شعر

الأمسيات الشعرية.. هل مضى زمنها؟

بالمقارنة مع الوقت الذي كان فيه التدافع على أبواب المراكز الثقافية الضخمة لأجل حضور أمسية شعرية، أمرًا عاديًا، يقتصر الحضور الآن في أفضل حالاته على العشرات وغالبيتهم من أصدقاء الشاعر وعائلته.


لو اتخذنا فلسطين كمثال في تلك المقارنة، فالمرحلة الذهبية للحراك الثقافي فيها امتدت إلى عدة أعوام بعد دخول السلطة الفلسطينية، وتمّ تنظيم أمسيات ضخمة لبعض العائدين من القامات الشعرية الفلسطينية، مثل الشاعر الراحل محمود درويش، الذي وفي آخر أمسياته التي أقيمت في قصر رام الله الثقافي ورافقه فيها الثلاثي جبران، وقف أمام حضور اقترب من الألف.


وهذا ما حدث في أمسية الشاعر تميم البرغوثي التي نُظمت في ذات المكان الذي تتسع مقاعده لسبعمئة شخص، وعجزت وقتها الشرطة عن ضبط التدافع الشديد على الأبواب، واضطر بقية الحضور للجلوس على الدرج بين المقاعد.

امتدت تلك المرحلة لما بعد تلك الأمسيات الضخمة، مع بدء النشاطات الثقافية التي توزعت على عدة مراكز ثقافية، أذكر منها متحف محمود درويش الذي استضاف العديد من الشعراء والكتاب العرب والفلسطينيين الذين تمكنوا من دخول فلسطين بإذن خاص تلبية لدعوات وجهت إليهم من قبل إدارة المتحف، وعلى هامش فعاليات ثقافية مكثفة ومتوالية، احتفت فيها المدينة بقامات فلسطينية وعربية كان من الحلم بمكان تصور اللقاء بهم وحضور أمسياتهم، بالإضافة إلى شعراء فلسطينيين مقيمين ومكرسين وشعراء من الشباب الذين أثبتوا حضورهم أمام المنصة التي وقف خلفها كبار الشعراء.

إذًا ما الذي حدث بعد تلك الفترة وما الذي تغيّر في الوقت الراهن ليضطر بعض الشعراء لإرسال الدعوات والتذكير بمواعيد أمسياتهم عبر البريد الإلكتروني آو الواتساب، ليضمنوا إشغال الصف الأول من القاعات الصغيرة التي تقام فيها الأمسيات، بعد أن كان مجرد الإعلان عن تذاكر أو دعوات لحضور أمسية شعرية يعني نفادها؟

تراجع حضور الأمسيات الشعرية في فلسطين هو مجرد مثال وقد لا ينسحب على الأقطار العربية الأخرى، وقد يتباين أيضًا بين مدينة فلسطينية وأخرى، لكن المشهد الشعري بشكل عام لم يعد كما كان عليه قبل بضع سنوات.


قد يكون تغيّر نمط الحياة واحدًا من أسباب تراجع الحضور لكن لا بد من البحث في أسباب أخرى مثل الخلاف حول الشعر، إن كان صالحًا للاستماع أو للقراءة على الورق فقط، وحول الشاعر إن كان يمتلك بالإضافة إلى موهبة نظم الشعر موهبة الوقوف أمام الحضور.

لنبدأ بالحديث حول الشاعر، فلا شك في أن اسم الشاعر وشهرته وتجربته وحضوره، هي الأسباب الأهم لنجاح الأمسية الشعرية، وقد يكون اسم الشاعر وحده كفيلًا باستقطاب حضور طوعي للاستماع له، لكن لو ابتعدنا قليلًا عن هؤلاء الشعراء بشفاعة الأسماء والشهرة، فكيف لشاعر أن يرسّخ اسمه في ذاكرة الحضور ويدفعهم لانتظاره في أمسية أخرى؟

هل كل شاعر يملك موهبة الوقوف أمام الحضور؟ وهل يكفي لو تمتع بأحد أسباب ذلك الوقوف، كجودة النص مثلًا، لأن يأسر المستمعين؟


الشاعر هو من ينظم الشعر، لكن هل كل شاعر يملك موهبة الوقوف أمام الحضور؟ وهل يكفي لو تمتع بأحد أسباب ذلك الوقوف، كجودة النص مثلًا، لأن يأسر المستمعين ويجذبهم لجمالية القصيدة ووزنها إن وجد، دون أن يمتلك الأسباب أو الأدوات الأخرى، كالصوت والهيئة والتمكن من مخارج الحروف، وإظهار الموسيقى الداخلية للنص بحيث يصبح صالحًا للاستماع لا للقراءة فقط؟

يقول الشاعر عصام السعدي في مداخلة له حول هذا الموضوع: الأمسية الشعريّة خلطة سحريّة، لا يجيدها كلّ شاعر، ولا يجيدها كل منظّم للمهرجانات والأمسيات الشعرية، وموهبة الوقوف أمام الجمهور، ليست رديفا أوتوماتيكيا لجودة النصّ، بل هي موهبة خاصّة، بحدّ ذاتها، وقُدرات، عليك التأكّد من امتلاكها، قبل أن تتخذ قرارا بدعوة الناس إلى أمسية شعريّة، تكون أنت بطلها، سيهزّ الجمهور المؤدّب رأسه لك – بمجاملة اجتماعيّة – بما يرضي غرورك،  لكن عليك أن تكون متأكّدا، أنه سيلعن تلك الساعة، التي قضاها في عقوبة الاستماع إليك، وأنت تخذله في الحصول على لذّة ومتعة كنتَ قد وعدته بهما.


وفي مقلب آخر وبعيدًا عن مسؤولية الشاعر بنجاح أو فشل أمسيته، تتباين الآراء حول القصائد التي تصلح للاستماع وتلك التي تصلح للقراءة فقط، فالبعض يؤكد أن قصيدة النثر صالحة لأن تُقرأ على الورق فقط، وأن الأمسيات الشعرية وجدت لأجل القصيدة الموزونة، لكن هذا الرأي فيه ظلم كبير للمعنى، الذي هو الأساس في أي قصيدة كانت، وهنا يأتي دور المستمعين أو جمهور القصيدة على نحو أدق، ما الذي يريدون سماعه، وهل القصيدة هي عنصر واحد من عناصر المتعة السمعية التي يجب توفرها في الأمسية الشعرية؟

إن كانت المتعة سمعية فحسب، وهذه ليست وظيفة الشعر، فلنجرد الشعر من معناه ونصفّ الكلام بأوزان مدروسة كالأغاني الهابطة ونلقيه في آذان المستمعين، أما إن كانت المتعة مشتركة ما بين الحس والسمع والكيمياء التي تحصل بين الشاعر والحضور فهذا لا يتطلّب أكثر من الشعر والشاعر والحضور النوعيّ المتذوق والمُهيّأ للتحليق في عوالم الشعر السحرية.

عن قصيدة النثر وإن كانت تصلح للإلقاء في الأمسيات الشعرية، يقول الشاعر خالد جمعة: قصيدة النثر أساسًا تكتب من أجل القراءة، ولكن هذا لا يمنع أن تكتب من أجل الاستماع، أما سبب كونها للقراءة، فهو لاعتمادها مفهوم الكتلة، فهي ليست كالشعر المرسل تكتب على سطور حرة النهايات، تستمر الفقرة فيها باستمرار الدفق الشعوري، وتنتهي بانتهائه، وهذا واحد من أسباب أنها تكتب لتقرأ، والسبب الثاني أن بعض قصائد النثر تعتمد التكوين على البياض، بمعنى أنها ليست مفردات فقط، ولكن طريقة كتابة هذه المفردات وتكوينها الجمالي.

لكن هذا لا يمنع أنها قصيدة يمكن أن تقرأ على حضور، تحتاج فقط إلى استخدام جيد للانفعالات الصوتية والتوقفات، وأحيانا حركات الجسد.

للشاعر السوري هاني نديم رأي آخر، فهو يقول إن ثمة شعراء نثر أهم من الشعراء العاموديين على المنبر مثل الشاعر كاظم الحجاج، ويضيف أن قصيدة النثر تصلح للقراءة على المنبر في حال لو كان الشاعر كبيرًا ويعرف أين يقف وكيف يقف وماذا يقرأ.


اذًا، القصيدة موزونة كانت عامودية أو قصيدة نثر ليست هي العنصر الأهم لإنجاج الأمسية الشعرية، وما تمتع به بعض الشعراء فيما مضى من فنون أدائية ومسرحية ومبالغات استعراضية خلال إلقاء القصيدة، ليس هو ما يعجز عنه شعراء هذا الوقت.

لذلك يتبقى البحث في أمر عزوف الحضور عن الأمسيات الشعرية، الذي قد يعود لعدة أسباب تتعلق بتغيّر نمط الحياة ووقعها، وبالكسل الروحي والجسدي الذي تمكّن منهم بعد أن وجدوا البديل الافتراضي لمتابعة تلك الأمسيات عبر قنوات اليوتيوب والبث المباشر لكل شيء ولأي شيء.


المصدر

صونيا خضر

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى