كان عليٌّ بن الجهم؛ شاعراً فصيحاً؛ لكنه كان أعرابياً جِـلـفـاً؛ لا يَعرف من الحياة إلاَّ ما يراهُ في الصحراء، وكان المتوكل خليفة مُتمكناً؛ يُغدى عليه ويُراح بما يشتهي.
دخل علي بن الجهم بغدادَ يوماً؛ فقيل له: إن من مدح الخليفة حُظيَ عنده ولقيَ منه الأعطيات،
فاستبشر عليٌّ ويَمَّم جهة قصر الخلافة، دخل على المتوكل؛ فرأى الشعراء ينشدون ويربحون.
والمتوكل هو المتوكل؛ سطوة وهيبة وجبروتاً.
فانطلق مادحاً الخليفة بقصيدة مطلعها :
أنتَ كالكلبِ في حفاظِك للوُدِِّ *** وكالتَّيْسِ في قِـراعِ الخُطوبِ
أنتَ كالدَّلوِ لا عدِمْتُكَ دلواً *** من كِبارِ الدِّلاَ؛ كَثيرِ الذُّنـوبِ
ومضى يَضربُ للخليفة الأمثلة بالتيس والعنز والبئر والتراب؛
فثار الخليفة، وانتفض الحُراس؛ واستلَّ السياف سيفُـه؛ وفرَشَ النطع؛ وتجهَّزَ للقتل؛
فأدرك الخليفة أن علياًّ بن الجهم قد غلبَتْ عليه طبيعته؛ فأراد أن يُغيرها؛ فأمر له؛ فأسكنوه في قصرٍ ُمنيف؛ تغدُو عليه أجملُ الجواري؛ وتروح بما لذَّ طابَ.
ذاق عليٌّ بن الجهم النعمة؛ واتكأ على الأرائك؛ وجالس أرقَّ الشعراء؛ وأغزل الأدباء؛
ومكث على ذلك سبعة أشهر.
ثم جلس الخليفة مجلس سمر ليلة، فتذكر عليٌّ بن الجهم؛ فسأل عنه، فدعوه له؛ فلما مثل بين يديه؛
قال : أنشِدْنِي يا علي بن الجهم.
فانطلق منشداً قصيدةً مطلعها :
عيونُ المها بين الرُّصافة والجسر **** جَلَبْنَ الهوى مِن حَيثُ أدري ولا أدرِي
أعَدْنَ لي الشوقَ القديمَ ولم أكُن **** سَلَوْتُ ولكن زِدْنَ جَمراً على جَمْرِ
ومضى يُحرك المشاعر بأرقِّ الكلمات؛ ثم شرعَ يَصِفُ الخليفة بالشمس والنجم والسيف ..،
فاندهش الخليفة لحجم التغير الكبير الذي لحق سجية وطِباع عليٍّ بن الجهم.