شعر

في توصيف طقس القول

سيظل القبض على  لحظة  انبلاج  فعل الكتابة الشعرية، محفوفا بغموضه، حتى بالنسبة  للشعراء الأساسيين ،رغم الاهتمام الكبير الذي حظيت  و تحظى  به  إشكالية هذا الفعل ، سواء من قبل الفضوليين  المتلصصين على حياة  الشاعر، أو من قبل الكتابات التنظيرية  الجادة و المختصة  ،فضلا عما  يقدمه الشعراء أنفسهم  من  إضاءات تخص تجاربهم ، والتي تكون عادة  في صيغة  إشارات تعميمية وفضفاضة ،  تضاعف عمليا  من  تغميض  دلالة  الإشكال ، و تغييمه.


من ذلك مثلا أن الشاعر ،و من منطلق  حرصه على  إضفاء  ما تيسر  من الهيبة  على تجربته، يقوم  بدمجها  في ما يتعارف  عليه  بطقس الكتابة . حيث بات من المألوف أن يميل بالكلام صوب  الأحوال الصوفية ،دون أن تكون له  بالضرورة أية  صلة روحية أو معرفية بها . فالإحالة  على التجربة الصوفية  غدت بمثابة مسلمة مشتركة ،يستند عليها  كبار الشعراء و صغارهم  ،كلما  دعت الضرورة  إلى  حديثهم عن الأسرار الكامنة  في  انبجاس القول   الشعري .


و في  اعتقادنا  أن  استجارة الشاعر  بالمعجم  الصوفي، يهدف  أساسا إلى التسريع بوضع  المتلقي مباشرة  في  قلب  الهيبة الشعرية ، التي تنصهر ذاته في  برد وسلام  نارها !!. كما تهدف  إلى طي  مسافات سوء  الفهم  الفاصلة  بينهما ، خاصة  حينما  يكون  المتلقي  غير مؤهل  لاستيعاب  أبعاد  الحلول  الشعري و دلالاتها  . تلك التي  تنتاب الشاعر  لحظة  معاناته من مخاض  الخلق . وهي مقايسة ومماثلة قد تكون موضوعية و مقنعة ، في حدود اعتبارنا  لها  مجرد  تمثيل  مجازي،  يستعير فيه الشاعر  توصيفه  لأحواله ،من  مكابدات الطقس الصوفي . 


غير أن الاستجارة  بالمرجعية  الصوفية ، تصبح موضوع  تساؤل/إنكار، حينما يتجاوز  الشاعر حدود  توظيفها  مجازيا ، ليتقمص الذات الصوفية ،إما على  سبيل الادعاء و المزايدة، أو  بتأثير  من  عامل الجهل . و في اعتقادنا  أن الاحتمالين معا واردان ،خاصة  حينما  يتعلق الأمر بتجارب  تفتقر  إلى الحد الأدنى من مقومات القول الشعري والفكري . حيث ما من شيء يحدث داخل  هذا  الادعاء، سوى  البؤس التعبيري  الممعن في ضحالته.


و الحال أن مسار  التجربة  الشعرية ، بمفهومها  العام  و الشامل ،و المجرد من مرجعياته الصوفية المباشرة،  يختلف جذريا  عن  مسار التجربة  الصوفية  سواء  كانت في ذاتها ، أو تلك التي تتخذ هي أيضا  من الشعر  أداة جمالية للتواصل، باعتبار أن كلا من التجربتين “الشعرية ، و الصوفية  الشعرية ”  تمتلك قصديتها الخاصة بها. 


و أستحضر في  هذا السياق التجارب الصوفية   الكبرى، من قبيل  تجربة الحلاج ، و النفري ،و فريد الدين  العطار، و جلال الدين الرومي ،و محيي الدين ابن عربي ، و السهروردي،  و أبي يزيد البسطامي ،و غيرها من  التجارب ، التي تتعرض باستمرار إلى  أشنع الانتهاكات الاستنساخية  الممارسة  عليها دون  كلل يذكر، من  قبل ديدان الكلام .


  فهذه التجارب تمتلك كيانها  النظري و الجمالي الخاص بها ،و الذي ساهمت  في بلورته شروط  تاريخية و ثقافية  و ذاتية جد استثنائية ، و غير قابلة مطلقا  للاستنساخ و للتكرار، أو الاندراج في المقولة  “النتشوية”  المؤكدة  على  فكرة  “العود الأبدي  للشيء ذاته” . 


إنها الأعمال التي أتاحت الفرصة للتاريخ، كي  يعبر بطلاقة  عز نظيرها  عن  أقوى  تمظهرات الجرأة الكامنة فيه ،و المجسدة   في ذلك العشق  الجامح، الذي  يمكن  أن  تمارسه  الذات الخبيرة  بأسرار  إعادة  ترتيب  مكونات المشهد  الديني .  حيث سيكون من  الصعب معها، الفصل  بين  إشراقات منتمية فقط  للحضرة  الشعرية ، و بين  أخرى منتمية  إلى الحضرة الصوفية.


فهما معا سليلتا  رؤية  قداسية  و يقينية  مشتركة . قوامها الانتشاء بخمرة الحلول في الذات  الإلهية ، و الفوز بنعمة  تجليها . كما أنهما معا، سليلتا  اللغة الإشارية  و التعبير الترميزي  عن أسرار الباطن ، التي لا يهتدي إليها سوى  الواصل، الذي تكاملت لديه  مقتضيات تعاليم الشريعة  ،بإشراقات الكشف ،و حيث يتساكن كل من العقل و القلب ، على محجة  المصير  البرزخي. 


إن الشعر و التصوف ،و بالنظر لانتمائهما  المشترك إلى  عمق الأزمنة القديمة ، يحاولان كل بمنهجيته الخاصة ، الاقتراب ما  أمكن  من حقيقة  الوجود . و إذا كانت  النزعة الصوفية  بتوسلها  لثوابت الشريعة ، قد انتهت  إلى  تقديس و تجلية  الحقيقة  الواحدة  التي لا  معادل  لها  سوى ذاتها ، فإن الشعر المتحرر  من أية قناعة فكرية أو روحية  مسبقة ، استمر خلافا لذلك ، في تقصي أثر الحقيقة  ضمن لا نهائية  تعددها  وتنوعها .

و في حالة ما إذا نحن اعتبرنا أن  سؤال البحث هو الخيط  الناظم  بينهما ،إلا أنهما  مع ذلك ، لا يلبثا أن يفترقا ليستقل كل منهما  بصيغته البحثية  و غاياتها . ما  يدعونا إلى  تجديد إعادة  النظر  في إواليات طقس الكتابة  الشعرية، ضمن قوانينها الخاصة  بها ، بدل نزوعها العشوائي إلى الحديث بلسان صوفي ،لا تربطه أية صلة بطبيعتها .


ولعل أقرب السبل إلى ذلك ،هو  الثقل الترميزي  و  الدلالي الذي  تحفل  بهما مدونة  المعجم  الصوفي ككل، مقارنة مع المدونة  الخاصة  بهوية الشعر ،قديما  كان أو حديثا . و هي مقابلة  تضعنا  أمام  مفارقة صارخة ، ينحفر معها  شرخ إجرائي  بين المجالين ، دون أن يحدث  بالضرورة القطيعة المتوقعة  بينهما . حيث  سنلاحظ  أن  تلمس  المريد  لطريقه  في أحراش التجربة  الصوفية،  يقتضي منه مجاهدة  مزدوجة  دقيقة  و عميقة ،قوامها  الجمع  بين الحد المعرفي و العرفاني .


حيث أن الأمر يتعلق  بحتمية  تملك خارطة  طريق، تتميز  شعابها و مدارجها بكل  مستويات  التعقيد  الدلالي و الإشاري . ما يعني تحولها في نهاية  المطاف  إلى  متاهة  حقيقية ، يكون أغلب المسافرين  أو المقيمين فيها ،عرضة  للضياع  و الفقد ، حيث لا أمل في حلول ، أو مشاهدة  أو وصال ، عدا  سراب الوهم  الذي يستدرج كلا من السالك و الواقف إلى خرائبه . ويكفي  أن نتأمل   بعض  علامات  السفر  المعراجي / المتاهي ،التي  ينثرها أمامنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كي نتأكد  من  سمك  و صلابة حائط  الاستحالة  الذي ينتصب بيننا و بين  أمل الوصول .


و الجدير بالذكر  أن  ”علامات/مصطلحات “الشيخ التي  نستأنس بها  في هذا السياق  من قبيل-  مقام السوا . الفهوانية. العيد .حجاب العزة . المطلع. ملك الملك. عالم الملكوت . عالم الملك . عالم البرزخ. أرين. اللب . لب اللب. اللسن. كلمة الحضرة. الحد القدم . الكرسي. العرش، و التي ليست سوى غيض من فيض، تنيف مصطلحاته عن  مائة و خمسين مصطلحا ، يحتاج شرح كل واحد منها  إلى  ما لا يكفي من الصفحات ، بفعل ما يمكن أن يطالها من تحليل و من تأويل ، فضلا عما لا يحصى من اللوامع المتوزعة على مظان مصنفاته .


و  الغاية من  استحضارنا لها ، هو التأكيد على  استحالة  الإيفاء بالشروط المثالية  المتوخاة  من قداسة  السفر الصوفي ، و ذلك بالنظر لتمنع  دلالتها  على الذوق البسيط ، فضلا  عن تمنع احتمال معاينة إشاراتها، حتى بالنسبة للراسخين في  العلم،  والملمين بأسس المعارف الذوقية ،  لما تتميز به   من تجريدية  مطلقة ، و من غموض  لا قبل  للرؤية التسطيحية باستكناه لطائفه .


حيث  يمكن اعتبار كل واحدة منها بمثابة  مجرة  دلالية، تغص بأسرار كواكبها  و نجومها، لنكون مدعوين في نهاية  المطاف  إلى تجديد استغرابنا من كل  تصريح شعري، يلح على موضعة حالته  في قلب الطقس الصوفي ، دون أن تكون له أية دراية جمالية  أو عرفانية  بعوالمه. 


رشيد المومني:  شاعر و كاتب من المغرب

رشيد المومني

شاعر و كاتب من المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى