمها، أولاً، أن التوليدات اللغوية من خلال الأحرف الأبجدية غير متناهية.
أما الرموز المستخدمة في الرياضيات فهي متناهية. ثانياً، إن لغة الرياضيات هي لغة مصطنعة لا تقبل الالتباس وتعدّد المعاني التعبيرية، أما اللغة الطبيعية فهي متعدِّدة المعاني والمفردات، ولها عدة مرادفات تختلف بحسب السياق. كل ذلك على الرغم مما يقوله نعوم تشومسكي، الذي يرفض النظريات التي تدّعي وجود فروقات بين اللغات الطبيعية واللغات الشكلانية.
ولو كان باستطاعتنا أن نحسب اللغة لحُلَّت معضلة الذكاء الاصطناعي، ولكن نظراً إلى أن اللغة هي عملية فكرية غير ثابتة تعبيرياً ولغوياً، والفكر في حالة تغير دائم، فسيكون من الصعب علينا حساب كل شيء يقال، على الرغم من أننا لا يمكن أن نتوقف عن تجربة حوسبة ما يمكن أن يحوسب لغوياً.
يجب النظر إلى الخصائص اللغوية على نحو أكثر جدية من أجل الحصول على أنظمة أكفأ، بما أن الأجهزة الرقمية أصبحت تأخذ مكاناً كبيراً في حياتنا، والواجهات في اللغة الطبيعية تسمح بتفاعلات أسلس. ولتحقيق ذلك، فإننا ما زلنا بحاجة إلى العمل على حوسبة اللغة لتطوير حلول فعالة.
حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية